لاشك أن الرتابة وتكرار الأحداث والأفعال وردودها، عملية تثير السخط والسأم والتذمر، لاسيما إن طال أمدها وامتد عمر تطبيقها الى مالا أمل بانقضائه، وقطعا نحن العراقيين أول المعانين من هذا الحال، إذ يتفاقم لدينا الشعور بالملل اضعافا مضاعفة، لما يدور حولنا وندور حوله من أحداث. فيما يذهب البعض الى تمني بقاء الحال على ماهو عليه، خوفا من الانزلاق الى حال أردأ وأسوأ بكثير، فبقاء نمطية العيش على وتيرة التكرار على نحو سيئ، خير من انحدارها ونكوصها الى ما لاتحمد عقباه.
ولم يتولد هذا الشعور في الفرد لولا احتكاكه المباشر والدائم بالأحداث السيئة المحيطة به، فعلى سبيل المثال مايسمعه في نشرات الأخبار اليومية المحلية التي تنقل له كما هائلا من صولات التحالفات والائتلافات، وعددا مهولا من جولات المؤتمرات التي تعقد هنا وهناك، وهو أمر من المفترض أن يفرحه ويدخل البهجة في نفسه، لكن الصدمة تكون في جدوى تلكم اللقاءات، إذ سرعان ما يكتشف المواطن بعد لهفته وتشوقه للنتائج، أنها لم تكن إلا حقنا مخدرة تسكن فيه جانبا من التساؤلات، خشية الانتفاض والتمرد والثورة على ماأوصله اليه المتحالفون والمؤتمرون، مايدفعه للظن أنه ضحك على الذقون، الأمر الذي يفتح ثغرات فيما يحيطه، يتسرب من خلالها اليأس وتغلق أمامه منافذ الأمل.
ويبدو ان تدخلات الساسة في ديمومة هذه الرتابة مدروسة نتائجها، وهم ليسوا (غشمه).. فواضح جدا أن أحداث اليوم هي ذاتها أحداث الأمس، وليس بمستبعد -بل هو مؤكد- أن أحداث الغد هي ذاتها أحداث اليوم، وهكذا ستستمر خطى العراقيين بشرائحهم كافة على نسق ونمط ثابت، كما رسمه الساسة والقادة، والصورة التي يعيشها المواطن ستتكرر ذاتها يوميا وتفصيليا، وعليه تحمل تكرارها وأقلمة عيشه على اجترار يومه من أمسه، وغده من يومه.
فلو عدنا بالزمن الى ما قبل خمسة عشر عاما، وقلبنا جانب أعمال الحكومات التي تعاقبت على قيادة البلد، فإننا سنصطدم بحقيقة مريرة، تلك هي أن أحاديث البناء والإعمار وأقوال التخطيط والإنجاز، أكثر من الأفعال أضعافا مضاعفة، ولو أحصينا اللقاءات والاجتماعات المجراة من قبل ساسة البلد، واستقرأنا النتائج التي تمخضت عنها، لظهرت لدينا حقائق لاتسر صديقا ولا تغيظ عدوا. فبعد مضي عقد ونصف العقد على زوال النظام المتسبب بتدني حال البلد، كان من المفترض أن ينحى خط النهوض منحى تصاعديا بوتائر سريعة، وكان حريا بقادة البلد أن يحققوا قفزات نوعية وكمية هائلة، في مجالاته الصناعية والزراعية والطبية والخدمية على مستوياتها كافة، أما مبررات الفشل ومسوغات التلكؤ، فإنها لم تعد مقبولة البتة، فالمنطق يسقطها بسقوط المسبب وانقشاع غيمته، من سماء الفعل والقول والضغط والتأثير على حد سواء.
ويتضح جليا لأي متتبع للأخبار السياسية في العراق الجديد، ان مفردة (ضغوط) في خطابات الساسة والمسؤولين وتصريحاتهم، تكاد تكون أكثر الكلمات المستخدمة والجارية على ألسنتهم. فهم لايألون جهدا في التشكي من ضغوط الحزب الفلاني، اوالكتلة العلانية، وقطعا قبل هذا وذاك الضغوط الدولية والإقليمية. وعلى مايبدو ان الشماعة التي دأبوا على تعليق أخطائهم عليها، باتت مزدحمة بسلبياتهم وإخفاقاتهم، فاستحدثوا شماعة جديدة لتعليق مااستجد من (بلاويهم). يوهمون به أنفسهم ويخدعون به رعيتهم، فكأنهم قرروا وعزموا ان لايقدموا شيئا يخدم البلاد والعباد، مقابل أعذار جاهزة يتذرعون بها بالرتابة والنمطية والاجترار ذاته. وهم ظنوا ان اتباعهم هذا السلوك في التملص من إتمام المسؤوليات الملقاة على عاتقهم، ينجيهم من وضعهم في قفص الاتهام عاجلا او آجلا، وقطعا هذا ناتج عن أمنهم واطمئنانهم لجانب العاقبة والعقاب، وقد قيل سابقا؛ (من أمن العقاب ساء الأدب).