ربما لم يلبِّ بيان المرجع الديني السيد علي السيستاني طموح العديد من المواطنين الذين ينتظرون “موقفا أكثر وضوحا” لأسباب عدة أبرزها نحن العراقيون تعودنا على حسم المواقف من دون انتظار ونريدها دائما “ابيض او اسود” لا نقبل بالحلول الوسطى، لكن في هذه الحالة لا يمكن حسم القضية بالطريقة ذاتها لتعلقها بمستقبل البلاد ومصير ابنائه، فكان منطقة الإشارات هو الحل.
الاطلاع على البيان ومتابعة ما جاء في نصه سيقودنا الى اكتشاف نقاط عدة تطرقت لها المرجعية لاول مرة منذ العام 2003، واشارت اليها بخطوط عريضة، ومنها جعل الانتخاب “اختياريا” وهو عكس ما حصل في جميع الانتخابات الماضية منذ 2005 وحتى العام 2014، حيث كانت المرجعية تبعث “رسائل مشفرة” لدعم بعض القوائم لأسباب عدة قد يعرفها “القاصي والداني”، لكنها اليوم وضعت المواطنين أمام اختبار حقيقي وجعلته مسؤولا، فيما يختاره سواء بالمشاركة في الانتخابات او مقاطعتها، استنادا على نص الآية القائلة (لا يكلف الله نفسا الا وسعها)، في رسالة تؤكد تخلي المرجعية الدينية عن الخوض في القضايا السياسية والعمل على فصل الدين عن جميع ما يتعلق بالسياسة بمفهومها العام، وهي بذلك اعلنتها صراحة بان الولاية هي للمواطن على نفسه وليست للفقيه اية ولاية على “عُبَّاد الله”، لتضرب بذلك جميع المشككين بولاء المرجعيات الدينية في النجف للعراق أرضا وشعبا.
اما الرسالة الاخرى التي اوصلتها المرجعية للجميع سياسيين ومواطنين، تضمنت “تعرية” بعض القوائم الانتخابية التي تستخدم الرموز الوطنية والدينية وقصص المُضحين بأرواحهم، لأغراض انتخابية ولكسب أصوات “المتعاطفين” مع صناع النصر الحقيقين، من دون الإشارة لأسماء القوائم وقادتها لكون الدعايات الانتخابية كشفت جميع الأوراق التي لا يستطيع إنكارها سوى “اعمى البصر والبصيرة”، لتوصل رسالة ثانية مفادها “لاتُخدعوا بأصحاب تلك المشاريع وابتعدوا عنهم”، ولَم تكتفي المرجعية الدينية بذلك فعمدت الى “تجريم” التدخل الخارجي وخصوصا تلقي الدعم المالي او السياسي سواء من ايران او السعودية او غيرهما وتشديد العقوبة على جميع المخالفين، وهو ماينطبق على بعض القوى السياسية التي تتحدث في كل مناسبة عن تلقيها دعما ماليا من بعض الدول بحجة “العروبة او الاسلام او تحقيق التوازن”، لتحقق مرة اخرى وقفة بجانب الإرادة الوطنية في محاسبة الفاسدين وتدفع الجميع الى العمل على تشريع القوانين المعطلة وأبرزها “من اين لك هذا”.
بيان المرجعية لم يغفل ايضا عن مطلب رئيسي شكل خلال الفترة السابقة محورا مهما للعديد مِن المطالبين بالتغيير والإصلاح وهو قانون الانتخابات وضرورة تعديله بما لا يسمح بالالتفاف على أرادة المواطنين، من خلال انظمة انتخابية تسمح بالاستحواذ على الأصوات الانتخابية وتوزيعها بين رؤساء القوائم وبعض المقربين، وهنا وضعت المرجعية العليا ايجاد قانون عادل شرطا أساسًا لجعل المسار الانتخابي يقود الى نتائج مرضية.
لينتقل بعدها بيان المرجعية الى نقطة لاتتخلف في أهميتها عن التي سبقتها، وهي ضرورة التركيز على نزاهة رئيس القائمة الانتخابية في حال اختيار احد المرشحين، وهي بذلك دافعت عن حقوق المرشح قبل الناخب عن طريق إيصال رسالة معناها “بان رئيس القائمة اذا كان غير نزيها فانه سينعكس سلبا على المرشح من خلال عزوف المواطنين عن انتخابه بسبب دخوله بتلك القائمة”.
الخلاصة.. قد يتساءل الكثير لماذا لم تتطرق المرجعية في بيانها الى دعوة “المجرب لا يجرب” وتسمية الفاسدين والكتل السياسية الفاسدة بأسمائها، الإجابة تتطلب العودة الى العام 2014، حينما اصر السيد المالكي على الترشح لولاية ثالثة، وابلغنا في حينها بانه “لن يتنازل عنها مهما حصل حتى لو تدخلت المرجعية بذلك فهي ليست سياسية انما مرجعية دينية”، فالمرجعية ياسادة تدرك جيدا ان مطالبتها بمقاطعة قوائم معينة وتسميتها سيخلق أزمة جديدة وسيكون اول من يخالفها ويخرج عليها هم المقلدون “المتملقون” لاصحاب الكراسي، وسنرى حينها دعوات لابعاد المرجعية عن التدخل في السياسة والانكفاء بالقضايا الدينية، اخيرا السؤال الذي يبحث عن اجابة، اذا كانت جميع الكتل السياسية أيدت بيان المرجعية فمن هو الفاسد؟