15 نوفمبر، 2024 9:23 ص
Search
Close this search box.

هدية حسين.. روت قصص النساء المكلومات وصراعهن في حياة قاسية

هدية حسين.. روت قصص النساء المكلومات وصراعهن في حياة قاسية

خاص: إعداد- سماح عادل

“هدية حسين” كاتبة عراقية، ولدت في بغداد في 1956، تعلمت في مدرسة نجيب باشا الابتدائية وتفوقت، التحقت للعمل بإذاعة بغداد في 1973، حيث عملت لأكثر من 17 عاما في إذاعتي بغداد، وصوت الجماهير، والإذاعة الموجهة إلى أوروبا، كما عملت في الصحافة العراقية.

نساء العتبات..

في حوار مع “هدية حسين” أجرته “لنا عبد الرحمن” تحكي عن روايتها (نساء العتبات): “بيّنت في مقدمة الرواية سبب كتابتها، حين ألحت عليّ إحدى الشخصيات (أمل الثانية) التي جاءت في رواية سابقة، باستكمال مصيرها، وقد عاشت غربتين، الأولى داخل الوطن المسوّر بالحروب، والثانية خارج الحدود منفية حيث لا وطن ولا أحلام غير ما تشتعل به الفضائيات من أهوال في العام 2003، أما العنوان فقد جاء بعد منتصف كتابتي للرواية، حيث أسرار النساء تخرج من مخابئها في الصدور وتندلق على عتبات البيوت، وهي عادة تكاد تكون يومية للنساء الشعبيات اللواتي تضيق بهن البيوت والنفوس فلا يجدن غير العتبات يجلسن عليها، ويسفحن الأشواق والهموم”.

وتواصل عن كتابة تلك الرواية: ” في جميع رواياتي أتحاشى إكمال النص في ذهني، الفكرة العامة وحدها تأخذ طريقها إلى الذهن لحين مجيء الوقت الذي يجعلها ناضجة فأبدأ بالكتابة، أكتب دون أن أعرف إلى أين ستأخذني الأحداث، وإذا انتهت الرواية بين أصابعي وتوقف الكلام في رأسي فإنني أعيد قراءة النص، أحذف وأضيف وأغيّر ثم أكتبه ثانية وثالثة ورابعة، وبعض الروايات كتبتها خمس مرات، علماً أنني مازلت أكتب على الورق ولا أستخدم الحاسوب في كتابة الروايات، بعد ذلك أسلّم النص إلى المنضد وأراجعه ثلاث مرات على الأقل قبل أن يمضي إلى الناشر، ونساء العتبات لم تأخذ مني ما أخذته بقية الروايات من زمن في الكتابة ربما ساعدني في ذلك أنها الوحيدة التي لم تستعصِ عليّ شخصياتها بل كانت طيّعة ومتدفقة ولأنها أيضاً تحكي عن مشاعر عشتها ودوّنتها في دفتري إبان الاحتلال، والتي كانت خير عون لي على إكمال الرواية”.

مأساة العراق..

وعن حضور مأساة العراق في  الرواية تقول “هدية حسين”: “بالتأكيد هناك استمرار وامتداد لأحزان العراق في نفس كل عراقي، بسبب سلسلة الحروب التي لم يكن طرفاً فيها بل كانت نتيجة هوس الحاكم بالأمجاد الزائفة وكان المواطن حطباً لأحلامه المريضة، هذا واقع حال لا مهرب منه، وهذا ما حدث أيضاً لأبطال الرواية لأنهم جاءوا من ذاك الواقع.. لا يمكنني أن أنزع جلدي وأحرق سفني وأنسى هموم بلدي، ليس هناك شيء خاص إنما هناك شيء متجذر بتراب الوطن.. أينما كنتُ يكون العراق.. وأحزان العراق تمتد في جميع رواياتي”.

