3 نوفمبر، 2024 12:20 ص
Search
Close this search box.

المثقفون وخيار المقاومة

المثقفون وخيار المقاومة

عندما يواجه امرؤ ما أو مجتمع معين مأزقا ما أو معضلة معينة، تكون ردود أفعاله تجاه الوضع الجديد معبرة عن بنائه النفسي، الذاتي منه واﻻجتماعي. وهذه الردود كما هي تعكس رغبته فإنها تعكس أيضا قدرته الواقعية على تجاوز الحدود التي رسمها الوضع الطارئ الجديد ، وترسم أيضا صورة المستقبل الذي ينتظره ما لم يقع ما يغير منهجه بصورة دراماتيكية . وبعيدا عن هذه التغيرات الدراماتيكية المفاجئة والخارجة عن سياق اﻻحداث ومسير اﻻمور والقضايا بوضعها المعتاد، فإن هذه الردود تأخذ منحيين إما إيجابي أو سلبي. وبكلمة أخرى فإن هذا المرء أما يعتبر الوضع الجديد طارئا وينبغي التخلص منه وإعادة اﻻمور إلى مسارها الطبيعي أو على الأقل يتمنى ذلك ، وإما يعتبره مسارا جديدا أنهى حقبة سابقة وعليه أن يعترف بحتمية وقوعه بغض النظر عن رضاه من عدمه كما يكره الواحد منا الموت ولكن ﻻ مجال مطلقا للفرار منه.
أصحاب الرد الثاني (نسميه أيضا السلبي) الذين يعتبرون المشاكل التي تعترض حياتهم قدرا مقضيا هم الفئة الغالبة عدديا في المجتمعات البشرية وتتصاعد نسبتهم في المجتمع كلما اتسمت المشكلة بالاستعصاء على الحل وأيضا كلما أخذت المشكلة طابعا جماعيا يشمل عددا كبيرا من المجتمع وربما تشمله كله كما في القضايا السياسية. وان يتسم رد فعل مجموعة كبيرة من الناس بهذا النوع من الرد السلبي سوف يدفع آخرين جدد إلى الاعتقاد بأن هذا السلوك الجمعي هو السلوك الصحيح ويخلق رأيا عاما يشكله عقل جمعي، كما سوف يعزز هذا العقل الجمعي عقيدة الكل بأن هذا هو السلوك العقلائي وإن أي سلوك غيره هو سلوك شاذ . وان هذا السلوك الشاذ ما هو اﻻ سلوك غريب وتغريد خارج السرب وكل خارج عن السرب سيكون صيدا سهلا لطوارق الدنيا. ويعرض صاحبه ومن تعلق به إلى المخاطر والتهلكة. وهذا مما سوف يعطي لمنهج السلبية بعدا جديدا ﻻ يتوقف في تضخم النسبة المتصاعد قياسا الى المنهج اﻻيجابي وحسب بل ويعطيه بعدا شرعيا وعقلائيا ويأخذ هذا المنهج السلبي مكانا اجتماعيا راسخا . ويبدأ بطرد اﻻتجاه المضاد الذي وصفناه باﻻيجابي ويحاصره. ليدخل هذا المنهج اﻻيجابي في محنة جديدة ليس من قبل أصحاب صناع المأزق والمشكلة بل يصبح محاصرا من مجتمعه . المشكلة سوف تتطور إلى مرحلة جديدة من مشكلة حلت بصنع صانع الى مشكلة جديدة وهي قبول هذه المشكلة على أنها أمر حتمي ومحاولة التصدي للمشكلة سلوك طائش.
