الحلقة الحادية والعشرون
يقولُ أدونيس إنَّ الشعرَ ليس مجردَ تعبيرٍ عَنْ الانفعالاتِ وَحدها، إنَّمَا هو رؤية متكاملة للإنسانِ وَالعَالم وَالأشياء، وَكُلُّ شاعرٍ كبير هو مفكرٌ كبير. وَلا أخفي سراً أَنَّ تمعّني فِي الرؤيةِ المذكورةِ آنفاً، كان مِنْ بَيْنِ أهمِ الأسباب المَوْضُوعِيَّة الَّتِي حفزتني للخوضِ فِي غمارٍ – مَا أتيح لي – مِنْ تجربةِ الشاعر الكبير يحيى السماوي بأبعادِها الإنسانيَّة، بعد أنْ تيقنتُ مِنْ سموِ منجزه الشعري المغمس بثراءٍ فكري وَحس وَطني وَوَعى عقلاني يعبرُ عَنْ إيمانٍ بسلامةِ الخطى وَوضوح الرؤية، فلا غرابةَ فِي أنْ يكونَ للإنسانِ وَالحبِ والجمالِ حضورٌ وجدانيٌّ فِي مَا تباينَ مِنْ أجناسِ نصوصِه الشعريةِ الرشيقةِ الأنيقة، والمؤطرةِ بذوقٍ عالٍ وحسٍ مرهف، بالإضافةِ إلى توشيمِ بعض فضاءات نصوصه الشعرية بمفرداتٍ منتخبةٍ بعنايةٍ وَدرايةٍ مِنْ مَوْرُوثنا الثَّقَافِيّ والاجْتِمَاعِيّ؛ مُوظِفاً مَا تكتنزه ذاكرته المتقدة المتوهجة مِنْ صورٍ مَا بَيْنَ طياتها، وَالَّتِي ظلت ملتصقة بوجدانِه وَلَمْ تفارقه، فثمَّةَ مفردات مِن التراثِ الشَعْبِيِّ مَا يَزال لها صدى فِي بعضِ نتاجاته الشعريَّة.
لا مغالاةً فِي القولِ إنَّ السَماويَ يحيى الَّذِي كتبَ ذات يوم : ” أنا أرى فِي كُلِّ طفلٍ أمسي … وأرى فِي كُلِّ عكازٍ أو كرسيّ متحرك غدي “، فضلاً عَنْ قولِه ذات منفى : ” سيبقى الشعر طالما بقي حزنٌ وَعشق وَصبابة وَفرح … به نوقظ الربابة مِنْ سباتِها … وبه تناغي الأم طفلها حين تهزهزه فِي المهد .. وَمِنْ حريرِه ننسجُ منديلاً نمسح بِه دموع الروح “، دفعَ ضريبة دخوله المبكر معترك السياسة تعرضه للكثيرِ مِن المضايقات، بالإضافةِ إلى مَا لحق بِه مِنْ مخاطر، لعلَّ فِي القلبِ مِنْها مَا أفضى إلى التسببِ فِي وقوعِه بمآزقٍ يصعب عَلَى إنسان – فِي ريعانِ شبابه – التخلص مِنها، فأصبحتْ محاولة الرجوع إليها أشبه مَا تكون بحجرٍ ثقيل يأبى إلا أنْ يجعله يغوص فِي وديانِ ذاكرةٍ عميقة, حيث تحمل السَماوي مِن العذابِ مَا يكفي بحسبِه لإصابةِ حمار سليم البنية بالشللِ مِن دُون أنْ يصرخ، فَقد مارس فِي صدرِ شبابه مهنة التدريس وَعمل بمجالِ الصحافة بعد تخرجه فِي عامِ 1974م مِنْ قسمِ اللغة العربية بكليةِ الآداب فِي الجامعةِ المستنصرية، إلا أَنَّه كان طوال تلك السنوات العجاف عرضة للاعتقالِ وَالمطاردة بسببِ كتاباته وَمواقفه السياسية المناهضة للنظامِ الشمولي، وَالَّذِي كان مِنْ بَيْنَ إجراءاته إصدار قرارٍ مثير للاشمئزازِ يتضمن نقل خدماته الوظيفية مِنْ حقلِ ” التدريس ” إلى ” بَلَديَّةِ السَماوة ” بعد افتضاح مصيدة مَا كان يشار إليه باسْمِ ” الجبهة الوطنية والقومية التقدمية “. وَلأَنَّ الحديثَ شجون كما تقول العرب، يشيرُ السَماويَ إلى بعضِ الجزئيات عَنْ محنةِ شعبنا فِي تلك الأيام المليئة بالحزنِ وَالأسى قائلاً : ” نحن – ويعني أهل العراق – نعدو خلف قطار الفرح، ولا أدري متى نلحق به فنركبه متجهين نحو الغد الجميل … قد لا يعرف الكثيرون أنَّ العراق في زمن – القائد الضرورة – كان أول بلد عربي استخدم الكومبيوتر… لكنه استخدمه فِي أجهزةِ أمنه وَمخابراته وَاستخباراته… أقسم أننا عثرنا خلال الانتفاضة الشعبية – الشعبانية – على وثائقٍ تفيد بوجود جلادين مهمتهم الإغتصاب “.
