فضاء قصيدة فقدان الشريك
دلالات الغياب و حضورية دليل الغائب
مدخل : تقوم شعرية عوالم تجربة الشاعر القدير الأستاذ عبد الكريم كاصد إجمالا ، على تضافر محور و دلالة و ثيمة ( بنية الفقدان ) و هذه البنية الدالة في مجموع تشكيلات تجربته الشعرية ، لا تقتصر على مستوى محوري أحادي ، إنما أخذت تنسحب نحو عمق محاور تحولاتية عديدة في موضوعة القصيدة ، كمثال محور بنية فقدان الزوجة و محور فقدان الشعور بالزمن و المكان و محور التيه في أعتاب ذكرى الوطن و محور فقدان استقرارية الذات الشاعرة ذاتها في الجانب النفسي و المعنوي . و على هذا الأساس وحده أثرنا أن نتعامل و آليات تنصيصات المحاور الشعرية الثيماتية في القصيدة ، بموجب آلية إجرائية تحليلية مستقلة ، أي بمعنى ما ، أن نتعامل مع كل موجهات دلالات القصيدة المشحونة بدوال الفقدان عادة ، بمستوى من الخصوصية المبحثية الخاصة ، و ذلك عملا بمكونات فصولية استشرافية دقيقة الحدود و السمات ، غايتها تنصب في معاينة الأثر الفقداني في النص الشعري ، حيث يتم ذلك بالمزيد من القراءة التقويمية الهادفة إلى تصحيح الفهم و جمالية التداول و مغايرة النسق الظاهر من المعنى المتواجد في مسطحات النص المقروء . يمكننا القول هنا أن حقيقة دلالات ( بنية الفقدان ) في مجموع قصائد الشاعر ، كانت ترتكز بادىء ذي بدء بواقعة تجربة فقدان الشاعر لزوجته ، و ذلك ما وجدناه مؤثرا و مؤلما في صور مساحات إيقاعات شعرية مجموعة قصائد ( حذام ) تحديدا ، و يمكننا من خلال نصوص هذه المجموعة الرثائية المشفوعة بحسية مكونات الفقد و الغياب للزوجة ، أن نبدأ دراسة فصلنا الأول التابع لزمن دلالات مشروع كتابنا الموسوم بــ (بنية قصيدة الفقدان ) .
ـــ شعرية الذاكرة و شعرية التخييل .
إن المسافة الدلالية بالفقدان ، هي بمثابة الواصلة المنظورية التي تجمع بين خطاب القصائد في مجموعة ( حذام ) و بين ما نبصره من خلالها من وجود علاقة تراتيبية في شريط مؤثرات مراحل الزمن و المكان و الذات الشعرية ، حيث إن هذا الأمر راح يكشف لناعن حجم غيابات ذلك الآخر الشريك المتشكل حضورا في تجليات شعرية الذاكرة و شعرية التخييل لدى مواطن مخيلة الشاعر وهي تصنع مستثمراتها الدوالية بعناية الصانع الخبير :
عبر بوابة الليل
كنت تلوحين محمولة في الظلام
يشيعك الفجر
صدرك يعلو و يهبط
و الليل يسرع . قصيدة : الوقوف عند بوابة الليل ـ ص9
من خلال هذه العتبة الاستهلالية من مقاطع القصيدة الأولى ، تسعى حساسية التفاعل الوصفية بين الحضور / الغياب / الباث / المرسل ، لتنقل لنا بالتالي فضاءات الغياب الأحوالية المحتملة بالزمن و المكان ، و عبر آلية مثول علامات ( الماقبل ) وصولا إلى إبراز موحياته بالحضور التوصيفي المرسوم حاضرا:( عبر بوابة الليل ــ كنت تلوحين محمولة في الظلام ) إن حجم المراقبة بالغياب هنا ، أخذت تتلبس و تتمركز في منطقة المحتمل بالحضور ( كنت تلوحين ) غير إن دلالة جملة العتبة ( بوابة الليل ) أخذت تتعلق في شكلها الأحوالي بفضاء حساسية حضور جملة العبور الزمني الناجز (يشيعك الفجر ) ثم ترد جملة اللاحق (صدرك يعلو و يهبط ) و هذه الجمل الشعرية ، ربما بدورها راحت تخبرنا عن أحوال استجابة الجسد إلى حلم الصحو بعد نوبات الموت و يقظته الاستنطاقية ، التي راحت تقيمها علامات حركية الزمن الظرفية المضارعة و الممتدة بدلالة تسارع أفق المجهول ( و الليل يسرع ) .
