خلال قراءته لكتب المفكر المغربي محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي لاحظ الدكتور وليد محمود خالص أن الجابري يكيل التهم للغة العربية بإعتبارها سبب تخلف العقل العربي فيرى أنها “بقيت منكفئة على نفسها قرونا طويلة ولم تتأثر بها أقوام أو لغات أخرى ” وهو قول يبعث على العجب ,كما يرى الدكتور عبدالواحد لؤلؤة , مؤكدا” إذا تذكرنا ألوف الكلمات التي دخلت اللغة الإسبانية مثلا , وتحرّفت قليلا أو كثيرا لتناسب النطق الإسباني”
وطبعا جاء هذا الإتهام الى جانب إتهامات أخرى تصدّى لها الأستاذ جورج طرابيشي فردّ عليه بخمسة كتب أنجزها على مدى خمسة وعشرين عاما , وقد خصص فصلا من مئتي صفحة في كتابه ” إشكاليات العقل العربي” والتي جاءت ردّا “على الإشكالية المغلقة التي كان مؤلف ” تكوين العقل العربي ” , كما يرى طرابيشي, حصر فيها كلّا من العقل واللغة العربيين باعتبار العقل العربي حبيس لغته , وباعتبار اللغة العربية حبيسة الأعرابي , وعالمه الصحراوي “الحسي- التاريخي”
هذه المسألة استفزت الدكتور وليد محمود خالص الذي قرأ الجابري جيّدا وهضمه وعجب لعدم تصدي علماء اللغة لتلك الاتهامات , ووجد في بحث طرابيشي ردّا علميا , ولم يقف على التلّ , ولم يكتف بدفاع طرابيشي عن العربية , فأعاد قراءة مشروع الجابري ثانية وتتبع بصبر , وأناة , تعقيبات طرابيشي عليه , واستقر على معضلة العربية بينهما لتكون مجالا رحبا للدرس الجديد ” كما يقول خالص مشيرا “لمست إعراضا عن العربية وتهوينا لشأنها , وتبخيسا لإمكاناتها الذاتية فيها , غير أن الفصّ في ذلك هو الربط البعيد عن العلم , والإنصاف معا بين هذه العربية (المهجورة ) , وبين أهلها , بحيث انتقل ذلك التهوين , والتبخيس إليهم في تعانق عجيب وحملت العربية أوزار الماضي ” فقام بوضع كتابه” معضلة اللغة العربية بين الجابري ّوطرابيشي ّ””دراسة نقدية تحليلية لمشكلات العربية في الفكر العربي الحديث ” الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت .
ليناقش هموم العربية التي أثارها الجابري ّوعقّب عليه فيها طرابيشي مستعينا “بطرابيشي , وبتماس مباشر مع العربية زاد على أربعين سنة قاصدا تعديل الميزان الذي اضطرب بيد الجابري, فكان لابد من هذا التعديل لكي تستقيم الأمور الى حدّ ما ” كما يشير المؤلف الذي حين حدّثني عن مشروعه هذا قلت له” سترتقي مرتقى صعبا ” وهذا ماسمعه من آخرين لكنه استمرّ يراجع ويفحص ويستنتج ولم تكن له أية صلة تربطه بطرابيشي , وحين سلمني مخطوطة الكتاب , سألته :هل لديك نسخة أخرى من المخطوطة ؟ سألني :لماذا ؟ قلت له : لأسلمها لطربيشي الذي سيزور مسقط قريبا بدعوة من صالون سبلة عمان الثقافي , فتعجب, لعلمه أن طرابيشي لا يلبي الدعوات لكنني أكدت له أنه أجاب بالموافقة , عندها سألني :متى؟ أجبته : بعد أسبوع , فقال سأجيء اليه من عمّان مع نسخة أخرى من المخطوطة , وأخذ عنوانه البريدي وهاتفه وجرى التواصل بينهما هاتفيا وعبر البريد الألكتروني ,وهي حادثة تبّتها الدكتور وليد في كلمة له بالكتاب , وحين وصل خالص مطار مسقط لم يذهب للفندق بل ظل ينتظر مع مستقبلي طرابيشي الذي وصل من باريس بعد ذلك بساعات , ليكون من ضمن مستقبليه , فكان ذلك اللقاء هو لقاؤهما الأول بعد سنوات من المتابعة والتواصل الفكري , ومن الطبيعي أن يكون الجابري ثالثهما , فقد كان حاضرا بروحه وآرائه ليكون ثالث اثنين اجتمعا على مائدته الفكرية لإثراء الحوار الذي كان “بلاحوار” كما أشار طرابيشي في كلمته التي كتبها في رثاء الجابري الذي توفي يوم 3-5-2010 م وحملت عنوان “ربع قرن من حوار بلا حوار” ذلك لأن الجابري لم يرد على طرابيشي ولا بكلمة واحدة , فرأى أن كتاب “معضلة اللغة العربية ” جاء ليستأنف الحوار بينه وبين الجابريّ ولو من خلال جزئية تخص اللغة العربية
