بمقارنة ما جرى منذ العام 2003 حتى الآن بما كان قبلاً، هل العراق، ومعه إقليم الشرق الأوسط والعالم، كان سيغدو في حال أفضل من الحال القائمة طوال الخمس عشرة سنة الماضية لو لم يُطح صدام حسين ونظامه؟
البعض يظنّ هذا، لكنّه ظنٌّ يُجافي المنطق والواقع.. لننظر إلى سوريا، مثلاً، هل هي الآن في حال أفضل ممّا لو قد تجاوب بشار الاسد مع مطالب شعبه بالرحيل، أو أقله إجراء إصلاح سياسي في نظام حكمه؟
على مدى ربع قرن قبل 2003، كان صدام قد بدأ حقبة رئاسته العراق (1979) بمجزرة رهيبة طالت العشرات من رفاقه في قيادة حزب البعث ممّنْ صوّتوا في اجتماع حزبي ضد إحالة الرئيس السابق أحمد البكر للتقاعد عنوةً وإحلال نائبه صدام محلّه. وفي غضون ذلك كان صدام يواصل حرباً داخلية ضد الحزب الشيوعي الذي كان شريكاً صغيراً في السلطة، وسائر القوى الوطنية والقومية، فلم يكن يقبل بأقل من أن يُصبح كل العراقيين بعثيين وأن يوالوه شخصياً، وإلّا فدونهم المصير الأسود الذي يصل الى السجن والتعذيب وحتى الموت. في الأثناء أيضاً كانت الحرب ضد الحركة القومية الكردية متصاعدة بعدما انقلب صدام قبل ذلك بخمس سنوات على اتفاقية السلام والحكم الذاتي معها، ثم عقد وشاه إيران اتفاقية مخلّة بسيادة العراق واستقلاله الوطني مقابل معونة إيران في القضاء على الثورة الكردية.
في أقل من سنة بدأ صدام يهيئ المسرح لحرب ضد إيران. وفي مدة أشهر أشعل نار الحرب (1980) التي ستدوم ثماني سنوات وتستنزِف قدرات العراق المالية والاقتصادية، فضلاً عن العسكرية، ليسعى صدام بعد انتهائها من دون تحقيق أهدافها، لابتزاز دول الخليج التي فتحت له خزائنها في سنيّ الحرب، وإذْ رفضت الخضوع للابتزاز شنّ صدام حرباً جديدة احتلّ فيها الكويت وألحقها بالعراق (1990)، ورفض بعناد ومكابرة الانسحاب منها ليواجه حرباً أخرى أحرقت ما تبقّى للعراق من أخضر ويابس. ومع ذلك تمسّك بالتغنّي بالهزيمة في حرب الكويت بوصفها نصراً، على غرار ما حصل في الحرب مع إيران.
في غضون ذلك أقدم صدام على ارتكاب ثلاث مجازر كبرى في حق شعبه؛ الهجوم بالغازات السامة على مدينة حلبجة الكردية، وحملة الأنفال ضد الكرد (1988)، وعمليات القتل ودفن الناس أحياءً في مقابر جماعية للآلاف من سكان المحافظات الجنوبية والوسطى التي انتفضت اثر هزيمة حرب الكويت (1991)… تلك الحملات كلّفت الشعب العراقي مئات الآلاف من الأرواح، لتنضاف الى نحو مليون ضحية في الحربين ضد إيران والكويت.
لم يشأ صدام، بعد تلك الأحداث المُزلزلة، أن يراجع نفسه ليختطّ طريقاً آخر في سياساته الداخلية والخارجية، بل زاد من تركيز السلطات في يديه ورفع من منسوب القمع والعسف، غير مكترث بما آلت إليه أحوال العراقيين الذين باعوا حتى شبابيك بيوتهم وأبوابها للبقاء على قيد الحياة بأدنى الشروط اللازمة لحياة البشر، في ظلّ حصار دولي كان بمثابة عقوبة جماعية للشعب العراقي، لم تشمل صدام الذي ظلّ يبني القصور المنيفة ويعيش الحياة المُبالغ في رفاهيتها حتى بمقاييس الظروف العادية.