و الخطوات تدق حجر
و الصدى يردد :
يا أنت
يا أنت
و الردهات تضج
و ترتج ــ ص 10
الاشارات الصورية والبؤرويةهنا بالمكان تستمر في تمظهراتها متنقلة من جمالية تقادم المؤشر الخارجي الخاضع لرؤية الشاعر المشحونة بإرسالية تفعيل المخيلة الواصفة لمشهد المكان : ( الخطوات تدق حجر) إذ يرتد وقع الخطوات هنا أشبه بمعنى أصداء الحجرفي وحشة المكان ، مما راح يشكل موقعية متخيلة في زمن دلالة سقوط الحجر ، فيما تذهب أصداء منطوقات الخطوات بهدير موجات صوت المخاطب القدري : ( و الصدى يردد : يا أنت ــ يا أنت) كاشفا الشاعر عن مضامين غيمة الجسد المسجى فوق سرير رحلة الخفاء و الإخفاق و استكمال وصلة لغة الحواس المنقسمة بين لغة الأنا و الآخر و المكان : ) و ترتج .. حولي كل الأسرة .. ترتج ) .
1ــ الفقدان يحاور أفق مخيلة الحواس :
في المقطع الثاني المرقم من القسم الآخر من القصيدة ، يخاطب السارد الشعري خيالات سياق التسلسل المناجاتي الصاعد نحو دال (الزوجة ) إذ نجد لدى الشاعر مشروعية رغبة في تحرير روح زوجته ، من حمى ذلك الانفصال الجسدي عن الروح ، مخاطبا إياها بما يعجزه عن فك تصاعد عقد ذلك الفقدان :
أتتني بيضاء
في الفجر شاحبة
قلت : هل تبصر النور .. ذلك البعيد
ألا تستريح إليه .. !
و قبلتني
كنت سائرة في الهواء
و كنت أسير وراءك ــ ص11
و يستحيل فضاء الفقدان في جانب من جوانبه ، إلى جملة بدائل حلمية محتملة الحدوث في مخاطبة روح و قلب ذلك الفقيد الهائم في ملكوت ( هل تبصر النور .. ذلك البعيد .. ألا تستريح إليه ..! ) و تتعدى أبعاد جملة ( إلا تستريح إليه ) تأثيرا في تشكيل تجليات محورية حالة الانتماء الحميم ، و تلخيصه في علاقة جوهرية نابعة من فاعل التماس المحتمل ( وقبلتني ) . و يتسع التصور فضائيا بالشاعر ، ليتخصص مدلوليا حين راح يلتحق دال الأنا بمستويات الآخر المفترضة و التي أخذت تلتم بحدود عملية جوهر التشاكل المنبثق تداخلا عميقا في مناطق دوال الرؤيا و الحلم : ( كنت سائرة في الهواء .. و كنت أسير وراءك ) من هنا راح يتشكل دال بنية الفقدان بحساسية حلولية الآخر غيابا ، و على النحو الذي راح منه يطيل استنطاق اللاتوقع في بنية الكشف الخطابي و الدلالي .