***
لا فَرْقَ بين الموتِ والميلادْ
ما دام أَنَّ الناسَ في مدينتي
مزرعةٌ
يقطف من رؤوسها الجلاّدْ
وباسم صولجانِهِ
تُؤَبَّنُ البلادْ
لا فَرْقَ بين الموتِ والميلادْ
وها أنا
يومٌ يتيمُ الغَدِ
في حقيبتي وَهْمٌ
وفي ربابتي صمتٌ..
فما الإنشادْ
إنْ جَفَّ ماءُ «الضادِ» في حنجرتي
وحاصرتني شَهْقَةُ العويلْ؟
الليلُ في قلبي
فماذا ينفعُ القنديلْ؟
***
لا رَيْبَ أَنَّ السَماويَ يحيى أصبح بقوةِ شاعريته مثار إعجاب الأوَساط الثقافية وَالشعبية، فعَلَى سبيلِ المثال لا الحصر أشارت الأديبة العراقية الدكتورة ناهدة التميمي إلى تجربتِه فِي عالمِ القريض بالقول : ” يحيى السماوي .. أيها البحار الجريء المبحر بنا إلى شواطئ الخيال وعوالم التهدجات الروحية بحثاً عن مغامرة في مغارات الجن الشعرية “. وَعَلَى الرغمِ مِنْ ذلك، فأَنَّه مَا يَزال يسبح – محدّقاً بثيابِ الحقيقة – فِي نهرِ الوجع العراقي مِنْ أجلِ المُسَاهَمَةِ فِي إعاقةِ محاولة سرقة تاريخ مرحلةٍ تاريخية حالكة السواد كان فِيها الشعب يتلوى تحت سوط جلاد واحد فِي ظلِ النظام الدكتاتوري الَّذِي تمّ ردم مستنقعه فِي عامِ 2003م، فضلاً عَنْ توثيقِه بأسلوبٍ شعري شفافَ لِمَا عاناه شعبنا مِنْ إذلالِ الاحتلال وَجرائمه المروعة، وَمَا تعرضت له بلادنا بسببِ سياسات المحتل مِنْ تدميرٍ منظم لبناها التحتية، وَالَّذِي أدى إلى تعطيلِ حركة الحياة، إلى جانبِ التداعيات المترتبة عَلَى تنافسِ أغلبية مكونات الطبقة السياسية فِي ممارسةِ أسلوبِ النفاق السياسي خلال هَذِه المرحلة العصيبة مِنْ تأريخ العراق المعاصر. وَتحضرني هُنَا كلمات أحد أشهر الكُتاب وَالمؤلفين حول العالم الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي (1821 – 1881 ) الَّتِي يقول فِيها : ” اطمئنوا .. الجحيم يتسع للجميع، فالأمر لا يستحق كل هذه المنافسة الشرسة على من سيكون الأسوأ فيكم “.
على ما يذكرُ الآباءْ
إنَّ الارضَ كانت غير ضَيِّقَةٍ
وكان الماءُ أعذبَ
والرغيفُ أَلَذَّ
والأعشابْ
أكثرَ خضرةً…
حتى فاتناتُ الأمسِ
كُنَّ أَرَقَّ…
والخيلُ القديمةُ
لم تكن تُرْخي اللجامَ لغيرِ فارسِها…
ولا كان الجبانُ يصولُ في الميدانِ…
والأغرابْ
لا يتَحَكَّمونَ بقوتِ ذي سَغَبٍ
وَنَبْضِ رقابْ..
وَيَقْنَعُ بالقليلِ من القطيعِ الذئبُ
لا كذئابِ هذا العصرِ…
أذكرُ أنَّ أُمي حَدَّثَتْني عن بيوتٍ
دونما أبوابْ
وتقسمُ أَنَّ جاراً
قد أضاعَ شُوَيْهَةً يوماً
فَعادَتْ بعد عامٍ خَلْفَها حَمَلٌ
يقودهما فتىً سألَ المدينةَ كلَّها
عَمَّنْ أضاعَ شُوَيْهَةً يوماً…
على ما يذكر الآباءْ
كان الناسُ
لا يَتَلَفَّتون إذا مشوا في السوقِ
أو خرجوا من المحرابْ
وكان ” الخيش ” و ” الجنفاصُ ”
أَنْعَمَ من حريرِ اليومِ
***
على ما سوفَ يذكر بعدنا الأبناءْ
إنَّ الأرضَ
أضيقُ من حبال الشنقِ في بغدادَ
والماءَ الفراتَ له
مذاق الصّابْ..