وعن العلاقة الإشكالية بين الأم والابنة التي تتجلى في الرواية تقول : “شخصية البطلة تشكلت في ظروف معقدة فرضتها الأم عليها منذ الطفولة، ولكنها لم تستسلم، كانت عنيدة تحيط نفسها بالأحلام والأوهام معاً لتتفادى الواقع المرير، وتبحث في الظلام عن نقطة ضوء لحياتها المضطربة، لقد سعت جاهدة لتغيير واقعها، لكن الظروف لم تخدمها، حتى بعد أن وجدت الرجل الذي انتشلها مما هي فيه، عاشت أوهامها وهي تدرك أنها مجرد أوهام لتتخلص من تركة ثقيلة كانت الأم تحملها وأرادت عنوة توريثها للابنة الباحثة عن حياة خارج إطار الأحزان، كانت الأم وابنتها على طرفي نقيض ومن هنا جاء النفور لكنه أبقى على صلة الرحم بينهما لسنوات طويلة قبل أن تتغير الطرق والمسالك وتمضي كل واحدة منهما إلى مصير مختلف”.

وعن نهاية الرواية تستطرد ” هدية حسين”: ” لو غيرت النهاية وأعطيتها جرعة من التفاؤل لكذبت على نفسي قبل أن أكذب على القارئ، إن سياق الأحداث، وقصص النساء المكلومات بفقدان الأبناء والإخوة والأزواج جراء استمرار الحروب، وضياع الأحلام، كل ذلك قاد للنهاية التي ختمت بها الرواية، كيف يمكن رسم الابتسامات على الوجوه إذا كانت القنابل تحرق أجسادنا وتقتل أحلامنا وتخيّب آمالنا.. ليس ثمة مهرب إلى نهايات أخرى، التفاؤل لا ينمو في حقول الألغام”.

تجربة الكتابة..

وتروي “هدية حسين” عن تجربتها في الكتابة: ” إنني أصبحت أكثر نضجاً، وعلاقتي بنصوصي أصبحت أكثر التصاقاً وعمقاً، وصارت الكتابة بمرور السنين هي دوائي من العلل، أحتمي بها حين تتدحرج أيامي، وأصنع من حروفها أحبة على مقاسات أحلامي، أعرف أن الحياة لم تعطني ما أستحقه ولذلك صنعت لنفسي من الكتابة ما عوضني عن الكثير من الخسارات.. الكتابة وحدها تفك أسري وتجعلني روحاً منطلقة إلى مديات رحبة تستوعب أحلامي التي عجز الواقع عن استيعابها”.

وعن علاقتها بالقصة القصيرة تؤكد: “ألم يقل سارتر إن القصة القصيرة هي من أصعب الفنون؟ ربما لهذا السبب هجرها البعض وذهب إلى الرواية التي تنفتح على الأجناس الأخرى، وتستوعب التفاصيل الصغيرة وتعطي لكاتبها مجالاً أوسع ليقول ما يريد.. بالنسبة لي ليس ثمة حنين ينتابني للقصة القصيرة، لأنني لم أهجرها أصلاً.. تجربتي القصصية تسير جنباً إلى جنب مع تجربتي الروائية، لدي حتى الآن ست مجموعات قصصية وست روايات، وأنتظر صدور مجموعة قصصية، وأواصل الكتابة في رواية جديدة، هذا خير دليل على أنني أجد نفسي في القصة وفي الرواية معاً، لكن في قرارة نفسي أميل للقصة القصيرة أكثر، وتراودني أحياناً فكرة أن أرسو في ميناء القصة وأهجر الرواية.. إن القصة تؤشر حالة نفسية تمر بي، أو ألمسها لدى الآخرين وتترك أثراً عميقاً في نفسي لا يمكنني تجاهله، تلك الحالة تمر مثل برق وتتغلغل إلى الأعماق ولا يمكن تحويلها إلى عمل روائي، وعلى الناشرين أن يعيدوا الاعتبار للقصة القصيرة، لأنهم بالابتعاد عنها جعلوا البعض يظن أن الرواية أكثر أهمية من القصة القصيرة، واعتقد البعض من المبدعين أيضاً أن القصة القصيرة ما هي إلاّ جسر للعبور إلى الرواية، ناسين، أو متناسين، أن القصة القصيرة فن قائم بذاته يحمل عناصر جمالياته واستمراره”.

وعن هجرتها إلى كندا تقول : ” كل تغيير كبير يرافقه تغيير في نمط التفكير.. سأنتظر ما ستسفر عنه الفترة المقبلة، مازلت تحت تأثير صدمة الانتقال من عالم إلى آخر لا يشبهه، كل شيء تغير أمامي، سلوك الناس، والوجوه، واللغة والطقس ولون الشجر وغياب الأصدقاء، كأنني في حلم، حينما أصحو منه سيكون بإمكاني الجواب على سؤالك”.

