اولا- في 18/3/2018 جرت الانتخابات الرئاسية في روسيا الأتحادية ، وشارك فيها 8 مرشحين ، ويمكن القول أن الصراع الرئيس حول رئاسة روسيا كان ولايزال بين حزب السلطة – حزب روسيا الموحدة اي بين فلاديمير بوتين المرشح ( المستقل ) والمدعوم من قبل الحزب الحاكم ، ، وبين الحزب الشيوعي الروسي ، أما القوى الليبرالية المشاركة في الانتخابات فليس لها وزن وتأثير ملموس في الساحة السياسية في روسيا بالرغم من دعم الغرب واميركا لها ،اما بقية المرشحين الأربعة فهم ” حلفاء – اصدقاء ” لحزب السلطة وكان دورهم أشبه باللعبة السياسية والمسرحية الفاشلة وتم ذلك تحت غطاء <الديمقراطية > والمناظرات السياسية .
يلاحظ أن جميع المرشحين كانوا يشنون هجوما منظما عبر المناظرات السياسية التلفزيونية على مرشح الحزب الشيوعي الروسي بافل غرودين ، حتى وصلت بهم الوقاحة للتعرض لاموره الشخصية بهدف تشويه سمعته أمام الجمهور الروسي الناخب ، وكان هذا الهجوم افتراء ومخطط له مسبقا ،علما أن فلاديمير بوتين كمرشح ” مستقل ” لم يشارك في المناظرات السياسية .
ثانيا – ان الخطأ الكبير الذي ارتكبته قيادة الحزب الشيوعي الروسي في الانتخابات الرئاسية هو ترشيحها لمرشح من خارج اطار الحزب الشيوعي الروسي ، الا وهو بافل غرودين ،الذي هو ( صديق الحزب ورجل اعمال ثري وناجح ،كرئيس “مزرعة ” لينين ، ويقال عنه انه كان عضوا في حزب السلطة الحاكم ، حزب روسيا الموحدة )!!.
يمتلك الحزب الشيوعي الروسي من الكوادر السياسية والاقتصادية والاجتماعية … ومن ذوي الخبرة والتجربة في ميدان ادارة الدولة ما يؤهلهم لقيادة الدولة الروسية ،وكان الأجدر بقيادة الحزب الشيوعي الروسي منذ انتهاء الانتخابات الرئاسية عام 2012 من أن تدرس وتقيم النتائج السلبية على دور الحزب ، وأن يتم تشخيص رفيق مؤهل لهذه المهمة ويتم اعداده خلال الفترة 2012 -2018 ،وكان بامكانه الحصول على نتيجة ايجابية بما لا يقل عن 30 -35 % من الاصوات ، وليس كما حصل بافل غرودين على ما يقدر 12 % من الاصوات .
ان السياسة الاصلاحية التي اتبعتها قيادة الحزب الشيوعي الروسي منذ عام 1992 ولغاية اليوم قد افرزت نتائج سلبية على دور ومكانة الحزب الشيوعي الروسي في المجتمع .وأثبتت الحياة وبالملموس فشل النهج الاصلاحي ، والدليل على ذلك الانتخابات الرئاسية لعام 1996 فكثير من الأدلة والتصريحات قد أكدت فوز زوغانوف بالرئاسة ، الا أن هذه القيادة كانت غير حازمة ومترددة ، بالرغم من أن يلتسين قد انفق على حملته الانتخابية 50 ترليون روبل بما يعادل 10 مليار دولار في حينها علما أن الدستور الروسي قد حدد لكل مرشح نحو 14 مليار روبل ، وحتى زوغانوف لم يحصل على المبلغ المخصص دستوريا كما اعلنت الصحف الرسمية في وقتها .
ان من اهم النتائج السلبية لهذا النهج الاصلاحي هو تقلص عدد اعضاء الحزب الشيوعي الروسي من 500 الف عضو بعد تفكك الاتحاد السوفيتي الى 165 الف عضو لغاية عام 2017 ، وتقلص عدد اعضاء الحزب واصدقاؤه (كتلة الزراعيين …) في مجلس الدوما (البرلمان ) من 218 عضوا الى 50 عضوا لعام 2018 ، ونعتقد في حالة عدم اشراك الحزب الشيوعي في الحكومة الروسية وبشكل فاعل وجاد ، على قيادة الحزب الشيوعي الروسي ان تنتقل الى المعارضة السياسية الوطنية السلمية ، لأن دورها في البرلمان لا يقدم ولا يؤخر ولا يؤثر على القرارات والقوانين التي يشرعها الحزب الحاكم وحلفاءه في البرلمان ، بل وجود الحزب الشيوعي في البرلمان وفي هذه الحالة يشكل عاملا سلبيا على دور ومكانة الحزب الشيوعي في المجتمع الروسي ، وانتقال الحزب الشيوعي للمعارضة السياسية السلمية سيكون لصالح روسيا والمجتمع الروسي بالدرجة الاولى .