كان في وسع صدام أن يتخلّى عن الحكم بعد انتهاء الحرب ضد إيران ليسمح لغيره بقيادة الدولة، ولم يفعل.. وكان في وسعه القيام بذلك بعد هزيمته في حرب الكويت، ولم يفعل. وبديلاً عن التخلّي عن السلطة، كان في وسعه أيضاً في المرّتين، الحدّ من صلاحياته المُطلقة، والانفتاح على قوى المعارضة وإحياء اتفاقية الحكم الذاتي مع الحركة الكردية، بيد أنه لم يذهب إلى أيّ من هذه الخيارات، متشبّثاً بخيار وحيد هو بقاؤه في السلطة بكامل مواصفات الجور والطغيان في حقّ شعبه وجيران العراق وبقية العالم. خيار الاستقالة ونقل السلطة إلى غيره من قيادة البعث كان مُتاحاً له بضمانات قوية، حتى بعدما بدأت حرب 2003، فرئيس دولة الإمارات العربية الراحل الشيخ زايد عرض عليه توفير ملجأ آمن له ولعائلته، فرفض بكامل العناد والمكابرة، ليزجّ العراق في أتون حرب مدمّرة جديدة.
المؤكد أن شخصاً بهذه السيرة والسلوك لو بقي في السلطة لزاد من طغيانه، ولظلّ يتحيّن الفرص للانتقام داخلياً من قوى المعارضة، وخارجياً من الدول التي وقفت ضد احتلال الكويت وشاركت في عملية تحريرها.
القول بأن العراق والعالم ربّما كانا سيكونان أفضل لو بقي صدام، لا سند له سوى أن أوضاع العراق وإقليم الشرق الأوسط اتّجها نحو الاضطراب خلال الخمس عشرة سنة الماضية. وفي ما يتعلق بالعراق، فالسبب في سوء أوضاعه يرجع إلى أن الذين تولّوا السلطة بعد صدام لم يعملوا على بناء دولة ظلّ العراقيون في انتظارها عقوداً عدّة. العراق كان جاهزاً بعد إزاحة نظام صدام الهمجي ليصبح دولة تضاهي في قوتها الاقتصادية ورفاه سكانها المملكة العربية السعودية ودولة الامارات، مثلاً، فعدا عن ثروة النفط والغاز المهولة المتوفرة له، لديه امكانيات زراعية وصناعية كبرى، أما ثروته البشرية، وبالذات الفئات المؤهّلة علمياً، فكانت لا تدانيها ثروة أي دولة في المنطقة.
المشكلة أن خلفاء صدام تعاملوا مع الدولة والمجتمع وفق نظام البرية الوحشي، فتنازعوا على السلطة وسعوا لتقاسمها بنظام المحاصصة الطائفية والقومية، وهذا بالذات كان مثاراً لنزاعات عنيفة متفاقمة، وسبباً في استشراء ظاهرة الفساد الإداري والمالي، وما كان في وسع دولة انهكتها الحروب المتلاحقة والدكتاتورية المديدة، أن تقف على قدميها مع صراعات طائفية وقومية مسلّحة ونهب منظّم سافر لعوائدها المالية.
تماماً مثل صدام، التزم خلفاؤه العناد والمكابرة، فلم يشاؤوا التراجع عن أخطائهم وخطاياهم وتعديل المسار، فكان أن تردّت أحوال العراقيين، ما جعل البعض منهم يترحّم الآن علناً على صدام ونظامه!
عملية إسقاط نظام صدام كانت صحيحة.. غير الصحيح هو وضع الولايات المتحدة عراق ما بعد صدام في أيدي جماعات الإسلام السياسي التي أظهرت التجربة أنها لا تصلح لغير إدارة الأضرحة والجوامع والحسينيات.