تبقى المشكلة في العراق، وإلى وقت من الصعب تقديره، فقد يكون أطول بكثير مما نتمنى، وقد يكون أقصر بكثير مما نخشى؛ أقول تبقى المشكلة في كون أحزابنا ما زالت على الأعم الأغلب أحزابا شيعية وأحزابا سنية، وإن كانت هناك محاولات مازالت إما مدعاة ظاهرا، وإما محدودة ومتواضعة، للخروج من الخندقين الطائفيين الشيعي والسني؛ لما تبلغ بعد الحد الأدنى المطلوب نحو تحقيق هدف استبدال أحزاب المكونات (الطوائف والأعراق) إلى أحزاب سياسية، لكل منها فكرها السياسي واتجاهها السياسي وبرنامجها السياسي أو أولوياتها، ولكن تجتمع على التمسك بدولة المواطنة لا دولة المكونات.
ونتيجة هذا الواقع سمعنا عبر الدورات الانتخابية الثلاث الماضية، مصطلحات تتفاوت من حيث مفردات اللغة ولكنها بمضمون واحد، مثل «حكومة توافق وطني»، «حكومة وحدة وطنية»، وإلى غير ذلك، كتعبير بديل للواقع الممارس، ألا هو «حكومات محاصصة طائفية وعرقية وحزبية». قبل الانتخابات الأخيرة وبعد ظهور نتائجها نجد أمامنا أيضا مجموعة مصطلحات، منها «حكومة الأغلبية السياسية» التي تمثل (نظرية) المالكي في الحكم (الرشيد)، و«حكومة الأغلبية الوطنية» التي تمثل (نظرية) الحكيم، و«الحكومة التوافقية» التي تمثل (نظرية) النجيفي، و«الحكومة الأبوية» التي تمثل (نظرية) الصدر، وأخيرا ولعله ليس آخرا «حكومة التكنوقراط العابرة للطوائف» التي تمثل (نظرية) العبادي، ثم أضيفت إليها (نظرية) الاتحاد الوطني الكردستاني وهي «حكومة تمثل الجميع لا إقصاء ولا تهميش فيها».
ما كنا سنحتاج إلى كل هذه التسميات، والتلاعب باللغة، وما كنا سنحتاج إلى كل هذه (النظريات) و(الفلسفات) في طريقة الحكم، لو كانت أحزابنا أحزابا سياسية، وليست أحزاب طوائف، كما كان عليه الأمر في العهد الملكي (1921 – 1958)، سواء منها الأحزاب المجازة آنذاك، أو أحزاب المعارضة المحظورة، وكذلك كما كان عليه الأمر في عهد الجمهورية الأولى (1958 – 1963). فالأحزاب السياسية لا تكون عادة أحزابا للشيعة أو للسنة، بل هي أحزاب اتجاهات سياسية، لا تتعدى الخمسة وأقصاها العشرة، فيكون هناك على سبيل المثال 1) حزب يساري ديمقراطي، و2) حزب يساري وسطي أو حزب ديمقراطي اجتماعي، و3) حزب ليبرالي اجتماعي، و4) حزب ليبرالي يميني ديمقراطي، و5) حزب وطني وسطي، و6) حزب محافظ لكن ليس دينيا.
وسبق وأشرت إلى أن هذه الأحزاب التي نعتُّها هنا بالمتطوئفة، أي المتخندقة طائفيا، بل حتى المتخندقة عرقيا، يفترض أن تكون بقرار من المحكمة الاتحادية محظورة، لأنها تناقض مادة قانونية في قانون الأحزاب تلزم الأحزاب السياسية أن تقوم على أساس المواطنة حصرا، حيث ورد في (أولا) من المادة (5): «يؤسس الحزب او التنظيم السياسي على أساس المواطنة»، وبالتالي فكل من اليساري، أو الليبرالي، أو الوسطي، أو المحافظ، يمكن أن يكون شيعيا أو سنيا أو مسيحيا أو إيزيديا أو مندائيا أو إيزيديا أو بهائيا أو مؤمنا لادينيا أو ملحدا أو لاأدريا أو يهوديا أو زرادشتيا، كما يمكن أن يكون عربيا أو كرديا أو تركمانيا أو آشوريا، كما يمكن أن يكون فيليا أو شبكيا أو كاكائيا أو من جذور أفريقية أو غجريا.
وعندها يكون كل نائب ممثلا لكل الشعب، ومدافعا ليس عن مكونه، بل عن حقوق ومصالح كل المكونات، حتى مع افتراض إن أحد المكونات لا يكون في دورة برلمانية ممثَّلا في مجلس النواب. فهل يجب أن يكون نائب فقير في مجلس النواب، ليدافع عن حقوق واحتياجات الفقراء؟ وهل يجب أن يكون نائب من ذوي الاحتياجات الخاصة في مجلس النواب، ليدافع عن حقوق واحتياجات هذه الشريحة من المجتمع؟ ثم إن الأطفال في كل الأحوال غير ممثلين في مجلس النواب، أفليس من واجب البرلمان تشريع القوانين التي تكفل رعاية وحماية الطفولة؟
مشكلتنا إذن في طوأفة الأحزاب، وفي تسييس الدين وأدينة السياسة، بينما المطلوب أنسنة وعقلنة السياسة والخطاب السياسي والأداء السياسي والأحزاب السياسية، والمطلوب جعل السياسة والأداء السياسي متصفين بالنزاهة والكفاءة والموضوعية والوطنية والمنهجية العلمية، ولا معنى أبدا لوجود سياسة شيعية وأخرى سنية، فهذا كفر بالسياسة والديمقراطية والمواطنة والعقلانية.
عندها لا نحتاج إلى الخروج بفلسفات ونظريات حول الحكم وشكل الحكومة، من حكومة أغلبية سياسية، أو أغلبية وطنية، أو توافقية أو لاإقصائية، أو ماشابه وما شاكل، من مصطلحات ما أنزلت بها الديمقراطية من سلطان.