لاعسف ابدا في القول بأن المفكر والفيلسوف محمد عابد الجابري لم يحتفى به مغربيا ومغاربيا وعالميا كما ينبغي وكما يستحق ذلك، فالاحرى ان تسمى شوارع ومعاهد وجامعات باسمه و تدرس كتبه في الجامعات المغربية لما تحويه من ابداع منهجي و بحث تاصيلي عن التراث والحداثة والديموقراطية وحقوق الانسان…، محمد عابد الجابري ايقونة الفكر الاسلامي وفيلسوف الازمنة المعاصرة بامتياز اعطى للمكتبة الفلسفية العربية والاسلامية كتابات عظيمة وفتح مستغلقات تراثية كانت مستعصية على الفتح بفعل تراكم غبار المحافظة والتحفظ عليها . من الصعوبة بمكان ان اتحدث في مقال متواضع عن شخصية فكرية وسياسية كبيرة اغنت عقولنا و افكارنا بمنهجيات جديدة في تناول التراث الاسلامي وغير التراث الاسلامي ، اذ لا ننسى ان الرجل ابدع في مجالات اخرى وكتب تنظيرات عن الديموقراطية والدين وحقوق الانسان وعن الخطاب العربي المعاصر .. ، لذلك صح القول في انه فيلسوف ومفكر موسوعي له فضل كبير في ابراز عمق الشخصية الفلسفية المغربية والمغاربية كاستمرار تاريخي للنهضة الرشدية والحزمية والخلدونية… التي عرف بها الفكر المغربي. وهدفنا من هذا المقال المتواضع امام شخصية فكرية وعلمية فذة، ليس تقديم طروحاته و افكاره وكتاباته الغزيرة والعميقة وان كان هذا طموحنا الرئيسي في قادم الايام والسنين ان شاء الله ولكن اساسا هو تقديم محمد عابد الجابري بشكل سريع وخاطف والتعريف به لدى الاجيال الجديدة ،كعرفان لما اعطاه الرجل من اسهامات وافكار متميزة تستحق منا كاجيال جديدة، ان نستلهم منها الروح و الارادة لمواصلة درب النضال الفكري والسياسي والعملي من اجل الحفاظ على التميز المغربي والمغاربي فلسفيا وفكريا.
من يكون محمد عابد الجابري؟ :
في فبراير من سنة 1997 اصدر المفكر الراحل محمد عابد الجابري كتابا بعنوان حفريات الذاكرة والعنوان مستوحى ربما من كتاب ميشيل فوكو حفريات المعرفة ، نظرا لتأثر الرجل بكتابات المفكر والفيلسوف الفرنسي فوكو، يحيلنا الكتاب المذكور منذ الوهلة الاولى على سيرة ذاتية للرجل ومن بعيد كما يريد يركز الكاتب دائما حين يذكره و لكن في مراحل سنه المبكرة وللاسف الشديد لم نستطع الاطلاع على باقي الفترات العمرية المروية بقلم محمد عابد الجابري وان كانت الكتابات التي نشرت في كتاب الجيب –مواقف- قد حاولت سد الفجوة و تضمنت مذكرات سياسية وحياتية للراحل الجابري بعد استقلال المغرب الى غاية نهاية التسعينات وبداية الالفية الجديدة وتناولت احداثا سياسية وثقافية وفكرية واجتماعية عاشها الرجل بالمغرب مباشرة كفاعل سياسي في القوات الشعبية او بطريقة غير مباشرة . يقول مفكرنا في كتابه حفريات المعرفة الطبعة الاولى 1997ما يلي : ” تقع مدينة فجيج ،مسقط راس صاحبنا ، في الجنوب الشرقي من المغرب ، على خط الحدود الذي اقامه الفرنسيون بين المغرب والجزائر في اوائل هذا القرن….وعلى اسفل هضبة فجيج يقع قصر زناكة(بالامازيغية:ازناين) على السهول الممتدة الى الجزائر، وهو اكبر القصور جميعا وربما يعدلها مساحة وسكانا واهله يعتبرون انفسهم “المركز” والباقي ” اطراف” …في هذا القصر زناكة ، ولد صاحبنا وفيه نشأ نشأته الاولى…وكان قد ولد صباح يوم عيد الفطر من سنة 1354 هجرية حسب ما وجده مقيدا في دفتر من دفاتر جده لامه ، وذلك يوافق يوم 27 ديسمبر 1935 ، وقد سجله والده فيما بعد بدفتر الحالة المدنية ضمن مواليد 1936)…وعند انتهاء السنة الدراسية التي قضاها صاحبنا في السنة الاولى الاعدادية بمدرسة التهذيب بوجدة (1950-1951) كانت مدرسة النهضة المحمدية بفجيج قد اثمرت فوجها الثاني من حملة الشهادة الابتدائية .