هذا الاتجاه السلبي سوف يواصل مسيرته التوسعية داخل المجتمع ويدخل مرحلة الانشطار والتفرع. مجموعة سوف تنظر إلى الوضع الجديد على أنه وضع ممقوت وبغيض ولن تألوا جهدا في كيل كم هائل من السباب وانواع الشتيمة ولكن لن تحرك هذه المجموعة ساكنا واحدا لمحاولة زحزحة المشكلة ولو بمقدار قيد أنملة بل ترى الفرد الواحد في هذه المجموعة مستسلما بشكل تام للواقع وأقصى ما يقدر على فعله هو التشبث بحلول غيبية ويتوجه الى السماء يشكو لها وضعه الصعب منتظرا منها معجزة لن تأتي أبدا. المعجزة التي يبحث عنها قالت السماء عنها أنها (أي المعجزة المنشودة) لن تأتي اﻻ بتغيير نفسه قبل أن تحدث السماء أي تغيير وقالت له في مكان آخر على طريقة وسائل اﻻيضاح التربوية، أن امرأة طاهرة كانت في حالة وضع وليد مقدس. وعندما جاعت وهي في أشد ضعفها مضافا الى ضعفها كامرأة انشغلت بالعبادة طيلة حياتها، طلبت أكلا تتغذى بها فلم تفعل السماء شيئا لها ولم تستنزل لها طعاما جاهزا، بل قالت لها هزي إليك بجذع النخلة يتنزل إليك رطبا جنيا من هذه النخلة إلتقطيه وكلي. ومع أنه ﻻ يوجد شخص عاقل على كل هذه البسيطة يستنزل الرطب الجني بهذه الطريقة اي بهز جذع نخلة لكن السماء كانت واضحة جدا بأن ﻻ تدخل منها يحدث ما لم يسع اﻻنسان إلى تغيير حاله . السماء تريد أن تقول وبوضوح تام فقط افعل ما بوسعك ولو كان فعلك صغيرا حينها سوف أفعل ما علي وهذه سنة كونية لا تتغير. أما عندما ﻻ تفعل شيئا فلن تنفعك كل صلوات ودعواتك ولو ملأت الدنيا بها ضجيجا. السماء قالت إن الأرض ببرها وبحرها سادت بها المشاكل والمصائب بسبب السلوك الخاطئ واقترحت لحل هذه المشاكل السلوك الصالح ولم تقترح التغيير بالدعوات و الكلمات الفارغة من المعنى الواقعي بل قالت في غير مرة أن وظيفة العبادة الحقيقية هي النهي عن السلوك الخاطئ الذي أسمته الفحشاء والمنكر وعندما ﻻ تؤدي العبادة ذلك فليس لهذه العبادة إذن أي قيمة. فيا لهم من مساكين أولئك الذين يقضون أوقاتهم بالنحيب والشكوى والأنين للسماء لعلها ترأف بهم فلن يلتفت لكل ضجيجهم احد اما من يحاول التغيير فقط هو الذي سوف يجد آثار دعواته وصدى كلماته.
الشطر آخر من هذه المجموعة ذات رد الفعل السلبي هو الشطر الأكثر واقعية مع بنيته النفسية والفكرية وبدلا من حالة التناقض التي يعيشها ذاك الحائر التائه بين الواقع المرير وبين اﻻحلام الميتة واﻻمنيات المستحيلة ، يتخذ هذا القسم سبيلا اكثر واقعية باعترافه الكامل بالوضع الجديد بل حتى يطرد أي محاولة للتفكير بالتغيير ويعد مجرد الكلام عنه كلاما هراء ﻻ جدوى منه وهو في هذه الجزئية على حق فما كان بمقدور السباب والشتم يوما أن يغير حالا إلى حال آخر. أنما هو في حقيقة امره على خطأ كبير بل خطيئة حينما اعتبر ما هو طارئ دائما وما هو متغير ثابتا. هذه السلوكية اﻻستسلامية تدفع البعض منه إلى سلوك أكثر تطرفا وراديكالية وهي التحول إلى دعاة نشطين وفعالين لهذا الوضع الشاذ بل وحتى إلى محاربين اشداء ضد كل معترض عليه وان كان اعتراض همسات ﻻ أثر لها ﻻ اعتراض أفعال.
