حين سقطت الخلافة الاسلامية و اعتاد المسلمون على حكم الاجنبي تغير شيء مهم في الفكر الديني و هو تسيّد فقه العبادات الذي يخص الجانب الشخصي للانسان و تراجع فقه المعاملات الذي يخص ترتيب علاقة الانسان بالانسان و بالحياة
و لذلك تجد ان المسلمين اليوم يطبقون الكثير من فقه العبادات و لا يجدون فيه غضاضة
و لكنهم قد يرفضون فقه المعاملات بل و لا يسألون عنه.
و زاد من هذا الانفصال قلة تركيز علماء الفقه على هذا الجزء مع انه الجزء الاهم من الفقه باعتباره ينظم حياة المجتمع
و لذلك ايضا تجد ان فقه المعاملات فقه متأخر لا يتعاطى مع الواقع و لا يتأثر به
و لاجل ذلك لم يحصل تطور حقيقي في هذا الفقه و لم يستطع الفقهاء بلورة نظريات و رؤى اجتماعية تنبثق من الدين
لانهم ركزوا على فقه العبادات و تركوا هذا المجال الرحب الواسع و اهملوه.
و لعلي استطيع القول ان هذا الاتجاه الفقهي المتمثل في التركيز على العبادات دون المعاملات ساهم في تقوية و ظهور الاتجاهات العلمانية في الامة الاسلامية لأن مقولة فصل الدين عن السياسة تعني فيما تعني ان على الانسان المتدين الاهتمام بعلاقته بربه و عدم الزج بالدين في النواحي الاخرى كالاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و هو عين ما يمثله هذا الاتجاه الفقهي .
و بناءاً على ذلك ظلت الكثير من النصوص الدينية التي تهتم بالمجتمع و الاسرة و الاقتصاد و تنمية الانسان و التعامل مع الاخر المختلف و العلاقات الانسانية ..الخ غائبة و لا تُناقش في اروقة المؤسسات الدينية و لا تعطى حقها في البحث و لذا لا نجد بحوثا علمية حقيقية في هذه المجالات بل نجد نظريات متناثرة تقرأ النص الديني بمعزل عن بقية النصوص و تحاول استخلاص ما تستحسنه منها.
لقد ولّد التركيز على العبادات شعوراً لا واعياً و حفر عميقاً في نفس المسلم ان هذا الدين ليس سوى مجموعة من الوصايا الاخلاقية و الطقوس العبادية و هو بالنتيجة لا يمتلك رؤية في بقية قطاعات الحياة المهمة.
وامام وجود الدساتير والقوانين الوضعية التي تحكم بلدان المسلمين لم يجدوا بداً من الانصياع لها حتى و ان خالفت احكام الاسلام لان تلك القوانين هي (واقع) يثابون و يعاقبون عليه وضعياً فيما ان احكام الاسلام في جانب المعاملات وجدت سبباً جديدا لتعطيلها و بالتالي اضمحلال الدرس و البحث العلمي بشأنها.
ان مقولة الدين المعاملة تختزل كل ما قلته آنفاً في هذه الكلمتين اللتين تبينان اهمية المعاملة في مقابل العبادة.
و لعل من ابرز مؤشرات تأخُر البحث الفقهي في المعاملات هو عدم تطور اصطلاحات هذا الجزء من الفقه فبقيت اصطلاحات الحسبة و بيت المال و الحرابة و العشارون و غيرها مستخدمة حتى يومنا هذا مع ان الدهر عفى عليها و الحياة تطورت بشكل تجعل معه هذه الالفاظ في خانة الفلكلور و المتاحف الاثارية بل ان التطور و الحياة المدنية الحديثة و المعقدة عفت على بعض هذه الاستعمالات كمصطلح بيت المال فيمكن التساؤل هل هذا المصطلح يمكن ان يلبي الحاجة التي تكتنف المعاملات المالية الموجودة اليوم على تعقيدها واشتمالها مفاهيم اقتصادية و مالية لا سابق لها في ايام صدور النص الديني؟.
ان استخدام هذه الاصطلاحات المهترئة بفعل التاريخ يشعرك ان هؤلاء الفقهاء منفصلين عن واقعهم و انهم يكتبون فقهاً لأمة سالفة من الناس لذا يشعر المرء حين يقرأ الفقه وجدانياً بأن هذا الفقه لا يمكن ان يلبي حاجاته و لا يمكن ايضاً ان يصاغ قانونياً ليحل محل القوانين الوضعية التي تحكم حياة الناس اليوم لاختلاف الاصطلاحات و تطور المباني القانونية و الفلسفة التشريعية
من هنا نستطيع القول ان الدين بنسخته الاجتهادية الموجودة لا يمكن ان يلبي حاجة المجتمع
بل هو بعيد عن حاجاته و متطلباته
سادر في فقه النجاسات و المفطرات و الخ .