اخذ رجل يناجي ربه، وقلبه مفطور من الحزن وظلم العالم وجوره قائلا ، يا رب …. انك عليم بما يمتلئ به العالم من معاناة وعذاب ، فلماذا لا ترسل عونا ؟ فسمع في داخله صوتا يقول ، لقد فعلت …. لقد ارسلتك . مناجاة هذا الرجل كأنها تجسيد لقول المهاتما غاندي( يجب ان تكون انت التغيير الذي تتمنى ان تراه في هذا العالم ) . هذه المناجاة وهذا القول يصفان بداية معرفة لماذا يتقدم احد بينما يتخلف غيره . فالتقدم والتخلف رهنا بمدى معرفة الانسان لمواطن القوة والضعف فيه . فبمقدار معرفته لمواطن القوة يتحقق توجيه السلوك باتجاه تحقيق الهدف في المستقبل وتوفير الطاقة الفكرية للمعرفة للتعامل مع الحقائق في تمثيل الهدف وهو يتحقق وتجسيده ووصفه وترجمته الى خطوات وبرامج عمل . بينما عندما يكون وعيه ضعيفا سيتعامل مع الاوهام التي من خلالها يسهل اقناعه بالهزيمة النفسية المتمثلة بالعجز والسلبية والضجر والعشوائية .
ويتمثل تقدم غيرنا في مجالات التنمية والتطور في امتلاكهم القدرة على التماسك النفسي والانضباط عند مواجهتهم لازمة او كارثة او مازق سياسي او اداري من خلال اليات واساليب تشعرهم طوال الوقت بأن الامور تحت السيطرة وان اعصابهم وافكارهم بعيدة عن مثلث التدمير الذاتي المتمثل بالارق والارهاق والتوتر . وقدرتهم على كسب المبدعين ورعايتهم والاعتماد على ادلة قاطعة ومعلومات صادقة يمكن الركون اليها في انجاز المشاريع .والتعامل مع هذه الادلة بشفافية متمثلة في حرية تدفق المعلومات بشكل كافي لتكون في متناول المعنيين بها وتمكينهم من فهم ومتابعة هذه المعلومات في المؤسسات . وبلورة القناعة بانه لا يكفي للموظف أن يكون قادرا على العمل وانما المهم أن يكون راغبا فيه . اضافة الى استمرار البحث العلمي بلاستقصاء المنظم الذي يهدف الى اكتشاف حقائق متجددة تؤدي الى الابداع وادراك الفرص المتاصلة في جوهر الاشياء والعمل على استخدام احسن ما فيها وتطويرها .. وتنمية روح الانضباط ضمن نطاق العمل والحياة العامة من خلال تأدية الواجبات كاملة مع منح الحقوق كاملة ايضا اضافة الى اهتمامهم بالوقت واحترامه الى الحد الذي يصل فيه معرفة الحركات الغير ضرورية والسعي لتجاوزها .
وعند متابعة تجارب الامم في تطبيق هذه المفاهيم يتضح فيها تمثيلا للوعي واستغلال مواطن القوة لتحقيق التقدم والرقي والتطور .ومنها ما شاهدته في احد المعامل الصناعية في مدينة هامبورغ الالمانية من اهتمام بالوقت والالتزام بروح الانضباط في اداء العمل اللذان تمثلا عند استلام كل قسم للمنتج في وقت محدد ليتم تسليمه للقسم الذي يليه في وقت محدد ايضا بعد ان يجري على المنتج ما يخصه في عملية التصنيع ، ليخرج المنتج في النهاية من جميع اقسام التصنيع ضمن المدة المحددة لتصنيعه والمقررة في عملية التصميم . وعند زيادة الوقت المحدد للتصنيع عن تلك المدة المقررة يعاد النظر في خطة التصنيع والتوصية للعاملين بدورة تدريبية لتطوير مهاراتهم ورفع كفاءتهم . ووصل الانضباط الى تكوين وحدة لتبديل العلم في مؤسسات الدولة بمراسيم فيها التبجيل والاحترام من تنزيله حتى طيه الى درجة لا يمس فيها الارض . وعند النظر الى التجربة اليابانية المتمثلة في عمل الشئ الصحيح من أول مرة وفي كل مرة وبجودة عالية مع استمرار التطوير والتحسين المستمرين بما يحافظ على الكفاءة والفاعلية في استغلال الموارد المتاحة ، اضافة الى ترسيخ القيم لدى العاملين بأن نشاطهم وابداعهم هو ايقاظ روح الواجب تجاه الوطن الام . وكذلك عند متابعة التجربتين الهندية والصينية وكيف قفزتا نحو التقدم واصبحتا امتيين صاعدتيين تحققان نموا سريعا للغاية وانتقالهما نقلة كبيرة الى الامام من خلال انحسار الدولة القومية والطائفية فيهما والعمل دون توقف للتكيف مع مقتضيات حضارة العصر بتوفير القدرة الذاتية للاسهام فيها بصورة فاعلة والافلات من اسر التبعية وتفعيل روح التعاون بين الافراد والجماعات وتفهم احتياجاتهم وتحفيزهم وتقدير مساهماتهم في تحقيق الاهداف المتمثلة بالدفع نحو ارساء البنى التحتية وتثبيت دعائم اقتصادية اقوى ونظام تعليمي افضل .
