محاضرة القيت في سان دياغو-كاليفورنيا برعاية الاتحاد الديمقراطي العراقي
أثار تحالف سائرون جدلا لم ينقطع ، تأرجح فيه النقد بين ما هو منفعل و متشنج يوصد أبواب الحوار، وبين ما هو موضوعي منفتح على التحاور وتبادل الآراء.
أشار البعض الى مخالفات تنظيمية في الآليات التي تم فيها التنسيق والاعلان عن التحالف، وهو ما لا يحق لي الخوض فيه على اعتباره شأناً داخلياً ينحصر بين قيادة وقواعد الحزب الشيوعي العراقي.
دعا فريق آخر -بتأثير اليأس و انسداد آفاق الأمل- الى مقاطعة الانتخابات تعبيراً عن احتجاجهم على إنحراف مسار العملية السياسية، وهي رسالة احتجاجية لا يمكن ضمان فاعليتها إلا بشرطين، الاول ان تكون نسبة المشاركة بالانتخابات متدنية بنسبة فضائحية، وهو ما لا يمكن تحقيقه لقدرة الاحزاب الكبيرة على تحشيد الناخبين باعداد كبيرة وبطرق مشروعة وغير مشروعة، و الشرط الثاني حيازة الفشل الانتخابي المفترض على تغطية اعلامية واسعة، وهذا مالا يمكننا ضمانه أيضاً وسط انحياز وانتقائية الاعلام العالمي، وخاصة في الدول الراعية للعملية السياسية بالعراق.
يرى المعترضون على التحالف أن جداراً ايديولوجياً يفصل بين الحزب الشيوعي وحزب الاستقامة، يمثل اختراقه خروجاً على القيم و المبادىء العلمانية التي تميز نهج الحزب الشيوعي عن أحزاب الاسلام السياسي، رغم تأكيدات الحزب الشيوعي بان التحالف لن يتعدى التعاون المرحلي لانجاز مهام محددة في التصدي لقوى المحاصصة والفساد. منشأ تلك المواقف المتصلبة-كما يبدو- يعود الى ثقافة حزبية تنتمي الى فترات العمل في ظل الانظمة الشمولية، حيث لا خيار للحزب في المشاركة السياسية ولا يتاح له الاسهام في وضع بصماته على مسار تطور الدولة والمجتمع، فيصبح الانشغال الرئيسي للحزب هو الحفاظ على بناءه التنظيمي وتأمين قنوات تواصل مع المواطنين عبر التثقيف بايديولوجيته الفكرية وبرامجه المستقبلية، أما العمل في أجواء التعددية السياسية فيتعين على الحزب ابتكار آليات عمل جديدة تتخللها درجة عالية من البراغماتية والمرونة السياسية، لتأمين مشاركته في التمثيل السياسي و صناعة القرار والاسهام في اضفاء الطابع المدني على الدولة وترميم مؤسساتها التي تآكلت بفعل سياسة المحاصصة و الفساد الذي بلغ حدوداً خطيرة، وسياسة التحالفات احدى تلك الآليات المهمة والتي أثبتت نجاحها في العديد من تجارب الشعوب. القاعدة الرئيسية في لعبة الديمقراطية الالتقاء في منطقة وسطى من المشتركات، والاحزاب المصرة على التقوقع في قمقم الايديولوجيا دون ابداء اي مرونة سياسية، ستنتهي حتماً الى العزلة والانكفاء الى الذات الايديولوجية حيث يكمن جوهر واس الفكر الشمولي.
ما يدعونا ايضاً الى التوجس من الفكر الديني هو الحكم المتسرع و المطلق المستمد من راهنية أحزاب الاسلام السياسي التي تأرجحت عطاءاتها بين الارهاب والطائفية والسرقة وتخريب مؤسسات الدولة، إلا اننا نتجاهل بذور الفكر العرفاني الذي يستلهم روح الدين لا نصيته، والقابل للرعاية والتطور عبر تجذره و انغماسه مع هموم الفقراء ومآزق الوطن، وقد ظهرت بوادر ذلك في العراق مع المنظمة السرية التي اسسها الشيخ عبد الرضا الماشطة والتي تدعو الى نظام دستوري، ومن ثم ابنه عبد الكريم الماشطة ونضاله في مجلس السلم، وقد بلغ تقاربه مع اليسار ان كتب مقالا بعنوان ( الشيوعية لا تتصادم مع الدين ولا مع القومية)، وفي خطاب له أمام جمع من المتظاهرين -ومعظمهم من الشيوعيين_ قال ( الله تعالى يباهي بكم الملائكة على معاونتكم اخوانكم، و اهتمامكم بروع الحروب وتخليص البشرية من ويلات القنابل الذرية والهيدروجينية)، ولا يمكن تجاهل الحركة الجماهيرية للفقراء التي قادها السيد محمد صادق الصدر والتي أرعبت الدكتاتورية لتقترف جريمة اغتياله. و في معرض الاشارة الى تجذر الفكر الديني لا يمكن المرور دون ذكر لاهوت التحرير في اميركا اللاتينية، و الذي تبلور عبر التلاقح بين روح المسيحية و ثقافة السكان الاصليين التي تمتد جذورها في حضارات المايا والازتك، مع هم التحرر من تحكم التدخلات الخارجية و شركاتها الكومبرادورية و قمع الدكتاتوريات العسكرية والانغماس في معاناة الفقراء. لندرك الى اي مدى تجذر فكر لاهوت التحرير حسبنا ان نذكر ما قاله رجل الدين والشاعر ارنستو كاردينيل ( ستنقسم الكنيسة في يوم ما على اساس طبقي الى كنيسة الدفاع عن الفقراء وكنيسة حماية الاغنياء ).