وبما انه كان من المتعذر جدا فتح سلك اعدادي فيها لعدم وجود اساتذة فقد بات المتخرجون منها الحاملون للشهادة الابتدائية مهددين بالضياع والعودة الى الامية، الشىء الذي يهدد مستقبل الدراسة نفسها…ان كاتب السطور(الجابري) لايعرف بالضبط كيف تبلورت فكرة ارسال التلاميذ المتخرجين من مدرسة النهضة المحمدية بفجيج الحاملين للشهادة الابتدائية ، الى الدار البيضاء لمتابعة دراستهم الثانوية فيها …ومهما يكن فقد التحق صاحبنا بالدارالبيضاء ليجد مجموعة من رفاقه القدامى في مدرسة النهضة المحمدية من جيله والجيل الذي جاء بعده يدرسون في ثانوية عبد الكريم الحلو …لنعد اذن الى البكالوريا التي اجتاز صاحبنا امتحانها بنجاح في يونيو 1957 .وكانت تلك هي المرة الاولى التي تعقد فيها دورة للبكالوريا المغربية المعربة بصورة رسمية ، وقد تراس لجنتها الشهيد المهدي بن بركة الذي قرأ اسماء الناجحين بنفسه في بهو بناية المعهد العلمي (كلية العلوم حاليا) ..قضى صاحبنا صيف ذلك العام-عام 1957 – وهي السنة الثاني لاستقلال المغرب ،قضاه في جريدة “العلم” حيث اشتغل اولا في قسم الترجمة لينتقل بعد ذلك الى قسم المراسلات الداخلية..وبدون صعوبة وفي اسرع وقت حصل صاحبنا على جواز سفر وعلى منحة، وكانت المنح معممة على حاملي شهادة البكالوريا ، كما حصل ايضا على ورقة مراسل لجريدة العلم…هنا نقف بعملية “الحفر في الذاكرة” ،ذاكرة الطفولة والمراهقة واوائل الشباب ..نصوص تنقل للقارئ حديثه مع نفسه عن “القضايا الكبرى” التي كان عليه ان يقرر فيها، خلال السنوات الثلاث التالية(1959-1961) التي انتهت بحصوله على الاجازة في الفلسفة وبزواجه بأم اولاده ورفيقة دربه.”
اعطى موقع الجزيرة نت نبذة عن الراحل الدكتور محمد عابد الجابري يوما بعد وفاته ذات يوم من ماي سنة 2010 وهي كالاتي :
ولد محمد عابد الجابري نهاية عام 1935 في مدينة فكيك شرقي المغرب، وارتقى في مسالك التعليم في بلده، حيث قضى فيه 45 سنة مدرسا ثم ناظر ثانوية ثم مراقبا وموجها تربويا لأساتذة الفلسفة في التعليم الثانوي، ثم أستاذا لمادة الفلسفة في الجامعة.
حصل عام 1967 على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة، ثم دكتوراه الدولة في الفلسفة عام 1970 من كلية الآداب التابعة لجامعة محمد الخامس بالرباط، وعمل أستاذا للفلسفة والفكر العربي والإسلامي بالكلية نفسها.
انخرط الجابري في خلايا المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي للمغرب بداية الخمسينيات من القرن الماضي, وبعد استقلال البلاد اعتقل عام 1963 مع عدد من قيادات حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، كما اعتقل مرة ثانية عام 1965 مع مجموعة من رجال التعليم إثر اضطرابات عرفها المغرب في تلك السنة.
كما كان قياديا بارزا في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية فترة طويلة، قبل أن يقدم استقالته من المسؤوليات الحزبية في أبريل/نيسان 1981، ويعتزل العمل السياسي ليتفرغ للإنتاج الفكري.