ثالثا- لقد كان فوز فلاديمير بوتين كمرشح ” مستقل ” مضمونا 100% ويعود السبب الرئيس كونه يقود روسيا فعليا منذ عام 2000 ولغاية اليوم ، وان اجهزة السلطة التنفيذية والتشريعية والمال والاعلام … كلها في خدمة الرئيس بوتين اضافة الى غياب التكافؤ بين المرشحين بالمال والاعلام والنفوذ بالسلطة ، كما أن معارضته لنهج اميركا قد اكسبه وزنا وتأيدا شعبيا كبيرا من الشعب الروسي ، لأن الشعب السوفيتي بشكل عام والشعب الروسي بشكل خاص يدرك وبشكل جيد ان جميع الكوارث والمشاكل التي حلت بهم سببها الامبريالية الاميركية وحلفاءها ومؤسساتها الدولية المتوحشة والمتمثلة بصندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية وغيرها.. وبسبب هذه العوامل فأن فوز بوتين مؤكد وبلامنازع بدليل حصوله على 77% من الاصوات وبافل غرودين حصل على المرتبة الثانية بما يقارب من 12% ، وحتى لو افترضنا كان هناك تزوير وتلاعب بالنتائج ،فهذا التزوير لا يتعدى نسبة 10 -15 % في افضل الاحوال وهي تكاد تكون قاعدة معروفة في ظل انتخابات المجتمعات البرجوازية ،لذا فأن بوتين يفوز بالجولة الاولى وبلا منازع حقيقي له .
رابعا – ان الوضع الاجتماعي – الاقتصادي الداخلي في روسيا يعد وضعا معقدا وصعبا ومتناقضا بسبب الاستمرار بالنهج الليبرالي – النيولبرالي المتوحش في الميادين الاجتماعية والاقتصادية الذي لا يمثل مصالح الغالبية العظمى من المواطنين الروس ، بل مصالح الطغمة المالية المفرطة في وحشيتها .
ان اسؤ واخطر افرازات النهج السياسي الاقتصادي – الاجتماعي المعمول به منذ عام 1992ولغاية اليوم والتي تشكل اليوم اكبر تحدي حقيقي وملموس أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحزب السلطة والمجتمع هي كالأتي : (1) تفشي ظاهرة الفساد المالي والاداري ” الرشوة ” في المجتمع فهي اشبه بمرض السرطان في جسم السلطة والمجتمع .(2 ) تنامي معدلات الفقر والبطالة وخاصة وسط الشباب وانخفاض الدخل الحقيقي للغالبية العظمى من المواطنين الروس .(3 ) استمرار تعمق الفجوة الاجتماعية – الاقتصادية في المجتمع لصالح الأوليغارشية اللصوصية ،بدليل في عام 2017 بلغت ثروة 200 مليارديرروسي نحو 485 مليار دولار ، وهذا يشكل اكثر من الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي وهي تعمل لصالح الاقتصاد الغربي بالدرجة الاولى . (4 )هناك مشاكل حادة تواجه القطاعات الانتاجية (صناعة ، زراعة …) والقطاعات الخدمية ( تعليم ، صحة ، سكن …) .(5 ) استمرارعملية هروب روؤس الاموال الروسية للخارج بدليل تهريب 60 ترليون روبل بما يعادل ( خمسة ميزانيات للحكومة الروسية وهي ايضا تعمل لصالح الاقتصاد الرأسمالي في الغرب الأمبريالي .( 6 ) يتسم الاقتصاد الروسي بالاقتصاد الريعي ، حيث تبلغ الايرادات المالية لبيع ( النفط ، الغاز ، الماس … ) نحو 20 ترليون روبل ، يدخل منها للخزينة فقط 8 ترليون روبل . ( 7 ) يواجه المجتمع والنظام والاقتصاد الروسي خطر هيمنة رأس المال الأجنبي على أهم فروعه وتبلغ نسبة الهيمنة مابين 45-95% وهذا يشكل خطرا جديا وتمهيديا للأستغلال الاقتصادي والسياسي لروسيا كمجتمع وكنظام حاكم . هذه هي بعض أهم وأسؤ افرازات التحول من الاقتصاد الاشتراكي الى الاقتصاد الرأسمالي التابع والمتوحش
