خاص: قراءة- سماح عادل
رواية “الهوية” للكاتب التشيكي “ميلان كونديرا” ترجمة ” أنطون حمصي” تعد واحدة من أروع رواياته، يتناول فيها قصة حب عذبة محملة بقدر كبير من الأفكار الفلسفية الغريبة التي تتناول عمق النفس البشرية من زاوية جديدة، تلك الأفكار التي يتميز بها “ميلان كونديرا” .
الشخصيات..
شانتال: البطلة، سيدة لا يحدد الكاتب عمرها لكن يفهم أنها في منتصف العمر، في تلك السن التي تبدأ فيه المرأة الخوف من الكبر والخوف من فقدان الشباب تماما، الذي تشعر فيه أنها لم تعد جذابة ولا تخطف الأنظار وتبدأ هواجسها في التلاعب برأسها.
جان مارك: البطل، لا نعرف عمره أيضا، فقط نعرف أنه يصغر “شانتال” بأربعة أعوام، وأن هذه الأعوام الأربعة هي ما تجعله قويا في علاقة الحب التي بينهم.
أخت الزوج: إنها أخت زوج “شانتال”، امرأة كريهة متسلطة، تنجب أطفال كثيرين، وتدير أسرتها الكبيرة بسلطوية، وهي امرأة متلصصة تحب فرض نفسها على الآخرين.
ف: صديق جان مارك، تخلى عنه في المحلة الثانوية، ولم ينس “جان مارك” ذلك أبدا، وحين كان “ف” يحتضر زاره “جان مارك” لكنه لم يكن متعاطفا معه أبدا وحين مات لم يتأثر.
الراوي..
الراوي عليم، يحكي عن البطلين بالتناوب مرة يحكي عن ما يدور في عقل “جان مارك”، ومرة يحكي عن ما يدور في عقل “شانتال”، ليس عقليهما فقط وإنما مشاعرهما وأحاسيسهما تجاه بعضهما البعض.
السرد..
إيقاع السرد هادئ.. يسير ببطء لكنه لا يفقد التشويق، بالأحرى يعتمد السرد على أفكار فلسفية فريدة تبهر القارئ وتجعله يحب مواصلة القراءة، كما أن قصة الحب نفسها طريفة وتنطوي على غرابة.
لا تلفت نظر الرجال..
بدأت الرواية ب”شانتال” وهي في فندق في إجازة من العمل، تنتظر “جان مارك” الذي سيلحق بها فيما بعد، وهي تتجول على الشاطئ وهي تتناول طعامها وأفكارها تدور في رأسها، يزعجها أنها تحولت لكائن غير مرئي في الشارع، أصبحت تقابل رجالا يحملون أطفالهم بجوار زوجات غير مباليات، وما أزعجها أن ” الرجال لم يعودوا يديرون وجوههم نحوها” لا ينظرون إليها كامرأة جميلة، لا يرونها بالأساس، وعندما دخلت إحدى المقاهي لطب كوب من القهوة تعامل معها شابان بوقاحة، مما زاد من وطأة الانزعاج لديها، ووجدت نفسها تقول ل”جان مارك” أن ما يحزنها هو أن الرجال لم يعودوا ينظرون إليها، ذلك الإحساس الأنثوي الذي ينتاب المرأة حين تشعر أنها تقدمت في العمر، وأنها لم تعد فتاة صغيرة جذابة، وأن الرجال لم يعودوا ينظرون إليها بإعجاب وبرغبة كما في السابق، وأن جسدها الذي تحمله أصبح عبئا تخجل منه.
ينزعج “جان مارك” من الجملة التي حرصت أن تقولها “شانتال” وكأنها فكاهة، لكن صوتها يخونها ويحمل نبرات المرارة والكآبة حين ينطقها، ويكون انزعاج “جان مارك” بسبب أنه يحبها ولا يتحمل فكرة فقدانها أبدا، بل أن حبه لها يصل إلى عمق كبير، فهو لا يتعاطف مع البشر إلا من خلالها، ولا يتخلى عن لامبالاته إلا بسببها ولأجلها ورغم ذلك يجدها تحزن لأن الرجال لم يعودوا يعتبرونها أنثى شهية.
يفكر “جان مارك” في أن يفرحها فيرسل لها رسالة حب يقول لها فيها أنها جميلة، لكن دون توقيع، ويفاجئ عندما لا تخبره بأمر الرسالة، ورغم أنه لم يكن يفكر في رسالة ثانية، فقد كان فقط يريد أن يخبرها أنها لازالت جميلة، إلا أن إخفاءها أمر الرسالة جعله يرسل لها رسالة أخرى، ويكتشف أنها تخبئ تلك الرسائل في خزانة ملابسها الداخلية وكأنها شيء حميمي تحب الاحتفاظ به، وتنهشه مشاعر الغيرة لكنها غيرة عقلية أكثر من كونها غيرة حقيقية، غيرة من فكرة قبولها لاحتمالية حب آخر غيره.
