الانتخابات البرلمانية العراقية المنتهية للتوّ، لم تُشبه سابقاتها منذ أول انتخابات لمجلس النواب في عهد ما بعد صدام في 2005. هذه المرة اختفت الكتل الكبيرة المتشكّلة على أساس طائفي (شيعي – سني) وقومي (عربي – كردي). ومجلس النواب المُنتخب للتوّ سيتكوّن من عدد مضاعف من الكتل، لكن بأوزان أدنى، فالكتلة الشيعية الكبرى (الائتلاف الوطني) ليس مرجّحاً أن تعاود الظهور بعد الانشقاقات العديدة التي ضربتها: «التيار الصدري» خرج منها وخاض الانتخابات مع الحزب الشيوعي وجماعات مدنية أخرى، «ائتلاف دولة القانون» انشقّ إلى جماعتين يقود الأولى رئيس الوزراء حيدر العبادي، والثانية رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، «تيار الحكمة» بقيادة عمار الحكيم نشأ خارج المجلس الأعلى الإسلامي منفصلاً عنه. جماعات شيعية أخرى شكّلت قائمة منفردة ضمّت الجماعات المسلحة التي التحقت بهيئة «الحشد الشعبي»، وخاضت الانتخابات بقيادة زعيم «منظمة بدر» هادي العامري الخارج من «ائتلاف دولة القانون» و«الائتلاف الوطني».
الكتلة السنّية انشطرت هي الأخرى، وتوزّعت جماعاتها ما بين قوائم طائفية صغيرة، أو ذهب بعض زعمائها إلى «ائتلاف الوطنية» بزعامة إياد علاوي. الكرد الذين أظهروا في الماضي تجانساً أفضل من سواهم تفتّتْ وحدتهم، ولم يعد التحالف الكردستاني مظلّتهم الموحدة. صار لكل حزب قائمة سيكون تمثيلها ضعيفاً داخل البرلمان المقبل، وستسعى للالتحاق بالكتل الشيعية أو السنية لتضمن دوراً في الحكومة المقبلة، ومن المرجّح أن يحتفظ الحزب الديمقراطي الكردستاني بالصدارة بينها، ما يؤهله ليكون شريكاً مفضلاً لمن يشكّل الحكومة المقبلة.
ومن أهم ما ميّز هذه الانتخابات كذلك، أن نسبة المقاطعة أو العزوف التي كانت من سمات كل العمليات الانتخابية السابقة، ارتفعت هذه المرة بدرجة لافتة، فقد هبطت نسبة المشاركة من 60 في المائة في انتخابات 2014 إلى أقل من 50 في المائة، وهو ما كان متوقّعاً ومثّل عقوبة من الشعب للقوى المتنفّذة، وبخاصة قوى الإسلام السياسي التي شعر الجمهور الذي ادّعت تمثيله أنها قد خذلته بعد 15 سنة من توليها السلطة بعد سقوط نظام صدام.
الشيعة، وهم الكتلة السكانية الأكبر، لم يلمسوا من الأحزاب التي نطقت باسمهم وباسم «مظلوميتهم»، أي مساهمة في تحسين أحوالهم المعيشية، ووضع حدّ لتلك المظلومية… العكس هو الصحيح، فالسكان الشيعة هم المتضرّر الأكبر من انهيار نظام الخدمات العامة (الصحة والتعليم والكهرباء والماء والصرف الصحي والنقل)، ومن ارتفاع مستويات البطالة والفقر. ومعظم الناس يدركون أن ذلك يرجع إلى انغمار قيادات الأحزاب الشيعية في الفساد الإداري والمالي، الذي ظلّت مستوياته تتصاعد العام بعد الآخر برغم التعهدات الحكومية بمكافحة هذه الظاهرة المتسببة في اختفاء مئات مليارات الدولارات من تخصيصات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وكان لما حدث في عهد الحكومة السابقة التي كانت بقيادة أكبر كتلة في البرلمان (الائتلاف الوطني العراقي) الشيعية، أثر كبير للغاية في زيادة نقمة الشيعة حيال «أحزابهم»، فمع أن المناطق التي احتلّها تنظيم داعش في ذلك العام كانت سنّية، إلا أن حصة الشيعة بين الضحايا كانت كبيرة، ففي يوم واحد، مثلاً، قتل التنظيم الإرهابي في مجزرة جماعية 1700 من الشبّان الشيعة المتدربين في معسكر سبايكر الذين تُرِكوا لمصيرهم بعد انسحاب قوات الجيش والشرطة من المنطقة المحيطة بالمعسكر على غرار ما حصل في سائر المناطق التي احتلها «داعش» دونما مقاومة. كما أن ضحايا الحرب ضد «داعش»، ومن أجل استعادة المناطق المحتلة في السنوات اللاحقة، كانوا في معظمهم شيعة من منتسبي الجيش والشرطة الاتحادية و«الحشد الشعبي». ولطالما اشتكت عوائل المقاتلين الذين قضوا في تلك الحرب من أن «حكومتهم» لم ترعَ مصالحهم على النحو المتوجب، ما زاد من الشعور بالنقمة وخيبة الأمل حيال الأحزاب الشيعية وحكومتها.