وكان له أيضا نشاط في المجال الإعلامي، حيث اشتغل في جريدة “العلم” ثم جريدة “المحرر”، وساهم في إصدار مجلة “أقلام”، وكذا أسبوعية “فلسطين” التي صدرت عام 1968.
جوائز حصل عليها:
– جائزة بغداد للثقافة العربية، اليونسكو، يونيو/حزيران 1988.
– الجائزة المغاربية للثقافة، مايو/أيار 1999.
– جائزة الدراسات الفكرية في العالم العربي، نوفمبر/تشرين الثاني 2005.
– جائزة الرواد، مؤسسة الفكر العربي، ديسمبر/كانون الأول 2005.
– ميدالية ابن سينا من اليونسكو بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، نوفمبر/تشرين الثاني 2006.
– جائزة ابن رشد للفكر الحر، أكتوبر/تشرين الأول 2008.
من مؤلفاته:
– العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، وهو نص أطروحته لنيل الدكتوراه.
– أضواء على مشكل التعليم بالمغرب.
– مدخل إلى فلسفة العلوم (جزآن).
– من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية .
– نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي.
– الخطاب العربي المعاصر: دراسة تحليلية نقدية.
– تكوين العقل العربي
– بنية العقل العربي
– السياسات التعليمية في المغرب العربي.
– إشكاليات الفكر العربي المعاصر.
– المغرب المعاصر: الخصوصية والهوية.. الحداثة والتنمية.
– العقل السياسي العربي.
– حوار المغرب والمشرق: حوار مع د. حسن حنفي.
– التراث والحداثة: دراسات ومـناقشات.
– مقدمة لنقد العقل العربي.
– المسألة الثقافية.
– المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية، محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد.
– مسألة الهوية: العروبة والإسلام… والغرب.
– الدين والدولة وتطبيق الشريعة.
– المشروع النهضوي العربي.
– الديمقراطية وحقوق الإنسان.
– قضايا في الفكر المعاصر (العولمة، صراع الحضارات، العودة إلى الأخلاق، التسامح، الديمقراطية ونظام القيم، الفلسفة والمدينة).
– التنمية البشرية والخصوصية السوسيوثقافية: العالم العربي نموذجا.
– وجهة نظر: نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر.
– حفريات في الذاكرة، من بعيد (سيرة ذاتية من الصبا إلى سن العشرين).
– الإشراف على نشر جديد لأعمال ابن رشد الأصيلة مع مداخل ومقدمات تحليلية وشروح.
– ابن رشد: سيرة وفكر 1998.
– العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية.
– سلسلة مواقف (سلسلة كتب في حجم كتاب الجيب).
– في نقد الحاجة إلى الإصلاح.
– مدخل إلى القرآن.
– فهم القرآن: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول.
المصدر : الجزيرة + وكالات
فكر الرجل ومواقفه انطلاقا من بعض كتاباته:
من الصعوبة بمكان ان يتم الاحاطة بجميع الافكار والاطاريح المبثوثة في مقالات وكتب الراحل محمد عابد الجابري ، وكذا الكتابات النقدية والاطروحات العلمية التي تناولت مشروع الجابري نقدا وتمحيصا وان كانت محاولة المفكر السوري الراحل جورج طرابيشي الابرز من بين المساهمات النقدية التي تناولت نقدا ونقضا مشروع الجابري كما ان الدكتور الطيب التيزيني كان له كذلك كتاب نقدي للدكتور الجابري انتقد فيه ما سماه التيزيني بالاستغراب المغربي ، كما ان هناك من الباحثين والمفكرين من انتقد انتقال الدكتور الجابري من الفكر القومي العروبي الى الفكر الليبرالي انتهاء بمغازلة و التماهي مع الفكر الاسلامي في كتاباته الاخيرة وهذا موضوع يطول فيه الحديث ، فالفيلسوف الجابري صاحب