حتى إذا لا يستطع أحد الإثبات بالدليل القاطع أنّ العملية الانتخابية الأخيرة باطلة شكلاً ومضموناً، فإن هذه العملية تظل مُنتَقَصاً من شرعيتها ومطعوناً في سلامتها لجهة الخروق الكثيرة التي شهدتها، وسوء إدارتها.
لم تكن العملية الانتخابية قد بدأت بعد، بحسب الروزنامة الرسمية لمفوضية الانتخابات، عندما أطلقت القوى المتنفّذة في السلطة حملة انتخابية صريحة وباذخة، بتعليق صور عملاقة لزعماء القوائم الانتخابية في الشوارع والساحات وعلى أسطح المباني. المفوضية لم تحرّك ساكناً برغم تأكيدها أنها ستمنع “كل شكل من أشكال الدعاية الانتخابية” قبل الأوان، وكان ذلك واحداً من أشكال الدعاية في الواقع. وخلال الفترة الرسمية للحملة الانتخابية تجاوز الكثير من القوائم المتنافسة على بعضها البعض وعلى نظام الحملات الانتخابية. كلّ ما فعلته المفوضية أنها أعلنت عن توقيع غرامات مالية على البعض من هؤلاء من دون تسمية المتجاوزين ونوع التجاوز المرتكب ومكانه وتاريخه (اقتصرت التسمية على الكيانات)، ما فُسّر بأنه تهاون مع المتجاوزين.
في أيام الانتخابات الثلاثة برزت مشكلات كبيرة لا تتعلّق فقط بنظام الانتخاب الإلكتروني بل أيضاً بقدرة الناس على ممارسة حقهم الدستوري في انتخاب ممثليهم.. مئات الآلاف من البطاقات الانتخابية لم تصل الى أصحابها، وبخاصة في مناطق ومخيمات النزوح، وآخرون حيل بينهم وبين الانتخاب لعدم تحديث بطاقاتهم الانتخابية مع أن المفوضية أعلنت أنها ستقبل بالبطاقات القديمة مُدعمة بواحدة من وثائق إثبات الشخصية.
أما عملية العدّ والفرز وإعلان النتائج الأولية ثم النهائية فثمة الكثير من الشكوك حولها والطعون في صدقيتها .. ما زاد من الشكوك وعمّق من الظنون أنّ هذه العملية أخذت وقتاً طويلاً، فقد تغيّرت مواعيدها المرّة بعد الأخرى، ومجلس المفوضية لم يقدّم ما يقنع بالأسباب المُعلنة ولا ما يفسّر كلّ ما اعتور العملية من ارتباك واضطراب وفشل. وما عمّق من الشكوك والظنون أنّ مجلس المفوضية رفض رفضا باتاً وقاطعاً فكرة إجراء عملية عدّ وفرز يدوية في بعض الصناديق والمراكز، مع أنّ مثل هذا غالباً ما يحدث حتى في بلدان ديمقراطية عريقة عندما تُثار الشكوك بشأن النتائج.
بالطبع، لم يكن ذلك كلّه غير متوقع، فالمفوضية نتاج عملية سياسية لم تكن أبداً سليمة وصحيحة بسبب استنادها الى نظام المحاصصة الذي تشكّلت على أساسه هذه المفوضية كما سابقاتها.
في الأيام الأخيرة التي شهدت إعلان النتائج على نحو متقطع، تطوّرت الأمور داخل مقر المفوضية العليا الى العراك اللفظي وبالأيدي والأرجل أيضاً، فقد تعرّض أعضاء في مجلس المفوضية الى ضغوط من زعماء القوى والأحزاب التي اختارتهم لعضوية مجلس المفوضية ومن مرشحين متنفّذين فيها من أجل تعديل النتائج وتحويل الخسارة الى فوز. أحد هؤلاء كان رئيس إحدى السلطات العليا في الدولة ..!
بالتأكيد، هذا كلّه ما كان سيكون لو كانت المفوضية هيئة مستقلّة فعلاً كما وصفها الدستور. وكل هذا ما كان سيكون لو كان قانون الانتخابات قد شُرّع بصيغة تنظّم العملية الانتخابية بعدل وإنصاف وشفافية .. وكلّ هذا ما كان سيكون لو لم تعمد الطبقة السياسية المتنفّذة الى ركن الدستور جانباً واعتماد نظام المحاصصة بديلاً عنه .. بل كلّ هذا ما كان سيكون لو لم تكن لدينا طبقة سياسية متنفّذة فاسدة مفتقدة الروح الوطنية.