تمتلك معظم دول العالم مراكز بحوث ودراسات استقصائية تختص باستقراء آراء الشارع وتعمل جاهدة لأشهر عدة عشية كل انتخابات برلمانية أو رئاسية أو حتى بلدية لغرض تقديم التكهنات للجمهور بشأن من سترجح له كفة الميزان. أما دولنا العربية، فقد وفرت على نفسها الشقاء والعناء ويكفي أن تسأل بائع كفته على ناصية الشارع عمن سيفوز لتتلقى الإجابة خلال ثوان عدة ومعها ابتسامة مجانية بان الوجوه نفسها ستبقى ولا حاجة لتثقل عليه بسيل من الاستفسارات عن الأسباب فوقته ثمين يصارع فيه ليؤمن لقمة عيش لعياله.
لم يعد الحكام العرب بحاجة اليوم للجوء لعمليات تزوير نتائج الانتخابات كما كان معمول به في السابق ليبقوا ويتمددوا، فتلك الأساليب ما عادت ناجعة في ظل فضاء واسع من وسائل الإعلام المختلفة ووجود رقابة محلية وأخرى دولية فضلا عن استخدام الأقمار الصناعية كوسيلة للعد والفرز، فالحرب على الإرهاب وشعارات مكافحة الفساد وفرت بيئة خصبة للأنظمة الحاكمة لإقصاء منافسيهم وإبعادهم عن الساحة تارة بالترهيب وتلفيق التهم، وتارة بالترغيب عبر الاتفاق على تسنم مناصب بعينها مقابل ترك الترشح، وبالتالي ليس من الغريب البته أن يحصد المرشح الرئيس الحاكم المفدى على نسب تصل لـ99 بالمائة حتى وإن كانت نسبة المشاركة لا تتجاوز الـ51 بالمائة من مجموع الشعب بعد أن انفرد قائد الضرورة واستفردت لافتاته الدعائية العرصات والطرقات، فالانتخابات لدى العرب ما عادت أكثر من كرنفالات تتجدد فيها البيعة للسلطان وليس اختيار ما هو جديد غير مجرب لربما سيتسبب هذا الطارئ الدخيل بالضرر للدولة في ظل ظروف شاذة ومؤامرات كونية يحوكها غزاة ضد الأمة في مجرات شمسية بعيدة.
يقول ابن خلدون إن “الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها”، وهي نظرية تناقض ما يعتقد به الكثيرون بأن الشعوب تثور وتنتفض بعد أن تُضيق عليها الحريات وتشعر بالتهميش والإقصاء
الأنظمة العربية الحاكمة حرصت منذ عقود على مواصلة التثقيف باتجاه شيطنة دعوات التجديد وروجت لفوبيا التغيير حتى برزت شريحة واسعة من المجتمع وتحديدا بعد الفوضى التي تمخضت نتيجة إجهاض ثورات الربيع العربي لان تميل لاختيار زعيم قوي باطش ودكتاتور تظن إنها ستشعر في أحضانه بالأمان وان كان المقابل التخلي عن مزيد من حريتها وحقوقها، وهو واقع يناغم ما ذهب إليه الكاتب الأميركي “جريجري جوز” في إحدى مقالاته في “Foreign Affairs” حيث دعا الولايات المتحدة ألا تشجع الديمقراطية في العالم العربي لأن حلفاء واشنطن من العرب السلطويين يمثلون رهانات مستقرة حسب وصفه.
لم تترك الأنظمة العربية وسيلة تبرر غايتها في الحفاظ على مكاسبها إلا ولجأت إليها، فدقت أبواب بعض مراجع الدين لتتخذ منهم راحلة تحمل أسفارهم الانتخابية المبشرة بعهد جديد ولكن ليس نعيم الدنيا والعيش الرغيد بل إلزام المشاركة في الانتخابات شرعا واختيار المغوار الذي يرفع راية المقاومة والممانعة ضد مشاريع الغرب “الكافر” الذي يسعى لسلخ الأمة عن دينها، فتهب الجموع التي يملؤها الكره والتواقة للثأر من الامبريالية لتلبي النداء وتسارع لتكحل أصابعها بحبر تخضب به أوراق توكل فيه أحزاب اتشحت بثوب الدين لمجرد إنها أقرنت أسمائها بكلمة “الإسلام” جاهلة تلك الجماهير إنها اعترفت وأقرت للطغاة ليستعبدوهم عقود أخرى.
يقول ابن خلدون إن “الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها”، وهي نظرية تناقض ما يعتقد به الكثيرون بأن الشعوب تثور وتنتفض بعد أن تُضيق عليها الحريات وتشعر بالتهميش والإقصاء متغنيين بأبيات شعر حاكها بعض الحالمون وهم يتكئون على وسائد من حرير، وهو ما رصده الأديب المصري مصطفى الرافعيّ الذي قال “إن الشعب الذي لا يجد أشياء كبيرة يتمجد بها هو الذي تُخترع له الألفاظ الكبيرة ليلتهي بها”، لهذا نجد بعض الأنظمة العربية تمنح شعوبها قدر كبير من الحرية الاجتماعية الكفيلة بغسل الأدمغة وتفريغها من أصلها وبالتالي فإن الأمم التي تكف عن الشكوى تكف عن التفكير كما قال نابليون بونابرت، في المقابل فإن هذه الأنظمة نفسها تضع قيود من حديد ونار إزاء أي عمل سياسي معارض بحجج وذرائع أبرزها منع التخابر والتآمر، فكان حرص الحكام العرب بالحفاظ على مكاسبهم جعلهم يتبنون شعار واحد وهو “العروش مقابل النعوش”.