مشروع كبير ابتدأ مع كتاب نحن والتراث و لم ينته حتما بكتاب العقل الاخلاقي العربي ، ففي طيلة هذه المسيرة العلمية والفكرية التنقيبية الحفرية عن الحقيقة والمعنى بلغة -علي حرب- حاول الراحل الجابري تأصيل مفاهيم غربية في تراثنا وتبيئتها ( كالعقل المكون والمكون باللغة اللالاندية…) بعد مناقشة وتحليل اصولها وابدع مفاهيم نظرية لتناول التراث الاسلامي كالعرفان و البرهان و البيان وقدم افكارا متميزة ومختلفة عن العلمانية والديموقراطية وحقوق الانسان( وان كان الجابري يرفض العلمنة في العالم الاسلامي ويعتبر العقلانية بدل العلمانية تفي بالغرض) ، لكن الاسهام الحقيقي في نظري المتواضع للدكتور الجابري هو اعادة احياء الرشدية الفكرية والسياسية في بلادنا وفي المنطقة الاسلامية بعدما تم هجر فكر ابن رشد لفائدة الغزالي وابن سينا لمدد طويلة مغربا ومشرقا لاسباب يطول ذكرها ، فالجابري استطاع ان يضع الفكر الرشدي ولو بطريقة تقابلية او كما سماه المفكر السوري الالمعي الطيب التيزيني بالاستغراب المغربي ، على جدول اعمال الفكر السياسي والفلسفي المغربي والمغاربي في بنوده الاولى وهذا لعمري انجاز كبير . يقول الدكتور محمد عابد الجابري في مقدمة كتابه بنية العقل العربي –الطبعة الثالثة1993- “لنختم اذن بالتذكير بأننا قد انتهينا من دراستنا لمكونات العقل العربي ، داخل الثقافة العربية، الى التمييز بين ثلاثة نظم معرفية يؤسس كل منها الية خاصة في انتاج المعرفة وما يرتبط بها من مفاهيم وينتج عنها من رؤى خاصة كذلك. والخطوات التالية التي تنتظرنا هي تحليل هذه النظم المعرفية الثلاثة (البيان والعرفان والبرهان)وفحص الياتها ومفاهيمها ورؤاها وعلاقة بعضها ببعض مما يشكل البنية الداخلية للعقل العربي كما تكون في عصر التدوين وكما استمر الى اليوم.” في هذا التذكير يوضح لنا الجابري اسس فكره ومنهجيته ومفاهيمه الثلاثة المذكورة سلفا وان كان التساؤل المطروح دائما هل هي مفاهيم جابرية خالصة ام استعارة من مفكرين اخرين لم يذكر اسمائهم كما يؤاخذ عليه ذلك بعض المفكرين الاخرين ؟ اليس التقسيم الثلاثي بين البيان والعرفان والبرهان مفاهيم سبق ان استعملها وابدعها المفكر المصري الموسوعي احمد امين ؟.
وساهم الجابري بحق في تطوير الممارسة السياسية والنظرية في الحقل المغربي حيث ساهم كمثقف عضوي بلغة غرامشي في توجيه حزبه السياسي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وساهم الى حد كبير في توجيه بوصلته السياسية والنظرية( نهاية السبعينات وبداية التمانينات قبل ان يجمد نشاطه الحزبي وان كانت علاقته مع قادة الاتحاد الاشتراكي متواصلة وقوية ومتينة) ، لذلك يمكن القول بدون مجازفة عندما انهارت البنية الفكرية والنظرية لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية برحيل او مغادرة عدد من اطره الفكرية والمرجعية كالجابري وكسوس ولحبابي ووو انهار الحزب تدريجيا حتى قرب من الاضمحلال والتفسخ والتيهان النظري والسياسي الذي يكابده اليوم للاسف الشديد ، لذلك حاول الجابري تسليط الضوء على مجموعة من القضايا التي عاشها في الحزب وفي الاعلام الحزبي وضمنها في عدد من مقالاته وكتبه الصغيرة ، يقول محمد عابد الجابري في سلسلة مواقف العدد 1 ص 34 :”لقد حركني الى كتابة هذه المذكرات ، عندما اعلنت عن النية في كتابتها قبل بضع سنين ، الرغبة في المساهمة في كتابة تاريخ العمل الوطني والنضال التحرري الديموقراطي في هذا الوطن ، خصوصا عندما لاحظت حاجة الجيل الصاعد الى معرفة تفاصيل عن المسار التاريخي الحديث الذي خرج من جوفه الحاضر الذي يعيشونه والذي سيبقى يؤثر في مستقبلهم لفترة غير قصيرة من الزمن….