اذن لماذا نحنو نتخلف بينما تتزاحم الامم وتتنافس على الدرجات المتقدمة من التطور للانتقال من الاحسن الى الافضل. بينما نحنو نتحرك على سير متحرك مهما تعبنا نحن في مكاننا . ليس في اذهاننا غير البكاء على اطلال الماضي والعيش فيه ، هذا الماضي الذي اصبح عبا ثقيلا على كاهلنا، لم نحصل منه الا سجالات ليس فيها الا اهدار لوقتنا في تصفحه وتقييمه وتمزيق لقوتنا واضطراب الوعي فينا . اضافة الى عوامل اخرى رسخت وارست لتخلفنا واهم هذه العوامل هي:-
وصاية رجال الدين والسياسين علينا كأننا ايتام أو عجزة وتلوين البيئة التي نعيش فيها بقناعاتهم وافكارهم .
الصراع الهدام بين الاحزاب الذي لا تبدو له نهاية.
ان الذات العراقية بحاجة الى الانتقال من الذات السمعية الى الذات الفكرية والتوجه الى وعي الافراد دون التوجه نحو غرائزهم والى ركن اللاوعي في شخصياتهم.
وجود بطانة سوء عازلة بين الناس والمسؤوليين واستفحال ظاهرة النفاق السياسي والاداري التي تؤدي الى تأخر مواجهة المشاكل وضعف الخدمات العامة .
سلوك الطريق المؤدي الى اهمال التنمية البشرية وتطويرها،المتمثل بالعنف والانانية والبغض وعدم تكافئ الفرص .والذي ادى الى وقوع العاملين في براثن الاغتراب الوظيفي اثر عدم اهتمام الحكومة بالعنصر الانساني في العمل من خلال عدم اهتمامها بالعوامل النفسية والانسانية للعاملين كمدخلات لدفعهم لتحسين ادائهم وزيادة انتاجيتهم.
الاعتماد على الشائعات وجماعات الضغط الاداري والسياسي في تكوين الراي الشخصي وتقييم المواقف ونهج سياسة التوريط بدلا من تفعيل سياسة التخطيط من خلال قيادات ادارية وسياسية يقودها الغضب.
القيود التي يفرضها بيروقراطي يريد ان يحمي نفسه قبل ان يحمي المؤسسة التي يعمل فيها وتكتيف المبدعين الى الوراء باجراءات روتينية متراكمة والطلب منهم انجاز الاعمال.
ان ما نحتاجه الان لمعالجة هذه العوامل المؤثرة على التنمية والتطور في الوطن والمجتمع هو تشكيل خلية ازمة يتمثل فيها نخبة من المفكرين في الادارة والاقتصاد والاجتماع وعلم النفس لوضع الحلول الناجعة لاعادة التوازن للشخصية العراقية المضطربة والمتجاذبة وفي اكثر من بعد سلوكي وتعبيري . هذا الاضطراب والتجاذب فيها ادى الى الفشل في تحقيق التنمية والتطور ..