ويظل يرسل الرسائل لها، ثم يقرر إنهاء أمر الرسائل وإبلاغها أنه سيسافر لندن، وبعد إحساس بالخيبة لكونها استجابت لغزل رجل آخر حتى، وإن كان هو في الواقع، يبدأ “جان مارك” يشعر أنها أصبحت ظل ل”شانتال” وأنها لم تعد “شانتال” التي يحبها، لكنه يعود ويتأكد أن حبه لها أعمق من تلك اللعبة التي تورط فيها، ويسامحها لأنه لا يستطيع إلا أن يبقى بجوارها.
من جانبها تتأثر”شانتال” برسالة الحب التي تصلها من مجهول وتقرر تمزيقها، لكنها ولسبب غير معروف لديها تحتفظ بها، وتبدأ في التفتيش عن ذلك المحب الجاسوس الذي يخبرها أنه يتلصص عليها ويراها جميلة وساحرة، وحين يبدأ في إغوائها تنصاع له وترتدي معطف أحمر كما طلب منها على عري كامل، وتتعامل كأنثى شهية، حتى أنها تقضي ليلة ساحرة مع “جان مارك” جراء تأثير ذلك الحبيب المجهول، الذي تشعر به موجود في كل مكان يراقبها، وتفاجئ عندما تكتشف أنها أصبحت تشعر كمراهقة، يحمر خديها وتتأثر سريعا، ورغم أن ذلك يشعرها بأن مسيرة شبابها أوشكت على الانتهاء، لذا عادت تشعر كمراهقة في بداية الشباب، إلا أنها تحب انفعالها بتلك الرسائل العذبة، وحين تلاحظ حركة غريبة في خزانة ملابسها الداخلية تشك أن “جان مارك” هو مرسل الرسائل، وتتصور أنه قام بتلك اللعبة ليتخلص منها لأنها أصبحت كبيرة وهو مازال في شبابه، وأنه يحاول بتلك اللعبة أن يتخلص منها بتهذيب.. وتبدأ الهواجس تأكلها، ويشتعل غضبها على “جان مارك”، الذي انزعج بدوره من تحول محاولته الرقيقة في إرضاء حبيبته وبعث الفرح في قلبها إلى لعبة أسيء فهمها من جانبها، وربما من جانبه هو أيضا..
الصداقة رومانتيكية الرجال..
يناقش “ميلان كونديرا” فكرة أخرى تستحق التوقف عندها، وهي فكرة الصادقة، وكيف أنه كان يعول على تلك الصداقة في شبابه، وأنه صدم حين تخلى عنه صديقه “ف” وترك الرفاق الآخرون في الحزب ينكلون به دون أن يدافع عنه، في حين أن “ف” صمت ولم ينهمك معهم في الهجوم على “جان مارك”، واعتبر ذلك موقفه الصلب دفاعا عن صديقه “الصمت”، لكن “جان مارك” لم ينس أبدا ذلك التخلي ونفر من صديقه طوال العمر، معتبرا أن الصداقة أمر هام جدا بالنسبة له، فالأصدقاء هم من يلمعون المرآة التي تنظر فيها إلى ذاتك، يذكرونك بأشياء لا تتذكرها والتي تكمل تصورك عن ذاتك الحقيقية، يملكون ذكرياتك ولحظات شبابك الحلوة وربما المرة أيضا، لكنه يعود ويؤكد في نقاش مع “شانتال” أن الصداقة لم تعد كما كانت في العصور الماضية، فلا أحد مستعد للتضحية لأجل صديقة أو الدفاع عنه وحمايته، ربما لأن اللامبالاة هي التي تسيدت في ذلك العصر وأصبحت بداخل الجميع، اللامبالاة تجاه كل شيء، تجاه العالم وتجاه التطورات الهائلة فيه، وتجيبه “شانتال” بأن الصداقة رومانتيكية الرجال فالنساء لهم أحلامهم الأخرى.
الحب يظل بقوته..