استطيع ان ادعي بصدق ان هذا المعنى ، الذي جعل “الاشتغال بالسياسة” مرادفا للعمل الوطني ، هو الذي بقي يحكم سلوكي السياسي الى اليوم .لقد حدث هذا الامتزاج بين السياسة والوطنية في نفسي منذ طفولتي الاولى …لم يكن معنى “الحزب” واضحا في اذهاننا ،بل كان هو والعمل الوطني شيءا واحدا .فالشخص كان يوصف بانه “حزبي” ، لابمعنى انه متحزب لجماعة وطنية ضد اخرى ، بل بمعنى انه منخرط في العمل الوطني من اجل الاستقلال. هذا الامتزاج بل الاندماج بين الوطنية والسياسة في وعيي هو مايفسر في نظري على الاقل-جوانب كثيرة من سلوكي الحزبي ومواقفي السياسية ، وبدون تواضع زائف استطيع ان اؤكد انني اقبل من نفسي الخطأ وجميع انواع الضعف البشري في الميدان السياسي وغيره، ولكنني لا اتصور اني استطيع ان اسلك أي سلوك انتهازي كيفما كان .وحتى ما يعبر عنه ب “انتهاز الفرص” ، وهو شئ وارد في مجال السياسة ومقبول في نظر الكثيرين، فهو عندي شئ مستبعد تماما.”
هذه المقتطفات من كتاب مواقف العدد الاول توضح الفكر السياسي للراحل الجابري المتسم بالاخلاق السياسية الرفيعة والالتزام النضالي والوطني الصادق اتجاه قضايا الوطن ، وكل معارف الراحل الجابري يجمعون على دماثة اخلاقه وحسن سلوكه وتواضعه وهذه قيم بدأنا للاسف الشديد نفتقدها في الممارسة السياسية والحزبية اليوم بيسارها ويمينها ، غابت الاخلاق السياسية و سيطرة النزعة الانتفاعية والتضليلية والشعارتية على برامج و قيادات احزابنا السياسية وهذا ما يفسر الى حد كبير العزوف السياسي والهجرة الجماعية للجماهير وللنخب اتجاه العزلة والانغلاق والترفع عن قضايا المجتمع.
ما يلهمني شخصيا اكثر في كتابات الدكتور الجابري هو دفاعه المستميت عن الافكار الحرة في التاريخ وعن حقوق الانسان والديموقراطية في زمن كان *ومايزال *فيه للكلمة الحرة كلفة باهضة ، فقد خصص الراحل الجابري في سلسلة رمضانية منشورة على صدر جريدة الاتحاد الاشتراكي سنة 1995 مقالات مهمة حول “محن العلماء” في الاسلام ودافع عن افكارهم التنويرية بكل اقتدار ، ففي مقال له-على سبيل النموذج- حول محنة ابن حنبل يقول :”واذا نحن رجعنا الى تاريخ محن العلماء في الاسلام فاننا سنجدها ذات اسباب سياسية في الاغلب الاعم منها .فليس هناك في الاسلام من العلماء من تعرض للاضطهاد والمحنة من طرف الحكام دون ان يكون لذلك سبب سياسي ، والغالب ما يكون ذلك السبب فتوى او موقف عملي اتخذه العالم ضد الحاكم ، في اطار “الامر بالمعروف والنهي عن المنكر”او في اطار مجرد النقد الذي يعبر عن رأي مخالف.باستثناء المحنتين اللتين سنتناولهما بشئ من التفصيل ، محنة ابن حنبل ومحنة ابن رشد ، فان الاسباب السياسية التي تعرض بسببها العلماء في الاسلام لما تعرضوا له من محن كانت معروفة ومعلنة تحمل معها معقوليتها السياسية ، ومنها ما كانت تهما مباشرة وصريحة في مضمونها السياسي ، كالامتناع عن البيعة او رفض الافتاء بما يريده الحاكم ….ان فهم المحنتين، محنة ابن حنبل ومحنة ابن رشد فهما يحمل معه معقوليته سيمكننا من تعميق فهمنا لما يجري في عصرنا .وفي عالمنا العربي والاسلامي من صراع بين الدولة ورجالها وبين ما يعرف في خطابنا المعاصر بالأصوليين او “الإسلاميين المتشددين”.