خامسا – من أجل وضع حلول جذرية للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تواجه النظام الحاكم في روسيا اليوم يتطلب اتخاذ ما يلي : (1) العمل الجاد على التغيير الجذري للنهج الاجتماعي – الاقتصادي المعمول به منذ عام 1992 ولغاية اليوم . (2) تغيير جذري في بنية وتركيبة الحكومة الروسية من خلال ابعاد العناصر الليبرالية الموالية لأميركا وحلفاءها ومؤسساتها الدولية ، وكما نعلم أن 80% من النخبة التنفذة في السلطة هي موالية لأميركا والمؤسسات الدولية ، وان هذه النخبة تتحكم بأهم المفاصل الاقتصادية والمالية . (3)العمل الجاد على تعزيز دور ومكانة الدولة في المدان الاقتصادي – الاجتماعي لصالح المجتمع الروسي . (4) ضرورة اعادة النظر ببرنامج الخصخصة منذ عام 1992 ولغاية اليوم وفق القانون ولصالح المجتمع الروسي . (5) الخروج من منظمة التجارة العالمية لانها منظمة دمار وتخريب لاقتصاديات الدول وروسيا اليوم أنموذجا . (6) العمل على تعزيز الرقابة الشعبية على السلطة التنفيذية وفق القانون ولصالح المجتمع . (7) ينبغي تعزيز الرقابة الحكومية والشعبية على السلع المستوردة – السلع الغذائية والأدوية والمشروبات الكحولية -،لان معظمها غير صالحة للاستهلاك . (8) العمل على اشراك الحزب الشيوعي الروسي في الحكومة الروسية لما له من خبرة وتجربة في ادارة الدولة . (9) العمل على تحجيم دور ومكانة الأولغارشية الروسية الطفيلية في الميدان الاقتصادي والمالي . (10) العمل على جعل الموارد الطبيعية ( غاز ، نفط ، ماس ،غابات …) ملكا للدولة وتحت اشرافها المباشر . (11) جعل صناعة الدخان والمشروبات الكحولية تحت مراقبة الدولة المباشر وعدم تركها في يد القطاع الخاص الماوفوي ، حيث تفقد روسيا سنويا نحو 40 الف مواطن بسبب ردائة المشروبات الكحولية والدخان .
ان هذه الاجراءات وغيرها من المهام الرئيسية امام الرئيس بوتين بهدف تعزيز دور ومكانة الدولة في الميدان الاجتماعي والاقتصادي لصالح المجتمع الروسي والحفاظ على وحدة روسيا ارضا وشعبا ، ان تحقيق هذه الاجراءات سوف يساعد على تعزيز الاستقلال الاقتصادي والسياسي لروسيا الاتحادية ، فلا قيمة للتحرر السياسي بدون التحرر الاقتصادي ،وهذا سوف يساعد على تعزيز دور ومكانة روسيا على الصعيد الاقليمي والدولي وبالتالي سوف يتم توافق وانسجام بين السياسة الداخلية والخارجية لروسيا الاتحادية .
ان عدم تحقيق ماتم ذكره اعلاه،فان روسيا ستكون معرضة لمخاطر جدية من الداخل من خلال < اصدقاء وحلفاء اميركا ومؤسساتها الدولية > لأن هدف الغرب الامبريالي بزعامة اميركا كان ولايزال هو العمل على تفكيك روسيا الى دويلات مستقلة وتقويض رأس النظام في موسكو وبسط هيمنتها ونفوذها السياسي والاقتصادي على موارد روسيا وخاصة الموارد الطبيعية وتحويلها الى بلد تابع ومصدر للمواد الخام الأولية .
ان توتر العلاقات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية بين أميركا ودول الاتحاد الاوروبي من جهة وبين روسيا من جهة اخرى يعكس حدة التناقض بين واشنطن وموسكو وبنفس الوقت يعكس تفاقم أزمة النظام الامبريالي بزعامة أميركا وفي كافة الميادين .
في تموز عام 1927 حذر الرفيق ستالين من خطر وسائل النظام الامبريالي تجاه الشعوب وبااستخدام كافة الاساليب اللاشرعية والقذرة والخارجة عن القانون الدولي ، وما حدث ليوغسلافيا والعراق وسوريا وليبيا وغيرها الا دليل حي وملموس على ذلك . لقد أكد ستالين ( ليس غريبا من أن الامبريالية تحضرالى حرب جديدة وهي السبيل الرئيس لمعاجة أزمتها وان الانفاق العسكري الخيالي ” تجاوز في أميركا اكثر من 700 مليار دولار ” يشكل اليوم الاتجاه العام للحكومات البرجوازية وعلى اساس اسلوب فاشي للأدارة ـ ان كل هذا التباين والاختلاف لهذه الظاهرة التي تعني التحضير الى حرب جديدة من أجل تقاسم العالم ) .
فالمستقبل القريب سيكشف لنا مفاجآت كثيرة .
*انظر مقالتنا ” من سيحكم روسيا بعد عام 2024 ” الحوار المتمدن في 20/2/2018