في مقدمة الكتاب يتساءل د.لؤلؤة ” لماذا يتجرّد مفكّر عربي معاصر جمع العلوم الإنسانية من أطرافها , أو هكذا نريد أن نؤكد , لكنه لا يجادل بالتي هي أحسن في الانتفاع بها العلم ؟ لماذا يتنكّر عربي مسلم للغة حضارة ودين بعثت حياة جديدة في أقوام شتّى , فأخذوا عن تلك اللغة أنساغا من دينها , وأدبها , وحتى من حروفها؟”
وقد لاحظ خالص أن هناك بعض القضايا التي لم يتسنّ لطرابيشي الوقوف عندها , لإنشغاله بمشروع الجابريّ برمّته لذا أثار إشكاليات جديدة متتبعا الجابري “منذ أفكاره الأولى التي أسس بها لما يريد الوصول إليه من تبخيس للعربية وردود طرابيشي عليه .. فأعاد قراءة مشروعي (الجابري) و(طرابيشي) ولكن بوعي جديد ونظرة مغايرة عن تلك التي قرأ بهما في المرات السابقة ” كما يؤكد قاصدا الفحص والتفكيك والكشف في كتاب من بابين حمل الأول عنوان “في جذور الشجرة, وساقها , وفروعها” وضم ستة فصول هي: الجابري ,طرابيشي العربية لماذا؟ , الجذور , ساق الشجرة –معطيات الجابري, الفرع الأول-المعاجم العربية , الفرع الثاني –القطيعة مع القرآن والحديث النبوي , الفرع الثالث –العربية بين البداوة والحضارة , وحمل الباب الثاني عنوان:في ثمار الشجرة وتألف من ستة فصول هي : طبيعة العربية الحسية , لاتاريخية العربية وامتناعها عن التطور , ذهنية العربية وموسيقيتها , حملية –لاحملية العربية , الازدواجية اللغوية , الكتابة العربية .
وفي الخاتمة يذكر السمات التي حفل بها مشروع الجابري في تعامله مع العربية , وتاريخها مرجعا أسبابها الى التأثر المفرط بمقولات (المركزية الغربية) فظل محبوسا في نطاق تلك المقولات فحجب ذلك التأثر عن الجابري التطور المذهل الذي أحرزته العلوم الإنسانية عموما , وتخصص الجابري الدقيق ,وهوالفلسفة, قد حجب عنه المعرفة الدقيقة بالعربية ,وتاريخها ,وأساليبها فاكتفى بإطلاق أحكام القيمة تلك معتمدا على آراء غيره بلا تمحيص لها أو تدقيق في تفاصيلها , وقد حاول أن يناقش الآراء التي طرحها الجابري بروح علمية رصينة فحين يأخذ الجابري على العربي أنه “يحب اللغة العربية الى درجة التقديس ويعتبر السلطة التي لها عليه تعبيرا ليس فقط عن قوتها , بل عن قوته هو أيضا , يرى خالص ص 97 ” أن ذلك الحب للعربية من لدن العربي لم يوقعه في عقدة مرضية تجعله يرى في العربية لغة أفضل من اللغات الأخرى” ويستدرك متوخيا الدقة قائلا ” ولاننكر أن بعض المدونات القديمة تحمل مثل هذه الفكرة , ولكنها قليلة بالقياس الى الجمهرة الواسعة من النصوص التي تضع العربية في مكانها اللائق بلا تبخيس للغات الآخرين “
إن صدور كتاب “معضلة اللغة العربية “لم يأت ليستأنف الحوار الفكري الذي انقطع بعد صدور كتاب طرابيشي”من إسلام القرآن الى إسلام الحديث” وهو المجلد الخامس من “نقد نقد العقل العربي ” عام 2010 م بل ليفتح ساحة حوار جديدة تؤكد أن بيننا ثمة من يرفع صوته مدافعا عن لغتنا العربية التي تعيش (معضلة ) حقيقية .
[email protected]