حنين إلى الوطن..

وفي مقالة ل”هدية حسين” بعنوان “أيها الوطن لماذا لا تستعيدنا؟” تقول : ” في لجّة الغربة تحاول أن تجد لك مكاناً، لكن الأمكنة على الرغم من جمالها تطردك، أو تطردها، سحنتك تقول لهم أشياء أخرى، وسحناتهم تحمل جينات أجدادهم، بينما أجدادك هناك ينامون في تربة الوطن.. الوطن الذي يصير أجمل من أحلام السعداء حتى لو تحولت أحلامه إلى كوابيس، فللنأي عن الأشياء الحميمة قوانينه التي لا تشبه قوانين الطبيعة.. كيف يمكن أن تكون لبقعة أرض كل هذا الحنين الموجع لمجرد أن رأسك سقط هناك، أنت الذي تسقط كل يوم في فخاخ حبه وهو سادر في حروبه العبثية أو المصيرية؟ أنت تدرك أن شوارعه معمدة بالدم، وبالعشوائية، وبقوانين جائرة، أو بقوانين إنسانية رائعة السبك غير أنها لا تطبّق.. وحين تستفيق من سطوة الحنين الذي يأخذك إلى هناك، وتعود إلى غربتك هنا، هل كنا أبناء عاقين؟ أم أن أبانا لم يحسن تربيتنا فتركنا للمطاردات وللإهمال المتعمّد الذي أفضى بنا إلى منافي العالم؟ أيها الوطن لماذا لا تستعيدنا، ولماذا حين قادنا الشوق إليك تجاهلتنا؟ هل تدري بأننا تُهنا في أروقة دوائرك بحثاً عن مستمسكاتنا الأصولية؟ أجلس إلى مائدة طعامي الصغيرة، الصمت الضاج بالأسئلة يرافقني.. أغص بغربتي، وأقول: سلاماً على وطني في الصباحات الندية أو المغبرة، أو الممطرة، سلاماً لكل جندي دفعته غيرته بالحفاظ على تربة الوطن، سلاماً للشهداء الذين سيعيشون أكثر مما يعيشه القتلة والمفسدون في الوطن، ولا سلام على المتمسكين بكرسي الوظيفة من أجل تعذيب المواطنين”.

ما بعد الحب..

يقول الكاتب”سلام إبراهيم” في مقالة بعنوان “ما بعد الحب رواية هدية حسين”: ” النص مترابط ولا تترك الكاتبة مصير من روت لنا عنه دون أن تخبرنا على طريقة الراويات الكلاسيكية لكن هنا بحبكة مبتكرة تتناسب تماما مع حال عراقية تتأرجح على حافة الضياع القبول كلاجئة والسفر إلى عالم غامض أو الانسحاق بالرفض ومجهول المصير في شروط بلدان شرق أوسطنا القاسية وهذا مصير عشرات الآلاف من العراقيين المعلقين حتى هذه اللحظة بوضعٍ مضطرب في بلدان العالم.. النص لم يطل فقط على مصائر العراقيين في تلك المواقع الحرجة بين الحلم بحياة هادئة في المنفى أو السحق في بلدان الجوار، ذاك سيكون موضوعاً عاما لا يعني النص الفني بشيء لكن ما نطل عليه في هذا النص هو بحث الكاتبة العميق في أسرار المرأة العراقية الغامضة والتي نادرا ما تفصح عن مكنوناتها لأقرب الناس إليها. نطلع على حوارات عميقة تلقي الضوء على ازدواج الذات في بيئة مغلقة. وهذا الازدواج يطغي على كيان الشخصية سواء في المسائل الحاسمة أو التافهة.. الرواية غنية لا تحيطها مقال وقرأتها متعة وهنا وجدت الروائية العراقية “هدية حسين” خطوتها الأولى الراسخة في الكتابة الروائية فتحية لها”.

صخرة هيلدا..

