19 ديسمبر، 2024 12:15 م

«أبي… والخمسون ريالاً…»

«أبي… والخمسون ريالاً…»

نحمل أوطاننا وأحبتنا نحن المسافرين دوماً في شغاف القلب. ولا نخاف شيئاً قدر اللحظات القليلة الفاصلة بين أن يدق جرس الهاتف ونحن في غربتنا وبين الكلمات القلائل الأول للمكالمة.

غالباً ما ينبئنا القلب قبل الرسول أن هذه هي المكالمة التي خفناها أعواماً طويلة، وبين ما نسمع وما نشعر وما نعي وما نستوعب، تكون أشد مخاوفنا قد تحققت…..

كان عصر يوم بارد من أيام ديسمبر في النصف الشمالي من الأرض، حين دق هاتفي ينعى إلي والدي، رحمه الله وأدخله فسيح جنانه.

لم يكن، غفر الله له، أباً بالمعنى التقليدي للأبوة….

كان مرجعاً وسنداً ورفيقاً واخاً وصديقاً….

كان رحمه الله لا يقبل الجدال في أمرين: العلم والعمل.

اضطر أن يعمل صغيراً فصار العمل عنده رمزاً لكرامة الإنسان ونوعاً من العبادة. علمنا التقوى في كل شيء، وأولها تقوانا في عملنا، كان يشغل نفسه بأصغر وأدق التفاصيل.

«ليس هناك أمرٌ فوق النقاش» كانت كلمته لنا نحن بناته الثمان، وما أكثر عبئاً من أن يكون للرجل في مجتمعاتنا العربية ثمان إناث يحمل همهن منذ لحظة الولادة إلى أن يكتب الله امراً كان مفعولا….

لكن أبي بفطرته الذكية وإيمانه المبدئي وبدون تخطيط، قرر أن يحول «إرثه» الأنثوي من كوم من المسؤوليات إلى باقةٍ من الحصاد.

كان يشجعنا على التعليم ويحثنا عليه ويكافئ المجتهد منا ويعاقب المقصر، وبرغم جزيل مكافأته إلا أن عقابه رحمه الله لم يكن حتى ليرقى لمستوى العقاب التقليدي. كان يكفينا أن نعرف أن بابا «زعلان» حتى تتقوض أركان عوالمنا، فهو ورضاه ومحبته وحنانه كانت كفيلة لأن نبدأ من جديد.

حين ابتعثت للدراسة في أمريكا، كان معي في كل خطوة. قبل سفري بيوم؛ أعطاني ذات مساء تذكرة سفري ذهاباً وعودة وفوقها خمسين ريالاً. لم تكن الخمسون ريالاً حتى في وقتها مبلغاً يحكى فيه، وحين رأى دهشتي كانت أسبابه بغاية البساطة. قال لي إنني تاركة لبيت أبي وحضن أمي ولكل ما هو أليف وحبيب ومأمون وذاهبة إلى المجهول، وإني لو شعرت للحظة أني غير قادرة على الاستمرار لأي سبب ومنعني كبريائي من الاعتراف بالهزيمة فإني لا أدين لأحد بتفسير أياً كان.

كل ما عليّ أن أفعله هو أن أركب الطيارة عائدة والخمسون ريالاً كانت أجرة سيارة التاكسي من المطار إلى الأمان!

لم أعد….!

تخرجت في جامعة جورج واشنطن ثم من هارفارد ثم من جونز هوبكنز، وبقيت الخمسون ريالاً في أكثر الزوايا أثرةً في صندوق ذكرياتي. بقيت شاهداً على أني كنت أدور في هذا العالم الجميل المدهش وأتعلم قانعة ومطمئنة بأن هناك من يقف خلفي لو زلت بي القدم.

أبي وقتها لم يعطني إيجار عربة تنقلني من المطار إلى البيت، بل فتح أمامي بوابات واسعةً من الاختيار والمسؤولية وعلمني دون تلقين أن خياراتنا هي من يحدد مستقبلنا، وأكاد أقول مستقبل أولادنا من بعدنا. أعطاني أماناً أني أستطيع أن أنجح لكني أيضاً قد أعلن الهزيمة وأعود إلى حضن رعاني صغيرةً وسيرعاني ولن يمل رعايتي مهما بلغ بي العمر.

رحمك الله يا أبتي، عزاؤنا جميعاً أنك عشت كريماً ومت عزيزاً. نسأله جل وعلا أن يبدلك داراً خيراً من دارك وأهلاً خيراً من أهلك وأن يرحمك رحمةً تطمئن بها نفسك وتقر بها عينك، إنه سميعٌ مجيب الدعاء.

– المدير الإقليمي، الدول العربية – مؤسسة الأمم المتحدة للمرأة
 
* صحيفة الجزيرة السعودية

أحدث المقالات

أحدث المقالات