تتحول الرواية إلى أحداث أشبه بفانتازيا الحلم، حيث تسافر “شانتال” إلى لندن، ويتبعها “جان مارك”، وتدخل في بيت سري ماجن، وينتظر هو في الخارج يحاول استعادتها، وتنحبس هي في الداخل حتى أنها تنسى اسمها وكل ما يتعلق بماضيها، لكنه يظل يسعى لاستعادتها، ثم تستيقظ “شانتال” من ذلك الحلم الكابوسي، ويلاعبنا الراوي العليم فيخبر القراء أن هذا الحلم بدأ من لحظة ما في الرواية، ربما تكون في الصباح عندما تشاجرا، أو حين وصلا إلى لندن، أو ربما قبل إرسال الرسائل، وتنتهي الرواية برغبة “شانتال” الملحة والعميقة في أن تظل تنظر ل”جان مارك” وفقط، وكأنها تحتفظ به داخل عينيها طويلا، وبلحظة تواجده بجانبها إلى الأبد.
الكاتب..
“ميلان كونديرا” هو كاتب وفيلسوف فرنسي من أصول تشيكية، ولد في الأول من أبريل عام 1929، لأب وأم تشيكين، كان والده “لودفيك كونديرا” عالم موسيقى ورئيس جامعة “جانكيك” للآداب والموسيقى ب”برنو”، تعلم “ميلان” العزف على البيانو من والده، ولاحقا درس علم الموسيقى والسينما والأدب، تخرج في العام 1952 وعمل استاذاً مساعداً، ومحاضراً في كلية السينما في أكاديمية “براغ” للفنون التمثيلية، في أثناء فترة دراسته، نشر شعراً ومقالاتٍ ومسرحيات، والتحق بقسم التحرير في عدد من المجلات الأدبية.
التحق بـالحزب الشيوعي في العام 1948 ولكنه فُصل هو والكاتب “جان ترافولكا” عام 1950 بسبب ملاحظة ميول فردية عليهما، ولكنه عاد بعد ذلك عام 1956 لصفوف الحزب ولكنه فُصل مرة أخرى عام 1970.
نشر في العام 1953 أول دواوينه الشعرية لكنه لم يحظ بالاهتمام الكافي، ولم يُعرف “كونديرا” ككاتب هام إلا عام 1963 بعد نشر مجموعته القصصية الأولى “غراميات مضحكة”.
فقد “كونديرا” وظيفته عام 1968 بعد الغزو السوفييتى لتشيكوسلوفاكيا، بعد انخراطه فيما سُمى ربيع “براغ”، اضطر للهجرة إلى فرنسا عام 1975 بعد منع كتبه من التداول لمدة خمس سنوات، وعمل أستاذا مساعداً في جامعة رين ببريتانى (فرنسا)، حصل على الجنسية الفرنسية عام 1981 بعد تقدمه بطلب لذلك بعد إسقاط الجنسية التشيكوسلوفاكية عنه عام 1978 كنتيجة لكتابته كتاب “الضحك والنسيان”. تحت وطأة هذه الظروف والمستجدات في حياته، كتب “كونديرا” رواية “كائن لاتحتمل خفته” التي جعلت منه كاتباً عالمياً معروفاً لما فيها من تأملات فلسفية تنضوي في خانة فكرة العود الأبدي ل”نيتشة”.
في عام 1995 قرّر “كونديرا” أن يجعل من الفرنسية لغة لسانه الأدبي من خلال روايته “البطء”. وفي هذا السياق قال “فرنسوا ريكار” في المقدمة التي كتبها عن “كونديرا” في “لابليياد”: “إنّه حقق معادلة غريبة بعد كتابته بالفرنسية، إذ شعر قارئ كونديرا بأنّ الفرنسية هي لغته الأصلية التي تفوّق فيها على نفسه”.
وعنه أيضاً يقول الكاتب البريطاني “رينيه جيرار”: “إنّ المدرسة الأدبية التي ينتمي إليها كونديرا ليست إنكليزية على الإطلاق لكونها لا تولي موضوع العمل أو مضمونه الأولوية، بل الأهمية تكمن في الأسلوب الإبداعي والعمارة الأدبية في شكل عام. وعندما قرأت كونديرا في بودابست قرّرت أن أصبح روائياً تحت تأثير الدهشة والإعجاب بهذا الإبداع. قرّرت أن أكتب وإنما تبعاً لمنهج المدرسة الأوروبية وليس البريطانية”.
أهم مؤلفاته..
- الروايات:
- غراميات مضحكة 1963
- المزحة 1965
- كتاب الضحك والنسيان 1978
- الخلود 1988
- البطء
- كائن لا تحتمل خفته (هذه الرواية حولت إلى فيلم 1988)
- الحياة هي في مكان آخر
- الجهل
- الهوية
- فالس الوداع
- حفلة التفاهة