وانَّ الجارَ يخشى جارَهُ
وتخافُ من أجفانها الأهدابْ
***
يمكن القول إنَّ مِنْ بَيْنَ البراهين البينة عَلَى مصداقِ قولنا المذكور آنفاً، هو سعي السَماوي جاهداً توظيف إبداعه الأدبي بِمَا تباين مِنْ أجناسِه فِي تسجيلِ مَا عاشه حقيقة؛ خوفاً عَلى ذلك التأريخِ مِن التشويه فِي زمنٍ رسخت فِيه ” العولمة ” آليات قرصنة الاحلام وَالحقيقة. وَفِي هَذَا السياق يشير السَماوي إلى هَذَا المنحى بالقول : ” قد لا أوفق فِي تدوينِ شهادتي، لكني صادق فِيها وربي “. وَتأكيداً لمَا حل بشعبِنا مِنْ مأساةٍ إنسانيَّة مروعة أيام النظام الشمولي، فضلاً عَنْ معاناتِه الأحزان لسنواتٍ عجاف بسببِ هولِ مَا سُفك مِن الدماءِ البريئة، وَلأَنَّ الثَّقَافَةَ فِي مثلِ هَذِه الظروف تُعَدّ أحدى أبرز السُّبُل المتاحة لتأكيدِ الإنْسَان آدميته، فقد حاول السَماوي قدر استطاعته ذكر اليسير مِمَا عايشه أو كان شاهداً عَلَيه فِي تلك المرحلة العصيبة مِنْ تأريخِ العراق، وَالَّتِي لا ينبغي أنْ تضيعَ مِنْ ملفاتِ الذَاكرة الوَطَنيّة فِي ظلِ مَا ظهر مِنْ محاولاتٍ جادة لشطبِ جزء مِنْ تأريخِ بلادنا قصد تجميل صور الطغاة بتزويرِ موروث معاناة شعبنا، فالسَماوي يحيى – الَّذِي يشير إليه الشاعر العراقي كاظم غيلان بوصفِه، ” شاعر استثنائي حقاً لأنه مسكون بحبه المطلق للإنسان والجمال ” يقسم أَنَّ ” الحقائقَ أكثر بشاعة مِمَا ذكره وَما سيذكره فِي قادمِ الزمن “، فالواقع كما يعلم مَنْ عاصرَ تلك الأيام المريرة يشير إلى أَنَّ ثَمّةَ أحداث مر بِها العراق لا يمكن تصديقها بسببِ منافاتها لأبسطِ القيم الإنسانيَّة، وَالَّتِي قد تصح فِيها إشارة المؤرخ الإنجليزي إدوارد جيبون ( 1737 – 1794 ) إلى التأريخِ بوصفِه ” أكثر من سجل للجرائم والحماقات ومصائب البشرية “، ولعلَّ مِنْ بَيْنَ تلك الوقائع مَا ذكره السَماوي ذات مرة بالقول : ” إذا كنت سأنسى، فلن أنسى ذلك الموقف الصعب عندما اضطر بعض الجنود أن يجمعوا جثامين رفاقهم ويضعوا عليها كميات من الترابِ والطين لتكون بمثابةِ ساتر لهم يقيهم الرصاص والشظايا في معارك الفاو “.
***
تَوَسَّدَ الوِجاقْ
رمادَهُ…
توسَّدَ العراقْ
مِخَدَّةَ السبيِ
فَشاصَ الخبزُ في التنورِ
والضياءُ في الأحداقْ
***
ما عادتِ الأقمارُ تُغري
مَقَلَ السُهادْ
متُّ غريباً
قبلَ أَنْ أعيشَ يا بغدادْ
***
كلَّ صباحٍ
أبدأُ الرِحْلَةَ في مدينةِ الأشباحْ
تقودني حافلةُ النهارِ نحو الليلِ..
أحياناً يقودني رنيمُ الليلِ
نحو شرفةِ الصباحْ
منطفئَ العينينِ
أو
مَهَشَّمَ المصباحْ
***
مَا أظنني مبالغاً إنْ قلتُ أَنَّ مَا اكتنزته تجربةِ السَماوي الأدبية مِنْ نّبشٍ فِي ذّاكرةِ سنوات الحرب وَغيرها مِنْ فواجعِ عبثية سياسات النظام الدكتاتوري، ليس القصد مِنها عَلَى مَا يَبْدُو إضفاء جو مِن الحنين إلى ماضٍ تولى، إنمَا لَهذا المنحى ما يبرره وَمَا يسوغه، فَكما يشير القولِ المأثور إلى أَّن :” الأمة التي تحفظ تاريخها تحفظ ذاتها “، يثابرُ السَماوي جاهداً فِي محاولةِ إضاءةِ ندبٍ تقتضي الحقيقة بقاءها محفورة فيِ ذاكرةِ التأريخ الإنْسَانيّ مِنْ أجلِ أنْ تَرويّ للأجيالِ بشاعة جرائم النظام الشمولي الَّتِي ارتكبت بحق أبناء الشعب العراقي عَلَى مرأى ومسمع مَا يشار إليه باسْمِ ” الْمُجْتَمَع الدَوْليّ “، وَيمكن الجزم بأنَّ أكثرَ مَا يؤكد صحة مَا ذهبنا إليه مِنْ رُّؤية، هو ردود أفعال الأدباء وَالنقاد وَالقراء حيال نتاج السَماوي الشعري وَالأدبي، وَالَّذِي لَمْ يقتصر عِلَى اهتمامِ المتلقي مِنْ أبناءِ وطنه، بل تعداه إلى الكثيرِ مِنْ القراءِ وَالمتابعين فِي مختلفِ أرجاء المعمورة بفضلِ جمال شاعريته وَتعبير قصائده الشعرية عَنْ همومِ الإنْسَان، بالإضافةِ إلى مُسَاهَمَةِ مَا تحمله الْمُجْتَمَعات البَشَريَّة مِنْ مشتركاتٍ إنْسَانية فِي هَذَا المنحى، وَالَّتِي رُبَّما يصح فِيهَا قول الروائي الراحل نجيب محفوظ ” لا شيء يقرب بين الناس مثل العذاب المشترك “.
