23 نوفمبر، 2024 1:52 ص
Search
Close this search box.

سميّة العذراء حسب إرادة الكاهن

سميّة العذراء حسب إرادة الكاهن

وثيقة الزواج هي اعتراف ضمني صادر عن كل الناس بسلطة الكاهن المستمرة على حياتهم بعد عصر ديانات التوحيد. دون هذه الوثيقة تصبح علاقات الرجال بالنساء، زنى وبغاء ودعارة وعهر وخروجاً عن العرف وقوانين المجتمع. ولذلك قصة روتها لي سميّة في بروكسل.

عرفتها على فيسبوك منذ سنوات، وظننتها متزوجة، حتى فاجأتني قبل أشهر بقدومها من أرض روسيا الباردة الى بروكسل عند أختها الموظفة في مفوضية الاتحاد الأوروبي. واتصلت بي على مسنجر فيسبوك حيث طالما تحدثنا، وعرضت أن نلتقي في بروكسل لنتعرف على بعضنا أكثر. وكان العرض غريبا بالنسبة لي، فأنا غارق في العمل، ومن الصعب أن افرّغ نفسي لصداقات يومية عابرة، حدث ولا حرج صداقات تقليدية تدور في إطار جلسات عائلية، فاعتذرتُ بانشغالي المزمن، وهو لم يكن تذرّعا بأعذار واهية قط، ثم عرضتُ عليها من باب المجاملة فقط، أن تزورنا هي وزوجها هنا في ألمانيا.
كتبت لي سميّة العبارة الخالدة على فيسبوك” هههههههه” والتي تعني في الحقيقة ضحكة طويلة والتعبير الصحيح عنها “هاهاهاهاهاهاه”، ثم قالت” كيف؟ أنا لست متزوجة” وأردفت بكل شجاعة “أنا عانسة” !
وتوقفتُ هنيهة عن الاسترسال معها، هي أولا كتبت عانسة ولم تكتب الوصف العربي الصحيح “عانس”، وثانياً هي اعترفت بكل شجاعة بأنّها عانس، وهذا نادر جداً بين الشرقيات ، ولكنّ الذي لفت نظري أكثر جهلي بهذه الحقيقة وجرأتها في طلب اللقاء بي رغم أنها ليست متزوجة.
بعد يومين كنتُ في بروكسل، والتقينا على الغداء في فندقٍ أنيق بالحي الدبلوماسي في عاصمة الاتحاد الأوروبي. وقوف السيارة لمدة يوم كامل يكلّف هنا 50 يورو، والليلة في الفندق باهظة حقا، لكنّ فضولي لمعرفة ما تريد أو ما تخفي أنساني كل التكاليف. وهكذا التقينا في صالة فندق ماريوت برسل، وانتبذنا منه زاوية لن نضطر فيها الى الهمس ولا الى الصريخ، بل نتحدث بهدوء عراقي طبيعي!
المفاجأة الأولى أنّ عمرها قارب الستين، لكن نضارتها في الحقيقة تعطيها أقل من خمسين عاما من العمر، لاسيما أنّ ثوبها الأحمر الأنيق القصير كان يشف عن خصر ضامر، وساقين رشيقتين بضتين بيضاوين بلا تجاعيد.
دون مقدمات قلتُ لها: أنتِ، وبهذا الجمال والمرتبة العلمية والذكاء والقدرة المالية والاستقلال كيف بقيتِ بلا زواج؟
فاجأتها صراحتي ، فتراجعت في كرسيها تتطلع في وجهي من خلف عويناتها الأنيقة، وقالت: بقيتُ دون زواج لأني كنت أخاف الرجال، الرجال يريدون من النساء شيئا واحداً واضحاً، أما النساء فيردن من الرجل حياة مضمونة، وربما كنتُ لحوحة مدققة في مطلبي فلم أتفق مع رجل. تقدّم لي كثيرون ومررتُ بقصصٍ تشبه قصص الحب، لكني كنتُ دائما أنأى بنفسي عن الخوض في تجربةٍ معهم”.
قلت بلا تروٍ وبنوعٍ من الغيظ” بل كنتِ متعجرفة متكبرة ، فأنتِ سليلة آل فلان من جهة الأب، وآل علان من جهةِ الأم، وكلتاهما سلالتان عراقيتان معروفتان متنفذتان متعجرفتان، وأرجّح أن أمك قد زرعت فيكِ روح التعفف المختلطة بالعجرفة البيوريتانية فهي طالما اعتبرت” الجنس نجس”.
توقفت عن شرب العصير مبهوتةً بوقاحتي غير المعهودة، ثم ابتعلت ما في فيها، وقالت بهدوء ملحوظ “أمي لم تحدثني عن الجنس قط، ولكننا طالما اعتبرناه تابو محرم في الأسرة”!
وتنبهتُ الى أني محتدٌ معها بلا سبب، وسارعتُ معتذراً بلطف مشفوع بابتسامة معلناً رغبتي في أن تأخذ هي زمام الحديث، لاسيما أنّها هي من طلبت اللقاء.
استرخت وهي تراني اتراجع عن الهجوم، وبدأت تحدثني بالضبط عن وحدتها في روسيا الباردة، وانشغالها الممل بعمل روتيني يومي ولساعات طويلة يقتل فيها الرغبة في الحياة، ثم وصلنا الى النقطة الحرجة، وقالت” قرأتُ كتابك، وعرفتُ أنك كنت جليسا تستمع الى الناس وخاصة من أسميتهم “أهل القمة” وتسجّل قصصهم، وهكذا تراءى لي أن نجلس معاً وأروي لك قصتي”.