أما بالنسبة للسنة، فكانت نقمتهم حيال «أحزابهم» هم أيضاً كبيرة. سياسات هذه الأحزاب ركّزت على إثارة النزعات والنزاعات الطائفية، ما أدى إلى حصول كارثة الاحتلال «الداعشي». والنقمة على الأحزاب السنية تفاقمت أكثر بعد الاحتلال الذي تسبب في نزوح معظم سكان المناطق السنية، وعيشهم في مخيمات بائسة افتقدت إلى أبسط شروط العيش. ومما زاد الشعور بالعداء لهذه الأحزاب أن قياداتها استغلّت المحنة لتستحوذ على قسم من الأموال المتدفّقة من الداخل والخارج، المخصصة لإغاثة النازحين.
في إقليم كردستان لم تكن الصورة أفضل، فالغالبية من الكرد وجدت أن أحزابهم لم تكن عند مستوى ما حقّقوه من مكتسبات وما كان مأمولاً لتعزيز هذه المكتسبات. قيادات الأحزاب الكردية هي الأخرى انغمرت في عمليات الفساد الإداري والمالي، وانخرطت في الصراع فيما بينها على السلطة والنفوذ والمال. وكان لسوء التقدير (لجهة التوقيت خصوصاً) في تنظيم الاستفتاء على حق تقرير المصير في العام الماضي، أثره البالغ في زيادة النقمة على هذه الأحزاب، فعملياً خسر الكرد الكثير من مكاسبهم المتحقّقة على مدى نصف قرن.
في إطار هذه اللوحة المُثقلة بالتفاصيل، يتعيّن تشكيل الحكومة الجديدة التي يُفترض أن تكون قويّة لمواجهة متطلبات مرحلة ما بعد «داعش»، وبخاصة على صعيد بناء دولة المواطنة بعد سقوط دولة الطوائف والقوميات المحاصصاتية، وهو ما عبّرت عنه الرسالة التي تضمنتها النسبة الكبيرة للمقاطعة أو العزوف في هذه الانتخابات، وكذلك على صعيد إعادة الإعمار المتوجب أن تشمل العراق كله، وليس المناطق المدمّرة، بسبب احتلال «داعش» وتبعاته وحسب، وهذا بالذات تلزمه حكومة تنهض بالمهمة الأكبر، وهي مكافحة الفساد الإداري والمالي الذي إليه يرجع السبب الأكبر في انهيار الاقتصاد العراقي غير النفطي، وفي إثارة النزاعات الأهلية والسياسية وجلب «داعش».
بالطبع لا يُمكن أن تكون الحكومة الجديدة في صورة الحكومات السابقة، وعلى صيغتها التي قامت على المحاصصة الطائفية والقومية. هذا سيعني إعادة إنتاج الفشل وزيادة منسوب النقمة إلى مستوى يُمكن أن يُنذر باضطرابات اجتماعية يصعب السيطرة عليها.
مثلما كانت الانتخابات الأخيرة لا تُشبه سابقاتها، فإن الحكومة الجديدة، بل العملية السياسية برمّتها، يتحتّم ألا تُشبه سابقاتها.