24 ديسمبر، 2024 5:27 ص

الواقع الثقافي العربي : التنكيل أم التبجيل  !

الواقع الثقافي العربي : التنكيل أم التبجيل  !

لا يختلف واقعنا الثقافي العربي عن واقعنا  السياسي من حيث الاصطفاف  والتعصب والانغلاق واحتكار الصواب  ، وان كان يبدو اقل حدة  وتأثيرا نظرا لارتباطه المباشر بالنخبة واحتقانهم ورؤياهم النرجسية للامور ، وحيث طرأ على الساحة سلاح “اللامبالاة والاستبعاد والاقصاء” ، في حين تكرست الاقليمية  والجهوية والشللية بأبغض صورها ، وتجلت بالنجومية الغير مبررة لنفس الشخصيات وكان النساء لم تلد غيرهم …وبما ان المشهد السياسي يتصدر المشهد العام لحالتنا العربية ، وخاصة مع تداعيات الربيع العربي المخيبة للآمال والتوقعات ، فقد أصبح التحايل والتجاهل هو سيد الموقف في الحالة الثقافية السائدة ، ولم نعد بحاجة لمكاشفة خطيرة يقوم بها شاعر فذ ك “شوقي يزبع” عندما كشف بغير قصد ( قبل حوالي عقد من الزمن ) عن احتقان هائل مكبوت ، يعمل كالبركان الذي ينبثق راشقا حممه  بعد حركة طبوغرافية بسيطة …واتساءل ككاتب مثابر : ماذا يستفيد الابداع العربي من هذا التراشق الكريه والتجاهل اللئيم ؟ وماذا نكسب من تقزيمنا المزمن للابداع ؟ ولماذا يدمن العربي على نفس الوجوه والشخصيات والأفكار في كافة مناحي الحياة السياسية والثقافية والعملية ، وكأنها تستنسخ ذاتها بطريقة بلهاء مشوهة ؟ ولماذا لا يسمح بانضمام أعضاء جدد لنادي الثقافة والكتابة ؟ حيث يغلب التثاؤب والملل على معظم المقالات السياسية والثقافية في صحفنا المطبوعة ؟ ولماذا يستنشق القارىء والكاتب العربي الاوكسجين عندما يطلع (كمثال) على صحف تفاعلية ومواقع الكترونية رائعة  تعطي المجال والصدارة  لكل الأقلام المبدعة لأن تعبر عن وجهة نظرها بحرية بلا تنغيص واحتكار وبلا مقص رقيب قمعي ! وينطبق الأمر كذلك على العديد  المواقع العربية المتميزة  في المهجر ، والتي تسمح للعديد من الأقلام العربية ان تكتب بحرية وفي كافة المجالات وبلا موانع ومحرمات وضوابط لا معنى لها ، لاغية احتكار الكتابة ومفهوم “النخبة المنافقة” التي تكتب “حسب الطلب” ! الغريب أن هذه الصحف  والمواقع الواثقة بنفسها تسمح بالتعبير عن الرأي العربي بكل أطيافه وبلا اصطفاف بغيض متحيز لهذا الطرف او ذاك ، وخاصة في ظل التداعيات الخطيرة المتلاحقة لما يسمى “الربيع العربي”  ( وربما يكمن هنا سر نجاحها اللافت والمتميز وربما الكاسح )….وأضرب مثالا لبعض المواقع العربية الهامة والمشهورة  التي تصدر في عواصم الغرب ، والتي تستنكف عن نشر المقالات التي تفضح ممارسات العدو الاسرائيلي في قلسطين الحبيبة ، كما أنها لا توافق للتعرض لتاريخ النكبة الفلسطينية او  لموضوع المحرقة الاسرائيلية  بأي نقد او تساؤل أو تحليل ، وكأن قصة المحرقة المزعومة أصبحت دينا عالميا جديدا يتمتع بالقدسية ، ولا يحق لأحد التشكيك بملابساتها ومبالغاتها المزعومة التي “صدعتنا” السينما الأمريكية بقصصها الدرامية البائسة والمفبركة  !
أذكر أني حضرت منذ أربع سنوات دورة متقدمة باللغة الانجليزية ، وطلبت منا معلمة اللغة “الأمريكية الجنسية” أن نكتب مقالا انشائيا بالانجليزية ، فكتبت مقالا احتوى على بعض الأخطاء الاملائية واللغوية ، ولكن اسلوب المقال أعجبها كثيرا فأصرت على منحي شهادة رسمية تقر بوجود مهارات كتابية تؤهلني لأن اكون كاتبا ، مع أني أبلغتها اني اكتب المقالات عادة بالعربية ، هكذا استطاعت هذه المدرسة المتمرسة أن تكتشف الابداع بنمط الكتابة تلقائيا ، دونما حاجة للتذكير لأهمية الانضمام لدورة متخصصة باهظة التكلفة لتعلم الكتابة الابداعبة ، لأن الكتابة هي قبل كل شيء موهبة وليست مهارة مكتسبة ورغبة جامحة ، وأشبه اندفاع هنا البعض للكتابة المتسرعة والشهرة بالطالب غير النبيه الذي يغش بانتظام ليصبح طبيبا زائفا يذهب بمرضاه المساكين  للقبر بدلا من الشفاء !  