أوصِدْ نوافذك الجريحةَ
لن يُطِـلَّ الهدهدُ الموعودُ
حتى يستعيدَ عفافـَهُ طينٌ ووَردُ
ويعودَ للأربابِ رُشـدُ
للأرض قصّـتها القديمةُ :
كان يا ما كانَ
في الزمن الذي لم يأتِ بعدُ
وطنٌ
تخاذل فيه جندُ
فإذا الرغيف الذلُّ
والماعونُ جرحٌ
والهوى سوطٌ وقيدُ
فلتدّخِـرْ آهاتكَ
الشطآنُ سوف تضيقُ
والأنهارُ تعطشُ
تستحي من ظلها الأشجارُ
سوف يجفُّ ضرعُ الأرضِ
والتنورُ يغدو
إرثاً فراتيّـاً..
إذن ؟
أينَ المفرُّ من القصيدة
والقصيدةُ تهمةٌ إنْ لم تـُهادن
سارقي قوت الجياعِ
ولم تـُمَسِّـدْ لحيةَ السـيّافِ
فادخل كوخ جرحِكَ واغلقِ الأبوابَ
فالناطورُ وغْـدُ
كذبتْ غـيومُ الفاتحين
وكاذبُ برقٌ ورعـدُ
لا يخفى عَلَى كُلِّ متابعٍ أَنَّ السَماويَ شاعرٌ ملتزم، فقضايا الإنْسَان وَهمومه تشكل الينبوع الرئيس الَّذِي تتفجر مِنه شاعريته وَيطوّف خياله فِي أرجائِها، حيث يَعَدّ القصيدة بوصفِها التزاماً وطنياً وَإنْسَانيّا وأخلاقيا؛ لذلك مَا يَزال مثابراً عَلَى تعزيزِ رسالته السامية فِي الحياة، وَالَّتِي ترتكز أبرز مقوماتها عَلَى رفضِ الاستبداد، وَالدفاعِ عَنْ المقهورين وَالمعذبين وَالمهمشين، بالإضافةِ إلَى تمسكِه بالدعوة للتشبثِ بخشبةِ الأمل فِي بحرِ الهموم الَّذِي قادنا نحوه ربابنة الصدفة والقراصنة الجدد، حيث أَنَّهم يريدون لنا أنْ نيأس فنستكين لهم؛ لذا لا بد مِنْ محاربتهم بالأمل. وَيمكن الجزم بأنَّ السَماوي أينما ذهب، وكيفما كان الطقس، يحرص دائماً عَلَى أنْ يصطحبَ معه ضوء الشمس الخاص بِه كما ينص قول مأثور لا يحضرني الآن اسْم قائله. وَمِنْ هُنَا فإننَا لا نبعد عَنْ الحقيقةِ إذا مَا أطرقنا السمعَ إلى السَماوي وهو يتحدث عَنْ فهمِه لمعنى الشعر بالقول : ” إنَّ الشعرَ بالنسبة لي هو الماء الذي أطفئ به حرائق الغربة، والعصا التي أنشّ بها ذئاب الوحشة عن خراف طمأنينتي مثلما هو النافذة التي أطلّ منها على جنتي وجحيمي العراق … وقد يغدو المنديل الذي أخبّئ فيه دمع الرجولة الخشن، لذا ألوذ بحرير أحلامه هرباً من صخور اليقظة “.
***
هَرِمَتْ قـناديلي وشاخَتْ جبهتـي
لــكــنَّ قـلـبي مــا يَــزالُ فَـتِــِيّــا
لا زلـتُ أذكرُ سَـكرةً صوفـيَّـــةً
أَلْـفَـيْـتُـني بـرحـيقِهــــا مَغْـشِــيّـا
فَـتَـوَضّأتْ روحي وَيَمَّمَ نبضَـــهُ
قـلبي وفاض الذِكـــرُ من شَـفَـتيّا
صلَّيتُ لـلـهِ الـوجـوبَ ولم أكـنْ
من قبلِ حبكِ نـاسِـكاً صُـوفـيّـا
مَحَضَتْكِ رِقَّـتها الورودُ وأوْدَعَتْ
شـفـتيكِ سِـرَّ الـياسـمـيـن شَــذِيّــا
حَضَرِيَّةُ الديباجِ لكنْ في الـهوى
بَـدَوِيَّـةُ الأشــواقِ تــأْنَـفُ غَـيّــا
والـلـهِ عـشـتُ الفاجعاتِ جميعَها
وَخَـبَـرْتُ منها شاخِصاً وَقَصِيّــا
لـــكــنَّ أَثْـقَـلَها عـلـــيَّ : شماتَـةٌ
مِـمَّـنْ تَـخَـيَّـرَهُ الــفـؤادُ صَـفِـيّــا
لا تنفِـني من حقـلِ قـلبِكِ .. إنني
عـشـتُ الحـياةَ مُـشَـــرَّداً مَـنْـفِـيّا
أُوصِيكِ بيْ شَـرّاً إذا خنتُ الهوى
وَنَـكَـثْـتُ عَـهــدَ مَحـبَّـةٍ عُــذْرِيّـا
المثيرُ للاهتمامِ أَنَّ السَماوي يحيى يعتقد أَنَّ بمقدورَ القصيدة ترميم جزء مِنْ هَذَا الخراب الَّذِي حوّل العراق الى مكبِّ نفاياتٍ بَشَريَّة ظلامية إجرامية، وَأرخبيل دويلات هشة أفرزها مستنقع المحاصصة الَّذِي حفره المحتل الأمريكي. وَلعلَّ مِنْ جملةِ مَا دلنا عَلَى هَذَا اليقين الأديب والمترجم السوري عبد اللطيف الأرناؤوط فِي دراسته الموسومة ” الرؤية الوطنية في ديوان البكاء عَلَى كتفِ الوطن “، وَالَّتِي يؤكد فِيها رؤيته بالقول : ” محنة الوطن هي محنة الشاعر يحيى السماوي، وهي من أكبر الأحداث التي