لقد افتقدت الساحة الفكرية المغربية مفكرا عضويا من طينة الجابري يقول ما يقتنع به بدون خوف ولا وجل وبالكلمة الهادئة المتنورة ، لذلك ما احوجنا الى مفكرين متنورين من امثاله التزاما واخلاقا يقولون للحاكم احسنت حين يحسن و اخطأت حين يخطئ ، فبلادنا تعج بقضايا سياسية حارقة اليوم ولكن لم نسمع راي المثقفين والمفكرين ، حتى نخال في بعض الاحيان انعدامهم ، فما سمعنا راي العديد من المثقفين المغاربة عن احداث الريف وعن قضايا عديدة تشغل بال الراي العام الوطني ؟؟، فهل هي بداية نهاية المثقف الرسولي –المغربي- بلغة فيصل دراج؟
في مقال متميز و لا اكون مبالغا اذا قلت انه مؤسس للفكر السياسي المغربي اتجاه قضية التطرف “الاسلامي ” والموقف العقلاني منه ، كتب الدكتور محمد عابد الجابري مقالا رمضانيا سنة 1993 على صدر جريدة الاتحاد الاشتراكي –الجريدة التي كانت سابقا منارة فكرية وادبية قائمة الذات- بعنوان ظاهرة التطرف..الاسباب والعلاج ، لنقرأ العمق الفكري للرجل انطلاقا من هذا المقال :”وواضح اننا هنا لا نتحدث عن التطرف عندما يكون في مستوى حجمه الطبيعي ،على هامش من هوامش الحياة الاجتماعية والفكرية،وانما نتحدث عن التطرف في حال تحوله الى مركز استقطاب ، الى ظاهرة تتجه نحو الهيمنة العامة مما تكون نتيجته قيام ردود افعال متطرفة مضادة فيتحول المجتمع الى مسرح للعراك بين الاطراف المتطرفة سواء كانت تنتمي جميعا الى المجتمع المدني او كان بعضها منه وبعضها الاخر من المجتمع السياسي(الدولة).ففي مثل هذا الحال يتعين التعامل مع التطرف كظاهرة مرضية تستشري وتهدد بالتحول سريعا الى نوع من التدمير الذاتي .وليس هناك غير المعالجة العقلانية وسيلة لتلافي الانزلاق نحو المصير المفجع .ذلك لان التطرف في جميع الاحوال هو عمل اللاعقل،فاذا تمت مواجهته ب “عقل مستقيل”مضاد كان المصير كارثة محققة.”
افكار هذا المقال تفيدنا للاستدلال على العمق الفكري للدكتور الجابري من جهة وعلى اعتدال مواقفه وتوازنها عكس الاطراف الايديولوجية الاخرى التي لا تفوت اية فرصة لتصفية الحسابات السياسية بين الفرقاء السياسيين متعمدة الخلط الاديولوجي الممنهج بين التطرف الاسلامي والدين الاسلامي فالحكمة العلمية والنظرة الموضوعية لمحمد عابد الجابري غلبت تموقعه السياسي والايديولوجي وجعل موقفه من التطرف موضوعيا وعقلانيا اذ كان من الممكن ان يصفي حساباته وهو الاشتراكي الاصيل مع تيارات الاسلام السياسي كما يفعل العديد من غلاة اليسار و ، لكن الفكر العلمي والموضوعية التي يتحلى بهما الرجل جعل للتطرف اسبابا عميقة مترابطة يعتبر الايديولوجي والديني عنصرا من بين العناصر فقط لا السبب الواحد والاوحد . يقول الدكتور محمد عابد الجابري في خاتمة مقاله حول التطرف (المنشور بجريدة الاتحاد الاشتراكي يوم 19 مارس 1993 ص 2) ما يلي : “وبعد ، فالتطرف ظاهرة مرضية ، وكجميع الامراض فان العلاج الانجع والاضمن هو الوقاية .وشروط الوقاية من التطرف ثلاثة : تصحيح الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، التعامل العقلاني المبني على الفهم والتفهم ووضع الامور امام مراة التاريخ ، واشاعة الفكر النقدي في الثقافة والتعليم .اما غير ذلك من وسائل المواجهة السلبية فهي لا تنتج غير المزيد من التطرف.ان التطرف المضاد يسقي التطرف ويقويه ، وهيهات ان يقضي عليه.
