18 نوفمبر، 2024 1:23 ص
Search
Close this search box.

عسكرٌ ببزّات سياسيّة

عسكرٌ ببزّات سياسيّة

قبل إطلاق أية مفردة تتناول موضوع الجيش العراقي، وهو موضوع إشكالي بامتياز، لا بد أولا من إيجاد طلاق عاجل وحتمي بين صورة وأداء هذا الجيش في الأنظمة الديكتاتورية وبين صورته وأدائه في نظامنا الديمقراطي الوليد والسائر في طريق التشكل المشفوع بالعقبات والعلل والالتباس ايضا، فالجيش في صورته الأولى المتلفعة بمعطف الديكتاتورية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون حارسا وحاميا مطلقا للشعب كما يشاع في الأدبيات العسكرية وفي الشعارات السلطوية الزائفة، بقدر ما يكون حارسا لهياكل السلطة الديكتاتورية وأصنامها، الأمر الذي يحوله إلى عصا استبدادية كبرى بيد تلك السلطة لتستخدمه وقت الحاجة ليس في إرعاب دول معينة أو معارضين محددين فقط وإنما في إرعاب وقمع شرائح عريضة من الشعب، وهذا ما حصل في العديد من المحطات التاريخية لمؤسستنا العسكرية وخاصة في العهد البعثي – الصدّامي الذي نجح في برنامج “تبعيث” تلك المؤسسة وترويضها وتحويلها إلى ماكنة إيديولوجية لا تشتغل إلا بوقود الحزب الواحد الحاكم وأوامر جنراله المستبد.
لا يمكن طبعا أن نتحدث عن الجيش العراقي بوصفه كتلة واحدة نستطيع أن نطلق عليها حكما مستعجلا وننتهي، فهذا الجيش في الحقيقة تعرض منذ تأسيسه البريطانيّ الهوى في عام 1921 حتى اليوم إلى العديد من العواصف السياسية التي قامت بتشكيله ونحته وفق مقاساتها وأهواء أزاميلها، ولكن في المقابل كان هذا الجيش نفسه الصانع السياسي الأكبر في العديد من المراحل التاريخية العراقية، فقد تشكلت الخارطة السياسية في العراق مرارا وفق أمزجة الجنرالات الانقلابيين الغاضبين الذين أدمنوا لعبة احتلال الإذاعة والتهام خرائط الدولة وإمكانياتها بمجرد إطلاق البيان العسكري رقم واحد الذي لا بد أن يستدعي مرحلة ثأر وانتقام جديدة ستنتج بالطبع دورة عنف وعنف مضاد أخرى، وهو أمر وضع العراق في حالة طوارىء مزمنة ودفعه إلى أن يكون في مهب رياح اللااستقرار والفوضى المصحوبة دائما بإراقة دماء العراقيين لأبسط سبب.
لا بد من الاعتراف بأن النتائج الوخيمة التي وقع العراق في شراكها كانت بسبب تسلم العسكر لمقاليد الحكم، إذ إن من البديهي القول بأن المراهنة على الحصان العسكري في صناعة دولة مدنية حديثة هو رهان خاسر وفادح بالتأكيد، فالعسكر رجال سلطة وليسوا رجال دولة، وهذا الكلام ليس كلاما غارقا بضوء التنظير وانما كلام تؤكده بقوة الأحداث التي اكتوى العراق بجحيمها طوال عقود ثقيلة من حكم العسكر، وهنا لا بد أن نشير إلى نقطة نراها مهمة وهي ضرورة إعادة قراءة تاريخ مؤسستنا العسكرية قراءة موضوعية وبعيدة عن التعصب والتقديس الأعمى، وهذه القراءة ستفند حتما وتمحو أصداء ذلك الكلام الإنشائيّ الدوغمائيّ التعليميّ الذي يندلع عند كل ذكرى لتأسيس الجيش العراقيّ، وهو كلام يستند بالدرجة الأساس إلى الفضاء التلقيني المضلل الذي كان سائدا في مدارسنا الإبتدائية أيام الحكم البعثي، والذي كان غالبا ما يتكىء على جمل موروثة وببغاوية وجاهزة مثل “المنجزات المجيدة”، و”المسيرة الظافرة”، و”الرسائل الخالدة!!”، و”دور جيشنا في الذود عن شرف الأمة العربية!!”، وغير ذلك من الكلام الاستهلاكي التعبوي الذي يجب أن نبتعد عن تكرار أمثاله وأشباهه عند الحديث عن مناسباتنا التي نحتاج بقوة إلى أن نظهرها بثياب موضوعية وحقيقية وليست خادعة.
إن بعض كتابنا ما زالوا، للأسف، يتحدثون عن تاريخ الجيش العراقي بلسان تمجيدي قديم، وكأن هذا الجيش لم يقم مثلا بمجزرة الآشوريين في العام 1933 ولم يقم بخوض حروب مجانية وباقتراف جرائم بحق أهلنا في الجنوب وكردستان ولم يحتل دولة الكويت ويمحوها من الخارطة بفوهة مدفع.  
إن تاريخ الجيش العراقيّ هو في الحقيقة تاريخ لجيوش عدة، فجيش العراق في العهد الملكي هو غيره في عهد الجمهورية العراقية الأولى، وهو يختلف بالتأكيد عن جيش الجمهورية البعثية الذي تحول إلى مصنع للقسوة والذلة، بحيث سادت حينذاك في المجتمع العراقيّ نصيحة لكل من يعتزم الدخول في الجيش وهي ان عليه أن يخلع كرامته قبل الدخول، وكل أنواع الجيوش هذه تختلف طبعا عن جيشنا “الديمقراطي” الحالي الذي تم بناؤه بعيدا عن أهواء التحزب والتسييس، وهو أمر مهم وإيجابي يجب تكريسه وتعميقه وتحويله الى سياق ثابت يحكم المؤسسة العسكرية، وخاصة بعد الانسحاب الأميركي من العراق، وذلك لكي لا يتم إعادة سيناريو العسكر القديم الذي ملأ آفاقنا السياسية بالألغام وحولها إلى منطقة مشحونة بالتوتر والإقصاء وكرنفالات العنف والدم، ذلك السيناريو الذي يُختصر في ارتداء العسكر لبزات السياسة حالما تتم سيطرتهم على الإذاعة واطلاق بيانهم العسكري الأول ليحكموا بعدها الدولة برمتها بثياب مدنية ولكن بعقلية عسكرية متجهمة وإقصائية ودموية تتنافى مع أبسط مقومات الدولة العصرية والمدنية، لذلك فإن علينا أن نعيد قراءة كل محطات تاريخ مؤسستنا العسكرية بعيون موضوعية جديدة لكي نعرف كل ما لها وكل ما عليها، ولكي لا نقع مرة أخرى في فخاخ التمجيد الأعمى.
[email protected]

أحدث المقالات