هزّت الضمير الإنساني، فلا غرابة أن ينذر الشاعر قلمه لتصوير وقعها في نفسه، فقد غادر السماوي وطنه العراق هربا من الظلم والاستبداد الديكتاتوري على أمل العودة إليه في ظل نظام يغدو فيه العراق وطنا للجميع يخلو من القهر والاضطهاد، لكن أمله خاب حين بدت له مأساة الاحتلال لا تقلّ فداحة عن الحكم الاستبدادي، فآثر البقاء في منفاه يمزقه الألم، وقد تخلى العالم كله عن وطن وشعب كان عبر تأريخه منهلا للحضارة ومنبعاً للعطاء الإنساني “. وَقد وصل الأرناؤوط إلى استنتاجاتٍ أجملها فِي قولِه : ” وهكذا يبرز صوت الشاعر يحيى السماوي شاعراً مقاوماً للديكتاتورية مثلما هو مقاوم للإرهاب والاحتلال والظلاميين وأصحاب الحوانيت السياسية وسارقي قوت الجياع… فهو مع المظلومين في حربهم العادلة ضد الظلم، مع المهمشين والمسحوقين ضد ذوي القفازات الحريرية، ومع أراجيح الأطفال ضد دبابات الاحتلال… إنه مع العراق الواحد الموحد ضد كل ما من شأنه تفتيته وتشظيته “.
لي وطنانْ
الأولُ يمتدُ كحبلِ السُرَّةِ
يربط بين نخيلِ البصرةِ
وبساتينِ التينِ بكردستانْ
ينضحُ عشباً . . وحبوراً . . وأمانْ
الثاني من ورقٍ
أغرسُ فيه زهورَ العشقِ
فتنبتُ شعراً ومناديلَ حريرٍ
وأنا ما بينهما طيرُ أغانْ
لكنْ
في آخر تكبيرةِ فجرٍ من شعبانْ
من عام الفيلِ القوميِّ احترقا
فاذا الوّطنُ الأولُ قّفْرٌ
والثاني عصفٌ . . ودخانْ !
لي قبرانْ
الأولُ في قلبي
حيث دَفَنْتُ بلاداً
كانت يوماً ضاحكةَ الشطانْ
الثاني جسدٌ لا يعرف
أين تقيم الروحُ الآنْ
وأنا ما بينهما تابوتٌ يتمشى . .
صرخةُ صمتٍ تطلقها في كهفِ المنفى
حنجرةُ النسيانْ
مِنْ المعلومِ أنَّ السَماويَ يجهر فِي اعتبارِ وَطنه عشقاً سرمدياً، فقد كتب الكثير عَنه غزلاً بمرابعِه، وَفخراً بِعظمةِ مآثره وَحزناً مشوباً بالبكاءِ عَلَى فجيعته. وَحوّل هَذَا المعنى يشير رئيس مؤسسة المثقف الأديب العراقي وَالباحث في الفكرِ الديني ماجد الغرباوي إلى ذلك قائلاً : ” اللافت في موقف الشاعر يحيى السماوي أنه توحد بالوطن وتلبس به حتى أنه أصبح يرى في خلاص وطنه خلاصه الشخصي “. وَلأَنَّ العراق بالنسبةِ للسماويّ كنفحاتِ عطرٍ فِي روحه، يسجل الدكتور باسم خيري خضير فِي مقدمةِ كتابه الموسوم ” التماسكُ النصيُّ في شعر يحيى السماوي ” مَا نَصه : ” السماوي شاعر ينعم بوطنه، أجبر على مغادرته، فحمل وطنه معه في وجدانه، لم يتحمل فراق وطنه، فكان تميمته التي لا تغادره، كان وطنه حبيبته التي يسعى للفوز بدفء فراشها، كان وطنه أمه التي لم يمل قبلاتها على جبينه، كان وطنه شقوق أرجل والده الذي أعياه طول الزمان “. ولعلَّ مَا أثارَ استغرابي وَأنا أعيد قراءة نص الدكتور خضير المذكور آنفاً لِمَا يزيد عَلَى خمسِ مرات، خلوه مِنْ الإشارةِ إلى سماءِ السَماوي التاسعة. وَعَنْ قوةِ آصرة ارتباط السَماوي بوطنِه وَهاجسه المشدود إلى ترابِه، فضلاً عَنْ جمالياتِ قصائده وَقوة شاعريته، يشير الأستاذ الدكتور صدام فهد الأسدي إلى الشاعرِ السَماوي بالقول : ” يتماهى حباً وتضحية في فداء وطنه على البعد بتجربة مميزة، واقول بحق أن السماوي يحيى خليفة الفرزدق قديماً، والجواهري حديثاً بعيداً عن الألقاب “. وَفِي إشارة أخرى يقول الأسدي : ” لا يقف احتراماً للنبلاء إلا النبلاء الشرفاء.. ولا يغوص حتى الأعماق السحيقة إلا المهرة الذين يتقنون فهم الأرواح بطريقةٍ فريدة “. كذلك أشارت الشاعرة وَالناقدة السعودية الدكتورة فاطمة القرني إلى منجزِ السَماوي يحيى الشعريّ بالقول : ” لا عجب في أن تتداخل هاتان الكينونتان إلى حد التماهي في تجربة استثنائية، التشظي بعمق ومرارة التجربة العراقية “.