في الضفة المقابلة تقف مجموعة اﻻيجابيين التي ترى الوضع الجديد بمشاكله ومعضلاته وضعا استثنائيا يجب العمل على رفعه من الوجود أما بنسف بقائه كاملا أو بالالتفاف عليه من الداخل لتحطيمه وتغيير الحال نحو المسار الصحيح . أولئك هم قلة قليلة في المجتمع وتزداد ندرتهم عندما تبحث فيهم أصحاب الرؤى التغييرية. إذ ليس كل من يعمل على حل المشكلة يملك رؤية للحل، بل الكثير هو ممن يريد رفع المشكلة بأي وسيلة كانت. ومع أن هذه المجموعة الإيجابية أقلية في المجتمع اﻻ أن النافع منها بحق قد يكون نادرا للغاية في أحيان كثيرة. وقد تكون محاولات التغيير احيانا أكثر ضررا من بقاء المشكلة نفسها بأعمالهم العشوائية في محاولة التغيير.
اﻻستراتيجيون في مراكز التفكير وصنع القرار ماذا عليهم أن يفعلوا للوصول إلى غايتهم بالهيمنة على مجتمع ما وان يكون تحت سيطرتهم التامة. من أجل تمرير مشروعهم بصورة تامة. يضع اﻻستراتيجيون للغزاة خطة للوصول إلى غايتهم بتحديد هدفين إستراتيجيين وهما
اولا : وضع الشعب من أبناء المجتمع المستهدف في حالة من السلبية المزمنة.
ثانيا :وأد أي محاولة تغيير حقيقية واستهداف أصحاب الرؤية الحقيقية للتغيير.
ولتحقيق هذين الهدفين يتم العمل في البدء على صنع ازمة عامة ومن ثم يبدأ العمل على
1- إشاعة ثقافة الشكوى واﻻنين والسب والشتم وإبراز الجوانب السلبية في كل مكان في المجتمع وأحيانا حتى اختلاقه، المهم أن تنمو الحالة السلبية وهي حالة من الطبيعي جدا نموها بحسب طبيعة الانسان وتعمل هذه القوى على أن يعيش المجتمع في سوداوية تامة وﻻ يرى اﻻ الجوانب السلبية حتى يتقبل الفكرة اﻻساسية وهي إن الوضع الفاسد ﻻ أمل بالخلاص منه وأنه المصير المحتوم الذي ﻻ فرار منه ويدب اليأس في النفوس وعندما يصل إلى هذه المرحلة فقد بدأ الشلل يسري في أجزائه ويعجز عن التفكير الصحيح ومهما بلغ احتجاجه واستنكاره لما يواجهه فإنه سيخترع حلولا عبثية لن تؤدي إلى شيء نافع بالمطلق سوى تكريس الهم.
2- تشجيع المعارضة الفوضوية التي ﻻ تملك رؤية للتغيير بفسح المجال أمامها للتحرك لكن تحت السيطرة وبدون إظهار أي مساندة علنية لها ، بل ربما مواجهتها من أجل تعميق دورها الاجتماعي وإظهارها على أنها الممثل الشرعي للمقاومة. كل هذا ﻻنها ﻻ تملك خطة عمل وﻻ رؤية للتغيير ومحاولاتها العبثية للتغيير سوف تدفع بالمزيد إلى خانة اليأس بعد الفشل المتكرر المصحوب بكثير من خيبة أمل كما بالضحايا المتساقطين في هذه المحاولات الفاشلة سواء بالذين يدفعون ثمنا غاليا جراء مشاركتهم في تلك المحاولات أو بالآخرين الذين يلجأون إلى اﻻنزواء تبرما من وضع الحركات التغييرية أكثر من الوضع الفاسد وبذلك تطيح الورقة الرديئة بالورقة الصالحة.
