ربما من حسن حظي أن أكون آخر من عرفهم محمود عبد الوهاب. كنا أحياناً نخرج من الجامعة، ونحب النزول في قلب العشار حيث العيون وما ترى من الأوساخ، طبقاتٍ بعد طبقات، في كل مكان وبالتساوي. نرتقي تلك التلة الصغيرة لندخل إلى ملتقى القبة، موطن النظافة البصرية. هنا الكبار، محمد خضير، اللايذ، العايف، عبد اللطيف، الموسوي، والسعد، كلهم. وهنا أيضاً نجد كرسي محمود عبد الوهاب، يجلس الأديب الكبير بكامل أناقته. أعطيته يوماً رواية “رحلة إلى سالتو”، وسألته بعد أيام عنها، وكنت أظن أنه لم يقرأها، لكنه بدأ يتحدث عنها بكل المفهومية، ويختار مواقف في الرواية لم أكن منتبهة لها. قال لو لم تكن مترجمة، لقلت إنها تأليف. لم يكن يحب الإطراء. سألنا يوماً الجالسين في القبة عن حسون. قال بابتسامته النادرة: ومن حسون هذا، وهو يعرف، لكنه مال إلى المماحكة البريئة. قلنا هو حسين عبد اللطيف. قال وكيف تتساوى الرقة في هذا الطائر الغرد مع صاحبكم؟ هنا أعطى الأستاذ الكثير من حبه للتلميذ. هكذا سارت الأيام الثقيلة، ثقل الطين البصري بعد ليلة طويلة ممطرة. كنا صيفاً نجلس على المقاعد الطويلة في تلك المقهى الغريبة التي تسمى جزافاً مقهى الأدباء، وما ملك الأدباء يوماً شيئاً من طين البصرة. هنا نجد كل حنان عبد الكريم كاصد، وهدوءه. سرعان ما يحرك جاسم العايف الجلسة بضحكته العالية. ها قد جاء أستاذ محمود! قال محمود أنا على عجل، خمس دقائق فقط، وأمشي. عندي شوية شغل. لكن الدقائق الخمس تلك تصبح ساعات من الظرف. لم ألاحظ شيئاً من التكلف. يتحدث الرجل على سجيته. ينظر إلى وجودي الوحيد، فيختار الكلمات بعناية شديدة. شيخ في غاية الرقة. قصّ علينا مرة حكاية نادرة عن شاعرنا البصري المعروف، ووصل إلى كلمة أحرجته، فلم ينطقها، واختار بدلاً عنها كلمةً أخرى كادت أن تغير الحكاية لولا مؤيد حنون الذي قال: واضح، يعني.. لكن محمود قال: هكذا، يعني … رجل غايةً في الحياء والمروءة. نظرة صافية، فيها كل نظافة البصريين الأوائل.
في صباح بصري حار، مشبع بالرطوبة، قبل الرحيل بأشهر قليلة، رأيناه عند اللايذ. خرج حالاً ليقول: أوصلوني إلى مكتب الخطوط الجوية هناك. تعددت الخطى وتناثرت حتى تحولت هذه الأمتار القليلة إلى رحلةً في الزمان والمكان. سألته: هل أحسست بالزهو حين انتهيت من كتابة قصتك الأولى؟ هل عرفت في حينها أنك كتبت شيئاً جديداً؟ نظر من تحت النظارة الطبية. وضع سبابته على فمه كالطفل، يستذكر ذلك الفتح الذي أصبح مبيناً اليوم، وقال: نعم. أحسست بذلك فعلاً، وعرفت أني أنجزت شيئاً كبيراً. نظر إلى عصاه، وربما أحس بالعيب منها، فقال: أنا لا أتوكأ عليها.. منذ حادث الدراجة.. قلنا نعم، نعم، واضح. أحسسنا بأن عصا التوكأ يمكن لها أن تنقص الرجال ما عدا محمود عبد الوهاب. كذلك كانت نظرته وإحساسه بالوجود من حوله. قلتُ: لمن كنت تقرأ في تلك السنين؟ ابتسم وقال: كنت أحب كاتباً روسياً نسيت اسمه. قلنا: تشيخوف؟ قال: لا، كاتب غير معروف أبداً.
كذلك رحلنا عن محمود في ذلك الصباح الرطب. أخذ هو اسم كاتبه الروسي معه، وترك لي صورته الفوتغرافية، يجلس عن اليمين، ينظر كالطفل تماماً، وعن اليسار يضحك جاسم العايف ضحكته العالية.