سـأقـيـمُ ـ مـن تـلـقـاءِ حـزنـي ـ مـهـرجـانـاً لـلـفَـرَحْ
أدعـو إلـيـهِ أحـبّـتـي : الأنـهـارَ والأشـجـارَ والأطـيـارَ والأطـفـالَ والـعـشـاقَ
والـعـيـدَ الـمـؤجَّـلَ فـي تـقـاويـمـي وأقـواسَ الـقُـزَحْ
أتـلـو بـهِ نـدَمـي عـلـى أخـمـارِ مُـغـتـبَـقـي وكـأسِ الـمُـصْـطـبَـحُ
لأنـامَ مـقـرورَ الـرَّبـابـةِ والـمُـدامـةِ والـقَـدَحْ
***
هـا أنـا وحـديَ فـي الـقـاعِ
نـديـمـايَ : الأسـى والـلا أحـدْ
لـم تَــعُــدْ تُـجـدي لإخـراجـي مـن الـبـئـرِ حِـبـالٌ مـن مَـسَـدْ
أيـهـا الـرافـعُ سَـــقــفَ الـكـونِ مـن دون عَـمَـدْ :
أطـبَـقَ الـحـزنُ عـلـيـنـا
فـارفـعِ الـغـمَّـةَ عـن هـذا الـبـلـدْ
ســاسـةُ الـصُّـدفـةِ مـا أبـقـوا لـنـا مـن خـيـمـةِ الـيُـسـرِ وَتَـدْ
كـلُّ بـحـرٍ ولـهُ جَـزرٌ ومَـدٌّ ..
وحـدُهْ بـحـرُ عـراقِ الـيـومِ فـي مـأسـاتِـهِ : مَـدٌّ ومَـدْ !
فـأغِـثـنـا أيـهـا الـفـردُ الـصَّـمَـدْ !
***
مِنْ بَيْنَ مَا قرأته عَلَى سبيلِ المثال لا الحصر فِي صفحاتِ أحد المواقع الإلكترونية مَا ذكرته الشاعرة وَالأديبة الفلسطينية شادية حامد – الَّتِي جبلت عَلَى معاناةِ الاحتلال وَبقيت وفية للمقاومة – قائلة : ” أستاذي أبا الشيماء مذكراتك لوح مقدس يجمل همومنا لأننا مررنا من خلاله إلى ذلك الأسى الكبير في احتراق وأتون لا ينتهي من الوجع “. وقولها أيضاً : ” السماوي ..حد السماء.. كيف لي أن لا أدمن سطورك…وأن لا أجوب الصفحات بحثاً عن نورك….وأنت تصنع هذا المجد من الألم والقهر…وتعزف على أوتار أرواحنا بأناملِ الألق.. لتدوّي ترانيم القلوب الشجية بفسحاتِ معابد الارواح… …فالإبداع الساحر ليس إلا … وليد الألم “. وَحين نُمعن النظر فِي هَذِه الرُّؤية، فلا غرابة فِي أنْ نجدَ مَا بَيْنَ صفوف الأدباء وَالباحثين وَالنقاد الكثير مِمَنْ أماطوا اللثام عَنْ اِستراتيجيةِ الخطاب الشعري عند السَماوي مِنْ خلالِ تسليط الضوء عَلَى العواملِ المؤثرة فِي شعرِه وَمَا عنيَ بجزالةِ لفظ قصائده، بالإضافةِ إلَى مَا تحمله مِنْ صورةٍ فنية وَأفق جمالي. وَلعلَّ مِنْ بَيْنَ تلك الفعاليات الرصينة، مَا ذكرته الأديبة والكاتبة السعودية بلقيس الملحم بقولِها : ” لآنه شاعر استثنائي ولا يكرر نفسه، صرت قريبة من الظن بأن دراسة شعره لم تعد من الفروض الكفائية ليسقط عن الباقين في حال قيام البعض بها!!… أنا أستحث نفسي لتأكل من – رغيف السماوي- والذي أصبح ميزة تتميز به نصوصه الرائعة “. وَفِي مطلعِ عام 2009م كتب الشاعر السوري فاروق طوزو مَا نصه : ” هذه القامة الشعرية الكبيرة التي تدل على عدم فراغ الساحة رغم احساسنا بذلك في قليل من الأحيان. وهي دلالة على عدم درايتنا الكاملة بكل القامات العالية في حقول الشعر العربي، فحين قرأت للشاعر الكبير يحيى السماوي وكنت سابقاً سمعت باسمه العالي، لمتُ نفسي كثيراً لأنني لم أقرأ له ثم علمت كم هي مليئة ساحة الشعر بقامة تبعث الغيم والربيع والرياحين… يحيى السماوي فجر وربيع، وجمال صونٌ للشعر، وأجمل الكلام دوام للذة الحرف سلام وثقافة ونضال وتاريخ محبة “.
* *
بَيْنَكِ والنَّخِيلْ..
قَرَابَةٌ..
كِلاَكُمَا يَنَامُ في ذَاكِرَةِ العُشْبِ..
وَيَسْتَيْقِظُ تَحْتَ شُرْفَةِ العَوِيلْ.
كِلاَكُمَا أَثْكَلَهُ الطُّغَاةُ والغُزَاةُ..
بِالحَفِيفِ والهَدِيلْ.
وَهَا أَنَا بَيْنَكُمَا..
صُبْحٌ بِلاَ شَمْسٍ..
وَلَيْلٌ مَيِّتُ النُّجُومِ والقِنْديلْ.
* * *
لاَ تَعْجَبِي إِنْ هَرَمَتْ نَخْلَةُ عُمْرِي..
قَبْلَ أَنْ يَبْتَدِئَ المِيلاَدْ.
لاَ تَعْجَبِي..
فَالجَذْرُ في ” بَغْدَادْ
“.
يَرْضَعُ وَحْلَ الرُّعْبِ..
وَالغُصُونُ في ” أَدِلاَدْ “.
وَهَا أَنَا بَيْنَكُمَا..
شِرَاعُ سِنْدِبَادْ.
يُبْحِرُ بَيْنَ المَوْتِ والمِيلاَدْ “.
فِي دراسةٍ نقدية أدبية لغوية عَنْ خصائصِ تجربة السَماوي يحيى الشعرية للناقدِ وَالشاعر العراقي جعفر كمال المغترب فِي المملكة المتحدة، وجدت جعفرا يكشف برؤيةٍ تحليلية براعة الشاعر السَماوي وقدرته عَلَى تلمسِ أعماق المتلقي، حيث يشير فِي ورقتِه إلى مَا نصه : ” أَنَّ السماويَ شاعر رفد الأدب العربي بميزة شعرية مختلفة في قيمتها وخاصيتها الفنية، تكمن في طريقة تناولها الموضوع، وتوظيفه، وتنميته، ورفد النص بالمهارات البيانية واللغوية، المختصرة في حدودية صياغة معانيها وحضورها، المستمد من تربة خصبة، امتاز بها الأدب العراقي بقدمه الشمولي، سواء أكان في داخل الوطن، أم مع أولئك الأدباء الذين عاشوا في المنفى، وطرقوا أبواب التجديد، والمغايرة، متجاوزين الأسلوب التقليدي العقلاني، باتجاه تحسين أدوات صاخبة، وصيغ مثيرة تستفز القارئ، وتحثه على ما يغضبه ويرضيه، عبر تحديد الملتبس في الحكمة الشعرية المملة، وتوضيح الغامض في المبنى اللغوي القاموسي المعقد، وبسط لغة سلسة القرار، سهلة الجواب، مفتوحة التجليات بمحاسنها الإيقاعية والتصويرية “. وَيصيغ جعفر خاتمة بحثه بخلاصةٍ مفادها ما يأتي : ” أن يجهد الشاعر نفسه في ترتيب اللفظ وتهذيبه وصيانته من كل ما أخلّ بمبنى النص فهذه محصلة إبداعية وجدتها عند الشاعر يحيى السماوي، فخير الشعر جزالته، وحبكة إيماءاته، وكونه مشتملاً على معناه “.
لـو تـنـفـعُ الأعـمـى شــمـوعٌ
لاتَّـخـذتُ أضـالـعـي فـي كـهـفِ مـنـدمـتـي شــمـوعـا
هَـبْـكَ اســتَـطَـعـتَ غـداً تُـعـيـدُ الـمـاءَ لـلـغـزلانِ
والـغـزلانَ لـلـمـرعـى
ولـلـمـرعـى الـرَّبـيـعــا
وَهَـبِ الـمـآذن سـوف تُـرجِـعُ لـلـمـحـاريـبِ الـخـشـوعـا
فـمـن الـذي ســيُـعـيـدُ آهـاتـي الـى صـدري
ولـلـمُـقـلِ الـدمـوعـا ؟
***
فِي دراسته النقدية الموسومة ” فضاءات تشكيلية وإيقاعات دلالية بشعر يحيى السماوي ” يشير الباحث والناقد صباح محسن كاظم إلى أنّ ” ثمة انحياز نحو الصورة الشعرية لدى الشاعر يحيى السماوي بمعظم دواوينه المُحتشدة بالصور التي تتسم بالبهاء التكوينيّ كلوحات تشكيلية مزخرفة بالألوان المنسجمة، بكثافة بصرية، وبؤر مركزية لفيكرات بفضاء لوحاته التشكيليّة الشعريّة الباذخة بالغزل وصوفية مترفعه برهافة الإحساس، والقدرة على التخييل الصوريّ. والصياغة الشعريّة لديه تتماهى فيها مفردات الطبيعة الخلابة مع مدركات ومواقف الشاعر لتشدو بها ثنايا الروح وخلجات البوح، فضلاً عن موسيقى وانزياح مقاصد الدلالات نحو بوصلة حب الوطن، رفض الاستبداد والتفرد، المكر السياسيّ وإدانة الاحتلال… مفارقات لاذعة وأسواط يرفعها بوجه الطغاة. كما يوظف الصفات اللسانية الصوتية والإيقاعية بتحليقه الصوفيّ، وبعوالم الجمال المُتناغم مع المخيال المُتدفق بالصور الشعريّة الباذخة بالعشق، ومُناصرة المرأة، والتي تكاد تؤطر نسق البناء الشعريّ لدى “السماوي”.
تـشـكـو الـضـيـاعَ وتـشـتـكـي غـدْرَ الـدروبِ بـمـقـلـتـيـكَ ؟
كـذِبـتَ .. بـلْ غَـدَرتْ بدربـِكَ مُـقـلـتـاكْ
الـذنـبُ ذنـبُـكَ لا سِــواكْ
أفـمـا رأيـتَ الـبـحـرَ مـصـلـوبـاً بـلا مـاءٍ
فـمَـا أغـواكَ فـي رمـي الـشِـبـاكْ
أمـلاً بـصَـيْـدٍ لا تـراهُ ولا يـراكْ ؟
مـا دامَ أنَّ الـعـصـرَ شــيـطـانٌ
وأنـتَ رضـيـتَ أنْ تـبـقـى مَـلاكْ :
فـاقـنـعْ بـمـا جـلـبَـتْ يـداكْ
أطـلِـقْ سـراحَ يـقـيـنِ يـومِـكَ مـن قـيـودِ ظـنـونِ أمـسِـكَ
واتَّـخِـذْ مـن ضِـلـعِـكَ الـعُـكّـازَ لـو تَـِعـبَـتْ خـطـاكْ
إنْ كـنـتَ تـعـتـزمُ الـوصـولَ الـى مـنـاكْ
***
لعلّ مِن المناسبِ أنْ نشير هُنَا إلى منتخباتٍ مِنْ آراءِ قراء شعر السَماوي وَمتابعيه، حيث تقول سيدة فاضلة : ” الشاعر النبيل يحيى السماوي، قرأناكَ وطناً تحملُ وطناً منذ أن كنا صغاراً. وما زلتُ أقرأ لك، ومازالت دهشتي تكبر معي كل مرة.. أنتَ شاعرٌ احترقت بالوجع حتى بات يحترقُ بكَ ليتنشق عبير الصدق الذي تحمله أحرفك.. حفظك الله حيث كنت، وأسبغ عليكَ نعمه ظاهرةً وباطنة “. وَمداخلة أخرى لسيدةٍ فاضلة تقول فِيها : ” مَا اروعك يا فارس الكلمة والحرف وانت تصف من تحب بأروع الصفات الجامعة المانعة متبتلا في محرابها فكأنك تغرف من بحر، بل انت البحر اذا زخر والسحاب اذا أنهل بالمطر، سلم يراعك ودمت أميراً للحرف والكلمة “. وتشارك سيدة أخرى بتعليقٍ قالت فِيه : ” سيدي السماوي الكبير لا أعاد الله تللك الايام الرهيبة اتذكر وانا طفلة دعوات امي وشتائم والدي حينما يجلس قبالة التلفاز .. ايام موجعة محملة بالخوف والاسى صدقني ما زلت للحظة استذكرها فيعتريني الخوف , كنا اطفالا ويا لطفولتنا البائسة .. رغم البؤس فمازال فينا أمل للغد انشاء الله اجمل “.
***
أمسِ فجراً
أطبق السهدُ جفوني..
فرأيتُ الوردَ – أو شبه ليْ –
ينسجُ ثوبين من العطرِ..
وعصفوراً عجيباً
ريشُهُ يقطرُ نوراً
كالذي يقطرهُ في الليلِ
جفنُ الأنجمِ
ورأيتُ الشمس في هيئة غصنٍ
يتدلى منه عنقود من الياقوت ..
والياقوت يا معصومة النهدين قانٍ
لونه لون دمي
ورأيت النهر – أو شبه لي- يغسلُ
ساقيك..
ونهديك..
ويلتفت على الخصر
التفات البرعم
***
ذات فجر وقد بدأ القمر فِي آخرِ نقطةِ اغترابٍ مِن العالمِ بالتلاشي، كان ربان القريض الَّذِي لَمْ تثنِه عواصف وَلا رياح عَنْ السعي لبلوغِ شاطئ الأمان يتثاءب ثم تنطبق الأجفان انعكاساً لليلةِ أرق طويلة، فتح درج مكتبه وَاستل قلماً ليكتب إلى أحدِ طلبته بعد عقود مِنْ مفارقته : ” إذا كان صحيحاً أنني كنت مدرّساً لك ذات زمن، فإنَّ الصحيح أيضاً أنني تعلمت منك فكنت مدرّسي … تعلمت منك وَمِنْ مثلائك الطلاب النجباء كيف تغدو حبة القمح سنبلة، وكيف تغدو السنبلة بيدرا “، فازددت إعجاباً بشخصيةِ السَماوي يحيى واحتراماً له.