قبل المرور على تجارب التحالفات بالعالم، علي الاجابة على القائلين باستحالة المقارنة بين أحزابنا الدينية المتخلفة والاحزاب المسيحية التي قطعت شوطاً في التكيف مع العلمانية و التقاليد الديمقرطية فنقول: ان الاحزاب المسيحية لم تفعل ذلك دفعة واحدة، بل كان لها شجاعة البدء بالخطوة الاولى بالانفتاح على الآخر تدريجياً، و مرت بصيرورة تجذر فكري عبر صراع مرير مع الجناح التقليدي المحافظ وعبر الانغماس في الهموم الدنيوية لجماهيرهم وخاصة الفقراء والمضطهدين منهم. بين 1950 الى 1960 انتهجت حكومات معظم بلدان اميركا اللاتينية سياسة الانفتاح واستجلاب الشركات الاجنبية في الصناعة والتعدين والمكننة الزراعية وكان نتيجة ذلك افقار اغلبية الشعب من المزارعين الصغار لعدم قدرتهم على منافسه تلك الشركات العملاقة المدعومة من قبل الحكومة وتشريعاتها، فانتشرت البطالة وتفشى الفقر والجوع، فنظمت الاحزاب اليسارية مقاومة معارضة وقد برزت حركة مساندة للفقراء من الكنيسة أيضاً. أثار ذلك الفزع لدى الشركات والحكومة لتبدأ مرحلة الدكتاتوريات العسكرية المدعومة من الولايات المتحدة. مرت سنوات طويلة حتى تخلت حركة المقاومة الدينية عن حساسيتها الفكرية والاقتراب من اليسار حين ادركت استحالة نصرة الفقراء دون الوحدة الوطنية . يتذكر القس فرناندو كاردينيل حين دعته جبهة ساندنيستا للتحالف معها أنه قال ( ماذا سيجيب المسيح لو عرض عليه مثل هذا الأمر) ثم كتب لهم( أنا لم أقرأ كتاباً لماركس أو لينين، لكني قرأت الانجيل وسيرة المسيح فأدركت اننا واياكم نشترك في حب ونصرة الفقراء). هل هناك أمل أن تشكل معاناة الفقراء وهي هم مشترك يجمع الشيوعيين و الصدريين، حجر الزاوية لتطور وتجذر الفكر الديني؟.
في جنوب ايطاليا وفي مطلع القرن العشرين هيمنت أحزاب دينية محافظة جدا، ولم يمنع ذلك المفكر الايطالي غرامشي من دعوة أحزاب اليسار والليبراليين من تشكيل ما سماه الكتلة التاريخية مع أحزاب الجنوب بما فيها الكنيسة، لتعزيز وحدة ونهضة ايطاليا. وقد عرب المفكر محمد عابد الجابري مفهوم الكتلة التاريخية داعياً اليسار العربي لقيادة الطريق لتشكيل تحالفات واسعة من جميع الاطياف والنقابات والنوادي والقوى الدينية لانجاز مشروع التنمية، كما دعا القوى الدينية الى الانفتاح على اليسار والتخلص من هواجسها تجاه الآخر المختلف واللقاء على ارض المشتركات العامة.