وهناك مثل شهير يقول ” أنك تكتشف الجودة عندما تراها “، كما أن هناك مقولة عربية تراثية قديمة تقول : ابعد عن الكتابة لست منها ولو لوثت ثوبك بالمداد ! كما أن هناك اشكالية كبيرة لا توجد تحديدا الا في مجال الكتابة ، وتتلخص في انقسام الكتاب لصنفين لا ثالث لهما ، صنف يكسب رزقه من الكتابة وتقدم له المكافآت المالية (كراتب) والمادية المتمثلة بتكاليف السفر وحضور المؤتمرات والندوات ، كما انه يلقى المدح والثناء وتسلط غليه الأضواء  ، وصنف آخر ( مهمش ) يكتب مجانا هنا وهناك ولا يقبض شيئا ولا يتوقع شيئا بالمقابل ، ومن الصعب تحديد المعايير هنا لأنها تعتمد على عدة عناصر منها القدرة المالية للصحف (وربما بعض المواقع الألكترونية المشهورة ) وتوجهاتها الكتابية المختلفة ، كذلك فالأمر يرتبط بالتوجهات السياسية والثقافية السائدة لدى الصحيفة ، وتمازج الكتاب مع الأراء المطلوبة وقدرتهم على الاقناع والتحليل والتلون والتملص ، ومدى شعبيتهم وتمتعهم بكاريزما كتابية  وعناصر اخرى يصعب حصرها هنا ، والغريب ان قوة التعود تصبح هنا قاهرة وملزمة ، بمعنى انه من الصعب ان يكتب الكاتب المحترف بلا مقابل ، وكذلك فالكاتب الهاوي قد يجد صعوبة في الكتابة اذا ما وعد بمقابل مالي او مادي ، وهذه معضلة انسانية يصعب فهمها ، كذلك فهي ترتبط لحد ما بالأنا والغرور وتقدير الذات المبالغ به ،  واحيانا بالقدرة على تسويق موهبة الكتابة ، وقد يكون هناك دور خفي للواسطة والمحسوبية والعلاقات العامة ، مقابل سؤ تقدير الموهبة والتواضع والطيبة لكي لا أقول السذاجة ، وعدم الالمام بطرق التكسب والتسويق الذاتي للامكانات ، واعتبار الكتابة كهواية محفزة لا غير !      
الابداع كالأشجار المثمرة لا يستمر الا مع تعرضه للشمس والهواء النقي ومياه المطر ، ولا يمكن ازدهاره في ظل أجواء  “العتمة والظلام” والتجاهل والتهميش والنقد الجارح “السائدة” ، لهذا أسوق  القصة المعبرة التالية : من سنوات تم تشكيل فريق من الشباب اللامعين ( في جامعة وسكونسن الأمريكية ) وتم اختيارهم من اولئك الذين يتمتعون بمواهب ادبية-كتابية فذة ،  واللذين كانوا اصلا مرشحين لأن يصبحوا شعراء وروائيين او كتاب مقالات . كانوا متميزين  في قدرتهم الابداعية  على استخدام اللغة الانكليزية ، وكانوا يلتقون بشكل منتظم لتبادل القراءآت  والنقد ، ولكنه كان نقدا صارما لا يرحم !  وقد سموا انفسهم “الشانقين” ( ربما لأنهم يشنقون  ضحاياهم المشاركين أدبيا )  ، واستاءت النساء وبعض الموهوبين ، فقرروا الخروج وتشكيل ناد مواز سموه “المجادلين”  ، وكانوا يتبادلون أيضا القراءآت والنقد ، ولكن بطريقة ايجابية تحفل  بعبارات ” التشجيع والاطراء”  . وبعد مضي حوالي عشرين عاما ، تبين وجود فرق شاسع بين مصير أعضاء المجموعتين ، فلم يحقق أعضاء الفريق الأول أي انجاز ادبي متميز ، بينما انبثق عن المجموعة الايجابية  الثانية اكثر من ستة كتاب ، وهذا ما تفعله تماما هذه المواقع وبعض الصحف المهجرية وبتلقائية مهنية تحسد عليها  ، حيث تسمح (كما لاحظت) لمعظم الأقلام المتمرسة والواعدة بالكتابة والتعبير وفي كافة المجالات ، لتفرز بالممارسة كتابا مبدعين جدد …
لقد “خنق” اعضاء المجموعة الاولى بعضهم البعض تحت تاثير النقد السلبي الجارح  ( ربما كما يخنق العرب حاليا بعضهم البعض !) ، بينما ساعد اعضاء المجموعة  الثانية بعضهم البعض لابراز مواهبهم الأدبية وصقلها حتى تمكنوا من فرز بعض الكفاءآت الأدبية المتميزة  ، والتي ساعدها التحفيز  والتشجيع على الابداع  والتميز .
هناك نكتة معبرة تقول أن شخصا سأل المسؤول عن التعذيب في جهنم يوم القيامة  عن سر تركه للمذنبين  العرب بلا جلاد يتولى تعذيبهم ، فأجاب المسؤول بلا تردد : هؤلاء قوم لا يحتاجون لجلاد لأنهم يعذبون بعضهم البعض ، بل  ” ويتفنون” في ذلك !
لماذا يسود هذا الوضع الكريه في اوساط المبدعين العرب والثقافة العربية ؟ ربما لغياب رأي عام ثقافي-أدبي ( ولا اقول سياسي لأنه مفقود تماما) ، فالكثرة العربية امية او مغيبة و مضللة ، ومعظمها منغمس “بلا وعي” في ثقافة رديئة سائدة تعتمد الأدب الركيك والكتابة السطحية والفن الهابط ، تعززها بعض الفضائيات والصحافة الموجهة والمواقع الألكترونية المتكاثرة  !