وإن فعل كل ذلك وتم كما يريدون فلنا أن نتصور ماذا سوف يحل بهذا المجتمع مجتمع يعيش السأم والملل ويرى كل شئ مظلما وﻻ نهاية لهذه الحقبة اﻻ بمعجزة وهو يعلم يقينا أنها لن تحصل في زمن انتهت فيه المعجزات. وقسم يريد التغيير إنما مشكلته انه محاصر من مجتمعه قبل عدوه ويبدو أما حالما أو مجنونا وربما حتى مخربا إن تجرأ في دعوته أو أفعاله التغييرية. وحركة عبثية من دعاة تغيير بلا رؤية أو تحركهم نزوات ومزاج شخصي سوف تخلق مجتمعا يعيش حالة من اليأس والاحباط التامين . وسيكون من السهل جدا التحكم به ﻻن اليائس يتحرك بأفعال هي أقرب منها للجنون من أي شئ آخر و أفعال صادرة من يائس هي تمهيد لانتحار لا لايجاد حل. مجتمع تسوده هذه اﻻخلاق والتفكير سوف يلجأ أفراده وجماعاته إلى تبني أي ظاهرة تشكل تمردا وعبثا بالقيم الأخلاقية والاجتماعية التي تربى ونشأ عليها وهنا يأتي دور الغزاة الذين سوف يضخون لهذا المجتمع كل سمومهم الفكرية والسلوكية والتي تشجع كل أنواع الانحرافات الأخلاقية فلا عجب أن ترى الزواج المثلي يصبح حقا إنسانيا وحرية شخصية ويجب أن يمارس بجو عام ولن يكون غريبا أن تنتشر ظاهرة تعاطي المخدرات جنبا إلى جنب مع انهيار الأسرة وتفكك الروابط الاجتماعية. هذا وغيره من الظواهر السلبية التي سوف تطيح بالمجتمع لن يكون بلا تدخل خارجي، حتى مع توفر كل الظروف المناسبة والبيئة الصالحة لنمو هكذا ظواهر إلا أن دور المنظمات التي تعمل تحت عناوين كثيرة سيكون هو الشرارة التي تشعل النار في الهشيم . وهذا هو الذي يحصل في بلدنا والمنطقة العربية والشرق أوسطية بالتحديد وحرصت أمريكا وكيانها الصهيوني على فعله بأناة وصبر شديدين و استدرجت أنظمة وقوى لمخططها بأساليب ماكرة خادعة وعمل معها آخرون طوعا إرضاء لرغبات ونزوات شخصية .
إن نعرف كل هذا ليس بكاف لوحده ، بل يجب أن نعمل بالضد منه وأول العمل هو الوعي بالمخطط وتحديد العدو الحقيقي ومن ثم إن نتخذ هذا العدو عدوا لنا بأن لا نغفل عنه ولا يصيبنا مكره وخداعه فنظن به خيرا في ساعة غفلة. وعلينا أن نشكل درعا مقاوما يستهدف كل مخططات العدو وهي مخططات كثيرة ليس أخطرها العسكري كما قد نتوهم بل هدم المجتمع وتغريب عناصره المثقفة الواعية وعزلها هو المخطط الأخطر ﻻنه بغياب المثقفين ذي الوعي سيكون أي مجتمع صيدا سهلا للغزاة. وهنا على المثقفين أن يدركوا خطورة عزلهم المتعمد وانعزالهم وتخليهم عن دورهم. دورهم في كل مجتمع هو قيادته إلى أفق جديد ﻻ يراه غيرهم واذا تخلوا عن هذا الدور فسوف يأتي آخرون محلهم ولشديد الأسف سوف يكونوا من الجهلة وسوف لن ينجو أحد في مركب يقوده جهلة . المثقفون هم المستهدفون وهم الحل أيضا ﻻنهم الدرع الذي يحمي المجتمع بوعي وحركته . أما العلم بلا عمل فلن يكون إلا وبالتالي على صاحبه وغيره مثل نقود البخيل يكتوي بها ولم يذق طعمها. المفو مطالبون بالتصدي وتشكيل درع مقاوم يقودوا به المستضعفين في معركة هزم الغزاة ورفع كل المصاعب والمشاكل التي خلقها غرباء جاءوا بأفكار الأبالسة ليستولوا على كل المقدرات .

أحدث المقالات