ويقول الكاتب”جميل الشبيبي” في مقالة “هدية حسين تقف وحيدة وسط ضجيج العالم”: “تسرد رواية “صخرة هيلدا”، للكاتبة العراقية هدية حسين حكاية امرأة وحيدة وسط ضجيج العالم المتمدن وحركته الصاعدة، ورواية “صخرة هيلدا” تحمل خبرة حياة ومعاناة قاسية، تعيشها النساء المهاجرات في أنحاء مختلفة من الوطن العربي، عاشتها وخبرتها الروائية هدية حسين وجسدتها عبر سرد حي ومؤثر”.

أعمالها:

– قاب قوسين مني· قصص· 2000

– بنت الخان· رواية· 2001

– وتلك قضية أخرى· قصص· 2002 وهي المجموعة الفائزة بالجائزة الأولى عن أندية فتيات الشارقة 1999

– كل شيء على ما يرام· قصص· 2002

– ما بعد الحب· رواية· 2003 وهي الرواية التي ترجمت إلى الانكليزية عن دار سيراكيوس يونفيرستي بريس الأمريكية 2012

– في الطريق إليهم· رواية· 2004

– مطر الله· رواية 2008

– حبيبي كوديا· قصص· 2010

– أن تخاف· رواية. 2012

قصة قصيرة ل”هدية حسين”:

“يا لتلك الصبية العاشقة”

“أحمل عنادي وأسافر إليه، كل يوم أسافر إليه، بتذكرة سفر لا تتعامل بها الموانىء ولا المطارات، أنا التي أضع الفيزا لنفسي، وأختم جواز قلبي الذي لا تنتهي مدة صلاحيته، بكبسة واحدة على مواطن الشوق أجدني هناك، مستبعدةً جذور الألم العاصف التي تعتقت في كؤوس الأيام، أقنع نفسي أن الفراق ليس سوى مصهر لبوتقة الحب لكي نعرف من نكون، مستعينة بما قاله هاروكي موراكامي:(ربما كان من الحسن أن نفترق هكذا، حتى ندرك حقاً ما يعنيه واحدنا للآخر) وحتى ندرك أيضاً، أن الحياة لا تعطينا كل شيء، لكنها أيضاً لن تبخل على قلوبنا بالبهجة، ولذلك فإنني أصنع بهجتي كل يوم على مقاسات قلبي، أفتح لها نوافذ مؤطرة بفاكهة التفاح، ومزركشة بالأماني.. ومنها أغادرني، وأقطع المسافات لأحط في ذلك المكان البعيد الذي احتوانا في زمن لن يتكرر.

هناك أمشي على مهل، محاذاة بستان النخيل المفتوح على جهات الله الواسعة، أيام كان العشق أخضر بخضرة سعفاته، وطازجاً مثل تمر التبرزل.. يا لها من مغامرة اختصرت المسافات وحطت على يدي متجاهلة سنين عمري، أحاول قدر ما يمكنني تلافي شهقة القلب وأنا أدخل البستان، يخيل لي أن سعفات النخيل ترحب بي، وروائح المكان تعيد نكهتها، كأن شيئاً لم يتغير، أنا التي تغيرت، أهمس لنخلاته الواقفات منذ دهر: هل تذكرين عاشقين لاذا بظلالك ذات زمن؟ تحط فاختات على مسافة ليست بعيدة عني، أسألها: هل أنتن حفيدات فاختات كن بالأمس هنا؟ أحدق في انحناءات الدرب الذي مشيناه، أتراه ما يزال يخبىء آثار أقدامنا؟ أصغي لعل همسة أو ضحكة أو كلمات ما تزال في المنحنيات يمكنني أن أستعيدها.

وإذ أمضي في رحلة التذكّر تنتابني مشاعر مختلطة، بين فرح وحزن، شجن وعبق مخلوط بأشواق مازالت تتنفس، حنين لشيء كان لي وضاع مني، تنصهر كلها في السكون الذي يحيط بالمكان، فتتناهى إليّ موسيقى ذلك الزمن البعيد، وأسمع ضحكة تركتها هناك، وهمساً ما يزال محفوراً في الرأس، وكلاماً نُقشت حروفه من تبر الأمنيات، وأراني وأراه بعمر الدهشة الغض، لم تأخذ منا الأعوام العجاف.