2ــ فضاء العدم و اللاجدوى :
حتى إذا ابتعدت خطواتك في النور
و انغلقت كل النوافذ
أبصرتني واقفا عند شاهدة
أتطلع حولي
و أدفن وجهي بين يدي ــ ص12
و تستمر القصيدة ناقلة لنا جملة مبثوثات دلالات الحافزية الفجائعية بالفقدان ، و عبر توافر المزيد من اللقطات النصية ، التي تقارب عتبة التصدير الأولى بالمتن النصي ، إذ تتكشف من خلالها الدوال عن صيغ ذات مهيمنات موجهة و متداخلة في صلب العملية الغيابية الحوارية بذلك الفقيد ، و من ثم تكشف لنا عن كيفية بروز الحالات الأكثر تكثيفا في مقاربة مركزية دال فعل الفقدان : ( حتى إذا ابتعدت خطواتك في النور / و انغلقت كل النوافذ ) تشتغل ترسيمة الجمل هنا ، على حساسية تعقب محاور الغياب و لغته ، و في سياق أخذت تضج به حالات الأشياء ، كبديلا معادلا عن مدى خيبة السارد الشعري في اللحاق بطيف ذلك الفقيد (خطواتك في النور )و بالجملة اللاحقة المعززة بحسية المكان الأحوالية ( و انغلقت كل تلك النوافذ ) فيما تنطوي الجمل اللاحقة من القصيدة بمسلمات الروح الخائبة و المفجوعة ،و على نحو بات تصور الشاعر فيها أكثر استكمالا لتفاصيل حكاية الافتراق و الفقدان : ( أبصرتني واقفا عند شاهدة ــ أتطلع حولي ــ و أدفن وجهي بين يدي ) و تكمن أهمية بنية الفقدان في قصيدة الشاعر ، على أنها راحت تؤدي صورة المقروء بهيئة تلك الحركات و السكنات و المونولوجات و الايهامات و الاصوات المأساوية في ذروة المعنى ، مما جعلها تبدو تمايزا وصفيا نادرا في رصد موجهات و صور و كلام ذلك المحتمل الخلاق .
ــ الذات الشعرية و استحواذية مهيمنات الفقد .
من خلال قراءتنا لقصائد مجموعة ( حذام ) زوجة الشاعر الراحلة ، يمكننا فهم آلية مؤشرات الدلالات في القصيدة ، فالصوت الأنوي و الدال الشعري الاحوالي فيها ، جاءنا رثائيا و حلميا، يغوص في تمفصلات أعماق ( أستحواذية الفقدان ) التي بات من خلالها الشاعر يحمل كل مقومات تراتيل الحداد ــ عزائا ــ على فقد حبيبه الذي ما أنفك يتلبس كل جارحه من جوارح زمنه الأنساني المتشاكل فيه أبدا ، وذلك هو المتمركز في جداول نهر حياته الشعرية ، لنقرأ هذه القصيدة و التي جاءتنا مستهلة بمرفق حكاية تتحدث عن تفاصيل رؤية الشاعر المنامية ، و عنوانها ( حلم ) :
في رمال البقيع
حملت الغزالة ميتة
قلت : أحملها
علني في الطريق أصادف ساحرة
ساحرا ــ ص19
و بغض النظر عن مرجعية حكاية القصيدة ،غير أننا سوف لا ننشغل بالحديث سوى عن حالات القصيدة ذاتها ، لنقول إن الذات الشعرية هنا فاعلة لا منفعلة ، فهي لا تتحرك في أفق رقعة ترسيمة دوالها التقريرية حالا ، بل أنها جاءتنا لتجسد شعرية لحظوية حقيقية تلقفتها أيادي المخيلة الحاذقة ، فالشاعر و انطلاقا من رؤيا فاعلية حلمه ، راح يسرد لنا خاصية موقف و رؤية مستحدثة تعبر عن مجالية وعيه المأزوم بالفقدان ، لذا تراءى له و هو يحمل جسد زوجته من مدفنها في البقيع : ( حملت الغزال ميتة ــ قلت : أحملها ــ علني في الطريق أصادف ساحرة ــ ساحرا ) فكما الحال هنا في العشق الأغريقي حيث التضحية المثالية و درءا للمتعة الحيوانية في سبيل صون الروح و الجسد ، إذ هكذا يبقى العشق للزوجة الميتة لدى الكاصد روحيا خالصا : ( قلت : أحملها ) فالخطاب هنا جاءنا مستفيدا من تقنية المونولوج ، ليدخلنا في علاقة الذات الرائية لذاتها بحثا عن ذلك العراف أو العرافة التي تمنح الحياة و الخلود لفقيد الشاعر ، و يتواصل الخطاب الشعري الباث و الباحث عن فعل إحياء الأموات وهما ، بمعنى وقوع الشاعر في أسر لحظة التمني و الحلم المستحيل ، لتغدو معها الظاهرة الموصوفة بالموصوف عبارة عن رؤيا مفترضة بمدلولات السياق التصويري :
من قبائل غابرة
عربا رحلا
ملكا بثياب الرعاة
نبيا ضاربا في الفلاة
إلها قادمة من ظلام الاساطير
وحشا
لأسألهم كي يعيدوا لي الميت ــ ص19
أنها معاناة الشاعر في البحث عن إحياء و خلق و ابعاث الحياة مجددا في جسد الزوجة ، تمتزج باللغة الشعرية الواصفة بطاقات كبيرة من الألم و نشوة الفقدان ، فالشاعر هنا صار يتخذ صورة فنية موحية و مستعارة بما تعنيه تجربة قصيدة الفقدان ، من حيث أنها مجموعة انطباعات حلمية تهيمن عليها مسوغات علاقة الوظيفة المرجعية بحكاية منام الشاعر ، وبإضافة وظيفة محاورة تقنية تحولات المدلولات النفسية بواصلة الإمساك بدرجات اللحظة الذروية المتمايزة في النص ، و إلا ما معنى مستوى هذا المتن التشكيلي شعريا إن لم يكن هناك مفتاحا لمرجعية أصوات المعنى الدلالي في محفزات المتن القصدي :
لكنني
حين باغتني الفجر
و استوحشتني الطريق
و أقبلت الريح
ألفيتني ضائعا في البقيع
أصيح و أجري وراء الغزالة
هاربة في الرمال ــ ص20
و هذه الخاتمة للقصيدة ما يجسد محتوى فاعلية مدلولها العنواني ــ حلم ــ إذ ليس في واقع لغة و إدراك و إيهامات القصيدة الدلالية لدى الكاصد ، سوى حرائق قصيدة الفقدان للزوجة : ( هاربة في الرمال ) من ثم صار لدينا العنوان و حكاية العنوان صورة أو نصا دالا على هوية المتن المدلولي المتكامل و المتاح على لسان حال ثيمة و محورية ( دلالات الغياب و حضورية الدليل الغائب ) .
( تعليق القراءة )
حاولنا جهدا في دراسة هذا الفصل إثبات و ترسيخ بنية الصورة الفقدانية للزوجة من خلال سلسلة بلاغة قصيدة الفقدان المتحققة و المرسومة في مجمل عوالم تجربة عبد الكريم كاصد الشعرية ، و صورة فقدان الزوجة تحديدا ما هي إلا صورة مركزية متشعبة تقع في أعلى مستوى دلالات الصدارة من مجموع فضاءات الفقدان و الفقد لدى الشاعر الكاصد ، فلهذا الشاعر ثمة صور علائقية ذاتية موغلة في مسافة احتمالية قصيدة الفقدان ، لذا فإننا سوف نقدم في الفصول القادمة من سلسلة دراساتنا حول عوالم الشاعر الفقدانية جملة من المتواليات الواسعة و الدالة ، و المتكونة من خلالها بؤروية قصيدة الفقدان المتواصلة و المشروطة و المتألقة في أفق أمتدادات فضاء قصيدة الشاعر إجمالا .