من المتعارف عليه ، عندما يرغب الشخص ببناء دار له ليعيش فيه هو وأفراد عائلته بشكل مريح وأمين وتتوفر فيه كل مستلزمات العيش الكريم ، عليه قبل كل شيئ ان يهيئ بداية الارضيّة الصحيحة لوضع أسس قوية تتحمل هيكل البناء وملحقاته. فإذا كانت التربة رخوة او تحتوي على صخور وأحجار او أنقاض قديمة او فيها من حشرة الأرضة وما شابه ، فان بناء الأسس على مثل هذه القطعة من الارض ستكون غير مناسبة لهذه العائلة ، بل كارثة لها . لانه بالإمكان بناء الأسس ومن ثم هيكل البناء على هذه الارض كما هي دون تنظيف او معالجة ، وحتى بالإمكان وضع الديكورات الجميلة والالوان الزاهية لهذا البيت ويصبح البيت مؤهل شكليا للعيش فيه من قبل هذا الشخص وعائلته . ولكن بعد فترة قد تقل او تطول نسبيا سوف تظهر مشاكل وعيوب هذا البيت من تشققات وتصدعات ، حتى انه يصعب او يستحيل بناء طابق اخر فوق البيت لاستيعاب زيادة أفراد العائلة وقد ينهار البيت على أصحابه وستكون كارثة بمعنى الكلمة. بينما لو تم منذ البداية تنظيف قطعة الارض من كل الانقاض وإخراج كل النفايات من تحتها وتسويتها بشكل صحيح ومكافحة حشرة الأرضة وما الى ذلك فسيكون أساس البيت وهيكله قويا ويتحمل بناء طوابق عديدة ليستوعب توسع أفراد العائلة .
وهنا لا يختلف بناء الدولة وهيكلها أبدا عن بناء البيت كما ورد أعلاه. فبناء دولة متقدمة قوية وعصرية ومتحضرة بمجتمعها يتطلب تهيئة الارضيّة الصحيحة لهذا البناء لكي يتحقق التقدم والرفاه الاجتماعي والعدالة الاجتماعية مع ضمان المستقبل للاجيال القادمة. فبدون تنظيف الارضيّة بالشكل الصحيح لبناء الدولة العصرية من خلال القوانين الفاعلة والتشريعات الصحيحة والقرارات الجريئة يصبح بناء دولة عصرية من الأمور شبه المستحيلة ، وتبقى الدولة عبارة عن دولة شعارات وكلمات .
لا أعلم كيف يمكن بناء مثل هذه الدولة وفيها مجتمع نسبة كبيرة منهم غير متعلم او غير متحضر،،،،، ولا أعلم كيف يمكن الوصول الى مثل هذه الدولة العصرية بوجود نظام عشائري بطبيعته متخلف ومتوغل بشكل واضح بشؤؤن الدولة سواء من النواحي الأمنية او القضائية وحتى القضايا الاجتماعية . فهي تمثل دويلات صغيرة داخل الدولة الام لها قوانينها وتشريعاتها ولها مسلحيها وقياداتها التي يخضع لها مجتمع تلك الدويلات ،،،،،، كذلك لا اعلم كيف يمكن بناء دولة فيها احزاب لديها اجنحة مسلحة باسلحة مختلفة وتخوض مثل هذه الأحزاب انتخابات في ظل نظام يطلق عليه نظام ديموقراطي كما يبدو . وهل يعقل إمكانية بناء هذه الدولة بوجود مجموعات او هيئات مسلحة بالاعداد والأسلحة التي قد لا تمتلكها بعض الدول الصغيرة بحيث تمثل قوة مسلحة موازية للجيش النظامي للدولة مع الإشارة الى ان هذه المجموعات لها اساليبها وأجندتها ويمكنها التصرف بمعزل عن قوانين وتشريعات الدولة متى ارادت ،،،،،، كذلك يستحيل تصور بناء دولة مدنية وعصرية تحت ظل مبادئ وقيم ومعتقدات دينية معينة ، فتوغل رجال الدين في السياسة يعيق تماماً بناء الدولة وفق الأسس الصحيحة حيث من الواضح جدا ان تأثير رجال الدين والمعتقدات الدينية لا وجود لها الا ضمن فئات المجتمع غير المتحضر بشكل عام . اضافة الى ان زج الدين بالسياسة سيظهر بالتأكيد تناقضات تلك المعتقدات .
كذلك لا أعلم كيف يمكن بناء تلك الدولة ومعظم نخبها السياسية لديهم ثقافة غريبة وفي كل المواقع حيث يعتبرون أن الموقع الوظيفي مكسب لتحقيق المنافع المادية والذاتية وليس باعتباره مسوؤلية حقيقية كبيرة يترتب عليها مترتبات عديدة عند الاخفاق في الواجبات.
كما من الصعوبة تصور قيام مثل تلك الدولة بوجود فئات عديدة من المجتمع زرعت في عقولهم ممارسات وأفكار غبية وغيبية تتقاطع مع كل جوانب التقدم العلمي والحضاري ، خَصوصا اذا امتدت مثل هذه الممارسات الى الجيل الناشئ . اي ان المستقبل سيكون امتداد للحاضر .
ولا أعلم كذلك كيف ستبنى دولة متقدمة عصرية تأصلت فيها بعض المشاكل الاساسية مع غياب الرغبة الحقيقية لمعالجتها مثل مشاكل الفساد الاداري والمستوى المنخفض والمستمر في معظم الخدمات الاساسية .
خلاصة القول ، لا يمكن تصور ، بل يستحيل ، بناء دولة حقيقية مدنية عصرية متقدمة دون المباشرة فعلا بمعالجة جميع الأمور التي ذكرت أعلاه دفعة واحدة لكونها قضايا مترابطة في سلة واحدة لا يمكن تأجيل بعضها . وإلا ستبقى فصول المسرحية كما هي حتى بتغير ممثليها اوبطلها او بتجميلها ببعض النصوص مادام المؤلف والمنتج والمخرج من نفس الطينة .
ولتتأكد من بداية ظهور معالم تلك الدولة ستلاحظ المؤشرات التالية :
غياب تأثير النظام العشائري في تنظيم وبناء المجتمع ، كذلك ستجد ان للدولة قوات مسلحة نظامية واحدة ولائها للوطن دون تلويثها بعناصر او عصابات تحت اي من المسميات او تحت اي تبرير قانوني او تشريعي . وستجد رجال الدين قابعين في دور العبادة للتثقيف الديني فقط بحيث يندر مشاهدة رجل الدين في الشارع او في وسائل الاعلام ، فثقافة رجل الدين لا تتعدى التعاليم الخاصة بامور الدين . كما ستلاحظ ان الأحزاب عبارة عن تنظيمات وكيانات لتنظيم المجتمع خالية من الأجنحة المسلحة ولها برامج واضحة وليست احزاب عصابات . كذلك ستجد ان جميع القضايا الخاصة بالفساد الاداري قد تمت معالجتها بشكل شامل وعادل ودون استثناء . اضافة الى ذلك ستجد ان القوانين والتشريعات كافة والمتعلقة بمصلحة المجتمع لا تخضع للموافقات الخارجية او المرجعية ، تخضع فقط لارادة المجتمع . وأخيرا ستجد ان جميع القوانين والتعليمات تطبق على الجميع دون تمييز ويشعر كل فرد بحريته وإنسانيته وكرامته وأمنه . بدون كل ذلك ستبقى غبيا اذا اعتقدت بان هناك أمل في بناء دولة مدنية وحضارية متقدمة تفتخر الانتماء اليها امام بقية المجتمعات .