في سبيل الختم :
وفاة محمد عابد الجابري خسارة فكرية وسياسية للمغرب المعاصر ، حيث ان عطائه الفكري والنظري بمثاية منهاج قويم في تقويم اعوجاجات النظرة التراثية للتراث و تمثيل بارز للمدرسة العقلانية الحفرية المعاصرة لكل قضايانا السياسية والنظرية ، فإذا كان من حق فرنسا ان تحتفي بعقولها و مفكريها مثل التوسير و سارتر و فوكو وبورديو و غيرهم كثير وكان للالمان ما يفتخرون به من مفكرين عظام كهيكل و مارس وفيورباخ …، فان المغرب مطالب بالاحتفاء بمفكريه و نشر ابداعاتهم الفكرية والنظرية و برمجة اطاريحهم في الجامعات والمعاهد و التعريف بافكارهم وتكريمهم التكريم الذي يليق بهم كمفكرين ومثقفين اعطوا للفكر السياسي المغربي اسهامات خالدة في الزمان . من المعيب جدا ومن المخجل ان تمر ذكرى وفيات محمد عابد الجابري و الاخرين من المبدعين محمد كسوس وعزيز الحبابي و عبد الكبير الخطيبي و ادريس بنعلي و محمد شكري و اللائحة طويلة دون ان يقف اعلامنا و سياسيينا “التقدميين ” و”المتنورين” وقفة تليق بقامات فكرية اعطت الشئ الكثير لادبنا وفكرنا و ان يطالبوا بمبادرات سياسية وثقافية لنشر افكار هؤلاء الرواد وتقديم انتاجاتهم في اعمال تلفزيونية ومسرحية وتثقيفية هامة تخلصنا من برامج الرداءة التي تملأ الدنيا الاعلامية ببلادنا ضجيجا. قد نختلف مع الجابري وامثاله في قضايا ومواقف مثل التعدد الثقافي والامازيغي ببلادنا وتحمسه الكبير للتعريب والعروبة ومطالبته بالاحادية اللغوية والهوياتية و المطالبة باماتة اللهجات .. –ربما بفعل السياق السياسي الاقليمي والدولي التي انتج مواقفه- لكن يبقى الرجل مفكر نادر اخلاقا وتواضعا وعلما ، و معلمة مغربية مغاربية اسلامية جامعة تستحق منا العمل على استكمال اوراشه المفتوحة من قبيل دراسات في القران الكريم وغيرها من الاوراش التجديدية والتنويرية التي كان سبقا في التطرق اليها بجدارة واستحقاق ، لذلك اتمنى ان تفتح دراساته امامنا حقول جديدة لكتابة تراثنا وتاريخنا قراءة علمية معمقة بطريقة تتبنى الحداثة العقلية في اعلى ذراها واكثرها تقدما وتفتحا .اتمنى ان يؤدي الاهتمام بالدراسات الجابرية الى تجديد علاقة المسلمين بتراثهم وعقائدهم لتنحل مشاكل عالقة منذ ازمان طويلة ، كل ذلك لتنمحي الظلمات المعتمة عن سطح واقعنا و تاريخنا وتنفتح امام اعيننا الافاق العلمية والفكرية الرحبة. لان انتظار نهضتنا طال بنفس امتداد انتظاريتنا و استمرار نكساتنا وتواصل انهيارنا المديد بلغة المفكر والصحفي الكبير حازم صاغية . اختتم مقالتي هاته بمطلع قصيدة خاطب بها ابن خلدون السلطان اباسالم عند وصول هدية ملك السودان اليه . ( من كتاب فكر ابن خلدون العصبية والدولة -محمد عابد الجابري ص 49)
اوريت زند العزم في طلبي وقضيت حق المجد من قصدي
ووردت عن ظمأ مناهله فرويت من عز ومن رفد
انغير بوبكر
*المنسق الوطني للعصبة الامازيغية لحقوق الانسان
*خريج السلك العالي للمدرسة الوطنية للادارة الرباط
*خريج المدرسة المواطنة للدراسات السياسية ستراسبورغ
دبلوم المعهد الدولي لحقوق الانسان ستراسبورغ
باحث في قضايا التنمية والتعدد الثقافي وحقوق الانسان
[email protected]