لا يتردد اليسار من التقارب والعمل المشترك مع القوى الاخرى بما فيها الدينية لعبور مرحلة ما أو الخروج من واقع مأزوم. في الثلاثينات كان الحزب الكاثوليكي يرأس حكومة بلجيكا بشخص فان زيلاند وهو خصم لدود للحزب الاشتراكي الديمقراطي، فالحزب الكاثوليكي مهادن لرأس المال في نهجه الاقتصادي، و متمسك بالتعاليم المسيحية المحافظة إجتماعياً. تشكل ضمن الحزب الكاثوليكي تيار نازي مدعوم من قبل هتلر تحت اسم الركست، فحقق في انتخابات 1936 نسبة تؤهله للحصول على حصة في البرلمان والحكومة، و كان ذلك بمثابة بداية لزحف نازي سيدمر العملية السياسية برمتها، مما دعا الملك الى دعوة الحزب الكاثوليكي والاشتراكي للتحالف والابقاء على فان زيلاند رئيساً للحكومة رغم التقاطع الايديولوجي، فوافق الحزب الاشتراكي الديمقراطي رغم حيازته على أعلى الاصوات بالتحالف مع خصمه اللدود لانقاذ الديمقراطية.
وقد حصل في نفس العام تحالف مشابه في فنلندا لابعاد الحزب القومي التقدمي وريث حركة لابوا، وهي حركة فاشية متطرفة تتبنى أفكار موسوليني، وقد ضحى الحزب الاشتراكي الديمقراطي باغلبيته الانتخابية فتحالف مع خصمه الديمقراطي المسيحي لعبور مرحلة خطرة على العملية السياسية.
عام 1970 فازت الجبهة الوطنية اليسارية بقيادة الليندي في تشيلي، إلا انها لم تبلغ الاغلبية التي تؤهله للرئاسة، وحسب الدستور الشيلى يختار البرلمان بالتصويت للفائز الاول أو الثاني، وقد جرت محاولات حثيثة من اليمين بتحريك ودعم المخابرات الامريكية للتصويت للفائز الثاني بدل الليندي، عندها أجرى اليندي سلسلة من المفاوضات للتحالف مع الحزب الديمقراطي المسيحي وسط غضب ومعارضة اليسار الراديكالي في جبهته، وهكذا تمّت له رئاسة الدولة، وقد استمر تحالف اليسار مع الحزب الديمقراطي المسيحي ليشكل معارضة قوية في البرلمان في فترة حكم بينوشيه وتمكنت من منعه البقاء في الحكم عام 1988 م.
لنعد الى تحالف سائرون ولنسأل لماذا التيار الصدرى دون غيره؟
أشار الباحث فارس كمال نظمي أن التيار الصدري يتميز دون غيره من الاحزاب الاسلامية التي حكمت بعد 2003 بانه حركة شعبية نمت من القاعدة الى القمة، وليست حركة فوقية كغيرها، فجماهير الفقراء التي عانت التمييز والظلم وسوء توزيع الثروة ،قد وجدت قائداً ذا كاريزما يعبر عن معاناتهم فالتفوا حوله. منذ عام 2015 التحمت تلك الجماهير المسحوقة مع المحتجين من الشيوعيين الذين يشاطرونهم ذات العواطف من رفض الظلم والحلم بالعدالة الاجتماعية، فانبثق التحالف من رحم تلك الاحتجاجات في ساحة التحرير،اي أن التحالف بالمدلول الرمزي كان بين القواعد الشعبية للحزب والتيار.
يمكنني أن أضيف أن ما يراه البعض من تخبط وتقلبات في ممارسات ومواقف التيار الصدري يمكن النظر اليه من زاوية مختلفة، فقد أثبت قدرته على تجاوز الماضي و التخلي عن مساراته المتطرفة، بعد أن يدرك قادته تناقضها مع ثالوث منهجه المتمثل بالاسلام_الوطن-سمعة آل الصدر، وهي الاركان الثلاثة التي تمثل الانشغالات الرئيسية للتيار، والتي يرددها السيد الصدر في أغلب توجيهاته لأتباعه. تتبع مسيرة التيار من مقاومة الاحتلال الى الدخول في العملية السياسية، من عنف جيش المهدي الى حله و مد الجسور مع المختلف دينياً وطائفياً، من حذره و ادانته العلمانيين الى براءته من ممثليه الفاسدين، و المشاركة في التظاهرات ضد الفساد مع المدنيين، وأخيراً تحالفه مع القوى المدنية ضمن برنامج مدني صياغة ومضموناً. تلك السلسلة من التحولات الدراماتيكية تشير الى ان التيار قابل للتطور والاستفادة من تجاربه بنبذ كل ما تراه قيادته مسيئاً لثالوث الاسلام – الوطن-سمعة آل الصدر .
رغم كل ما سبق فان تحالف سائرون لا يعني باي حال من الأحوال انه يحمل وعوداً مؤكده بقلب الواقع السياسي رأساً على عقب، فالعمل السياسي مبادرات لا يمكن التكهن بنتائجها بيقينية مطلقة، بل تحدد نتائجها مصداقية الاطراف المؤتلفة وتفاهماتها وكيفية مواجهتها لما يستجد من تحديات ومتغيرات في المستقبل.