وانتظرتُ أن تنتقل في حوارها الى منعطفٍ خطير، لكنها مضت قُدماً في شرح تفاصيل حياتها اليومية، راجعةً الى ذكرياتها في جامعة بغداد، وفي لندن حيث نالت الماجستير قبل سنوات طويلة، وصارت تسرد وقائع تخلو من أيّ إثارة بالنسبة لي، وبدأ الممل يدب الى نفسي. أنا لم اقطع 250 كيلومتراً، دافعاً كل هذه التكاليف لأسمع سرداً عادياً لوقائع يومية في حياة امرأة.
بعد نحو نصف ساعة من السرد الرتيب، ومن سكوتي المفروض بقوةِ الأدب والفضول الصحفي، لم تقل سميّة شيئاً ذا شأن، القصة القديمة المعهودة نفسها، عانس جميلة ما زالت فيها لمسة أنوثة، تقضم أيامها بحسرة وهي ترى الحياة تمضي بسرعة، ولا أمل لها سوى انتظار نهاية سعيدة في دار المسنين! وهكذا كان عليّ أن أستعيد وقاحتي المعهودة لأقول لها : ولكن كل ما تذكرين سببه رفضك للرجال، أنتِ بدأت متكبّرة عليهم، ثم في منتصف المسافة شعرتِ بالخوف، فحاولتِ التراجع لكن نجاحكِ المهني وضعكِ فوق كلّ من كانوا حولك، ثم وصلتِ الى مرحلة الكهولة فبات الرجل حلماً. لا يرضى أيّ رجل شرقي بامرأة في الستين، الشرقي الذي يبلغ الستين من العمر يبحث عن امرأة في الأربعين، وهكذا فقد ضاعت الفرصة، لكني لم أفهم حتى الآن كيف لم تستمر علاقاتكِ بالرجال خلال هذه العقود من العمر؟
ابتسمت بحياء، ونظرت إلى حذائها المشبّك الأنيق وعدّلت طرف فستانها الأحمر ثم قالت: علاقاتي كلها لم تكن جادة، أنا ما زلت عذراء، عذراء في الستين، فكيف تريد علاقاتي أن تستمر، من ينظر الى عجوز في الستين ويغادر الجميلات الحسناوات في محيطه؟.
قلتُ بهدوءٍ حامٍ: ولكن كان عليكِ أن تدركي القطار يا عزيزتي، لا أعرف تفاصيل رفضكِ ولماذا ترفّعتِ عن الرجال، أو لماذا تباعدتِ عنهم، لكنّ المشكلة تكمن فيكِ حتماً وليس فيهم”.
قالت بلغة مستسلمة: لا أريد علاقةً خارج الزواج، حرام ، أنا أخشى الله وأرفض الزنى !
وقع جوابها مثلُ صاعقة على وعيي، فمن ظننتُها خارج مظلة الأعراف تُسمّي علاقتها الطبيعية بالمذكّر زنى، بلغة الكاهن، وتطلب وهي في الستين علاقة مؤطرة بوثيقة الكاهن، وقلت لها كل ذلك لها بنَفَسٍ واحد وكأني أهجم عليها بلا هوادة، فردت بهدوء:
يا صديقي العزيز ، الرجل يريد من المرأة الجنس أولاً ثم الحب، والمرأة تريد الحب أولاً ، ثم تمنحُ نفسها للجنس، والفرق كبير بين الحالتين، اذا مارست المرأة الجنس دون حب وزواج، فهي دعارة، والمرأة تكون ببساطة “عاهرة”، وأنا ارفض ورفضت طول عمري أن أكون عاهرة.
وبهدوء مصطنع قلت لها: وهكذا قضيتِ عمرك بانتظار بركة الكاهن ووثيقته، أنتِ بهذا قد عطلتِ أهم أعضاءكِ، وهي أعضاء الحياة والإرضاع…كلّ ما عدا ذلك هو سفسطة، الكاهن قد انتصر عليكِ وسلبكِ حقكِ في الحياة، أليس ظلماً أنكِ لم تجربي طعم العلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة، فقط لأنكِ تبحثين عن ذلك في أطار وثيقةِ الكاهن؟
لماذا تسميها وثيقة الكاهن، هي عقد زواج؟
هذا العقد هو امتداد لسلطة الكاهن قبل عصور ديانات التوحيد، وبعد ظهور الديانات تحولت السلطة من الكاهن الى القس والشيخ والسيد والرابي وما الى ذلك، وهم يصدرون الوثيقة التي تقرر أنّ الرابطة بين المرأة والرجل هي زنى، أم زواج…هذا منتهى التسطيح. اذا كان الله خلق الرجل والمرأة ليتكاملا ويتزاوجا، فما دخل الكاهن وسلطته بينهما؟ كيف قبلتِ أن تسلمي مصير جسدكِ وكنوزه الى كاهنٍ محتال جاهلٍ يتلاعب بمصائر الناس إرضاء لمصالحه.
كنتُ أرى ما لا تراه، فباتَ حوارنا مثل حوار العميان، هي في وادٍ، وأنا في وادٍ، وقررتُ أن أضع حداً للقاء، فقلتُ لها أني قد جعت، ولابد أن نتناول الغداء، فكان هذا، وبانتهاء الوجبة التي لم يتخللها سوى جمل قصيرة مثل برقيات منقطعة عن المتن، وضعتُ نهاية مبتسرة للقاءٍ كان يمكن أن يقود الى نتائج باهرة، لكنّ سلطة الكاهن غير المرئية اسقطت كل شيء، وباتت سميّة في نظري، إحدى أصدقائي الخمسمائة على فيسبوك، يمكن في أيّ لحظة أن اتخلى عنها، وتصيرَ جزءاً من ماضٍ سأنساه سريعا في عصر العولمة.

أحدث المقالات

أحدث المقالات