كما فراشات الحقول كنا، من دون أن نعبأ بالنار المُعدّة لأجنحتنا في مواقد الفراق، النار التي تركتنا لهجير اليباب، لكنني أزيح ما يمكن أن يعكّر هذه اللحظات وأنا أمشي بين صفوف النخيل، وأعيد البهجة التي كانت، وعن بعد تتراءى لي تلك الصبية العاشقة، تخاتلني بين الجذوع كأنها تهرب مني.

لماذا حين تستعاد الذكريات الحلوة تصبح الثياب عاشقة، والزمهرير دفئاً، والأحزان تنداح، والطرقات يفتر ثغرها، وأتحسس شفتيً لطعم قبلة لم نقترفها، ولماذا يتراجع الدمع لصالح ضحكة مخبوءة بين فسائل النخيل، الفسائل التي لم تكن قد ولدت في ذلك الزمان، وتصبح غيوم السماء مشرقة تعد برذاذ خفيف يكفي ليبلّ جفاف الطرقات العطشى؟

أمر على ذلك المكان بعد قهر من السنين، المكان الذي لم يرحل، أنا التي رحلت وساقتني الأقدار إلى المدن الغريبة.. أدور وأسترجع زمني، أشم رائحة التراب، أخالها رائحة الخزامى، أشمها بطعم ذلك الزمن البريء قبل أن يتحول إلى طعم العلقم.

أقف مسمّرة وأنا أراها، تلك الصبية العاشقة، على بعد خطوات، تحاول كلما التقت عيوننا أن تشيح بعيداً عني، كما لو أنها لا تريدني في المكان، عيناها قلقتان، تنظران إلى كل الاتجاهات، ومن حين لآخر تلقي نظرة على ساعة يدها، أقترب منها، ترتبك، أنا أعرف، وهي لا تدري بأنني أعرف وأحس بلهفة قلبها الذي يضرب في صدرها، ربما تظن أن امرأة بعمري جاءت تتجسس عليها لكي تفضح أسرارها.. كانت تلك الصبية متلبسة بموعد غرامي.

تجاهلتُ تبرمها مني، ودنوت أكثر، تبدو في ورطة مع الوقت، رمت عينيها بعيداً، باتجاه محدد، وازدادت قلقاً، ثم فجأة افترت شفتاها حين رأته قادماً، بقامته الفارعة وفتوة شبابه، ابتعدت عني، وبرغم بعد المسافة سمعتهما يتهامسان، ومازالت كلماتهما تضطرم على شفاهي.

كل ما قالاه كان مخزوناً في رأسي، وكل صور الحب مركونة في ألبوم قلبي، وكنتُ أبتسم لهما وأبارك هذه الذكرى التي ظلت عصية على الزوال، ثم حين أفقت كان العاشقان قد غابا عني، وتركاني في بستان الذكريات، أغازل سعفات النخيل، وأغبط قلبي على هذا الفرح الذي لم يخدشه الفراق.

ترى، هل تدرك تلك الصبية العاشقة بأنها أنا؟ وأنني حين كنت أعود من تلك المواعيد الغرامية، بملامحها وعمرها الربيعي، فإنني أختلي في المساءات على سطح الدار، في قيظ لا يشبه هذا القيظ، وأرمي بصري إلى ملايين النجوم التي تطرز عباءة الليل وأراها تضحك وتغني، محتفية بالحب، تعيش فرحتها أولاً بأول، غير عابئة بما سيأتي.. ذلك أن العاشقين لم يكونا عابري سبيل في ذلك الطريق، بل كانا جزءاً من تكويناته واخضرار نخيله.. كان ذلك الطريق هو الحياة، الحياة قبل أن تُسرق منا.

وأنا أهم بالخروج من ذلك البستان بخطى ثقيلة، تناهى لي صوت من بين جذوع النخيل: اجلسي أيتها المرأة المتعبة، كم من السنين ونحن لم نركِ.. كانت إحدى الفاختات قد اقتربت مني، نظرت إلي وأطلقت نواحها الحزين، كأنها تبحث عن إلفها الذي أخذته الريح، لكنني خرجت مسرعة لكي أتلافى بركان دمع يكاد يطفر من قلبي، مُحافظة على شحنة الفرح وأنا ألتقيني في لحظة لا يجود الزمان بها.

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة