أكتب لكم شيئاً من قصيدة الشاعرة وئام ملا سلمان، رفيقتي في الحياة وفي أسفاري، وهي قصيدة جاد بها خاطرها الشعري خلال وجودنا في مالطة:
أتُراني ذات يوم عشتُ فيها؟
لم تَزُرني وحشةٌ عند ثراها
وأنا أرنو إلى عُمرانها في عين وامِقْ
***
سُحنةُ الشرق على وجه ال ” مدينه” (*)
كُلُّ ما فيها يشي عن أمسها
بهجةُ الأبواب بالألوان
سحرُ الشمس في وهج المطارقْ
زُرقة البحر شذا التاريخ أحلام الزوارقْ
كاشفاً عن رنّة الحرف
فمُ الحكَاء من روحي قريبا
في أغاني ظبيةٍ أو بُلبلٍ هزّ الرطيبا
وَهْوَ يشدو في خَفَرْ
كلّما سامرتِ الأمواجُ مَلاّحاً غريبا
آبَ من بَعدِ سفَرْ
في جمالِ ” المشربياتِ” وألوانِ الحجرْ
والشبابيكِ الصغيرات بصدر الريح يمسكن الزّماما
وصبيحاتِ بني الأغلب يُليقين السلاما
بلسان عربيْ
(*) الحي القديم في مالطة يقع جنوب العاصمة فاليتا بنحو 25 كم..
*****
بَدءاً أود القول بأنني تلقيت القصيدة من الهاتف بعد إلحاحي اللجوج على الشاعرة، وألقتها على مسمعي بإلقائها الساحر المعهود بها، فدونت بسرعة ما دونت رغم تقطع الصوت؛ ولقد أخِذتُ بهذه القصيدة أخذاً وفُتِنتُ بها فُتوناً، ولعل القارىء الكريم يراني منحازاً لها أيّما انحياز، وهو محقٌ ولا ريب شرط أن تعود “لها” على القصيدة لا الشاعرة، على أنه لايجوز الفصل المتعسف بين القصيدة وشاعرها..
ألقصيدة طويلة وقد تحيرت أين أقطعها، وأي مقطع أختار! وذلك للوحدة الموضوعية للقصيدة، وتسلسل أفكارها وتماسكها وحسن سبكها، وتتابع صوَرها، وجمال أصواتها وتنوعها وفق الألفاظ وتفاعلاتها، وحسن الانتقالات بين التصوير الواقعي لربوعها الجميلة الخضراء حيث الغابات وقوامها أشجار الزيتون والكروم والبحر ذو الزرقة المتدرجة، وبيوتها التي قُدت من الحجر المنحوت بشكل هندسي يجمع بين التلاؤم مع المناخ وعوامل الجغرافية وبين الجمال الذي تلمسه بالأقواس والأبراج وخاصة في كنائسها القديم وبُيوتها ذات الشبابيك الصغيرة، والشناشيل “المشربيات” الخشبية الصغيرة التي تسمح بالتهوية والإضاءة ولا أظنها تتسع للجلوس!!
قد لا يكون سهلاً لمن لم يزر مالطة مقاربة جو القصيدة، وأجد حي “مْدينَه” هو المثال النموذجي للتعرف على العمارة المالطية التي تعد مثالاً للطراز الباروكي.
وئام منذ أن وطأت قدماها مالطة شعرت وكأنها تعرف هذه الجزيرة، كل شيء بدا مألوفاً، وجوه الناس ومدنهم وقراهم، وحتى لغتهم، وقفت وقفة محب (وامق) تتأمل الأحجار المتعاشقة والأقواس والشبابيك، والأبواب ومطارقها الشهيرة، قسم منها يشبه المطارق البغدادية على الأبواب والمتمثلة بقبضة اليد، وكانت المطارق البغدادية على نوعين إحداها للنساء مميزة الصوت حيث تخرج ربة البيت لتفتح الباب للطارقة…بقية المطارق على أشكال حيوانات..ألوان الأبواب زاهية ومتناسقة.. الأزقة نظيفة في “مدينة” وقد حُفت بمزهريات، ولكون الأزقة ضيقة تجد يافطات تحث الناس على المحافظة على الهدوء وعدم إحداث جلبة في مشيهم..
هذه المدينة كلّ ما فيها يحكي وكأن لها فم ينطق بما هو مرئيّ وغير مرئي، يحكي عن التاريخ وأساطير قديمة بطلها البحر وجنيّاته! وحكايات الصيادين وأخبارِ المُبحرين بعيداً، وأغاني الفلّاحين في مواسم الحصاد وجني الفواكه وعصر الكروم ومالطة متنوعة الطيور تمشي وتسمع تغاريد الطيور على الأفنان..
ولا تنسى شاعرتنا التاريخ الذي حضر بذكر الأغالبة ألذين أسسوا دولتهم (دولة بني الأغلب) التي سادت في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين لتشمل شمال الجزائر وتونس وقسماً من ليبيا ومالطة وصقلية وسردينيا وكورسيكا وجنوب إيطاليا.. كانت الدول غير الاسلامية المطلة على البحر المتوسط تدفع لهم الجزية عن يد وهم صاغرون!! للأغالبة الفضل في تثبيت اللغة والثقافة العربيتين في مالطة وبواسطتهم امتزج الدم العربي بالرومي والذي تلمسه في وجوه الحسناوات المالطيات، فالوجه العربي حاضر، وهم يشبهون في سحنتهم اللبنانيين الى حد بعيد!
أظن أن القارىء الكريم قد أدرك سبب إعجابي بهذه القصيدة التي قرأتها مرات ومرات لجمال اللفظ والمعنى وحسن التصوير وجمال السبك الفني وحسن الانتقال.
10 نيسان/أبريل 2018
للموضوع صلة