عندما وصلت مجموعة من الأميركيين وحراسهم المدججين بالسلاح إلى السفارة التركية لحضور حفل في شهر سبتمبر- أيلول الماضي اعترض رجال الشرطة العراقية المرابطون أمام السفارة طريقهم. وأصر رجال الشرطة أن يسلم الأميركيون الأسلحة التي يحملها الحراس وفقا للسياسة المتبعة في حماية السفارات أو يعود وفد الدبلوماسيين الأميركيين أدراجه دون السماح لهم بالحضور.
ويقول مصدران حضرا الحفل ضمن الضيوف في ذلك اليوم إن ما تلا ذلك من أحداث ليس واضحا بشكل كامل. وعلى الأقل أطلقت رصاصة واحدة من المرجح أن تكون للتحذير من جانب الشرطة العراقية. وعاد الأميركيون إلى سياراتهم واختفوا في ظلام الليل.
وبعد كل أحداث العنف والتفجيرات التي شهدتها السنوات العشر الأخيرة مرت هذه المواجهة دون أن يتوقف عندها أحد. لكنها مثال على الطريقة التي شهدت بها الولايات المتحدة انحسار نفوذها في العراق.
وبعد عام من انسحاب القوات الأميركية من العراق كاد المسؤولون الأميركيون وسياراتهم يختفون من شوارع بغداد. وعندما يخرج الأميركيون من مجمع سفارتهم الشبيه بالقلعة فمن الواضح أنهم لم يعودوا حكام البلاد مثلما كانوا في فترة سابقة. فالكثيرون منهم يقتصرون في معاملاتهم على الاتصال بالأمريكيين ويفضلون الانتقال جوا في سماء بغداد بدلا من استخدام السيارات عبر شوارع بغداد كما أنهم يتحاشون على نحو متزايد الاتصال بحكومة نوري المالكي.
وقال مسؤول أميركي إنه لم يغادر المجمع منذ ما يقرب من ثلاث سنوات سوى للعودة إلى الولايات المتحدة لقضاء الاجازات. وعندما سئل مسؤول عراقي عن التعاون بين الجانبين العراقي والأميركي قال متعجبا “الأميركيون؟ أود أن أرى بعضهم.”
وفي واشنطن وعواصم غربية أخرى يتزايد القلق خشية أن يؤدي الإخفاق في التفاوض على وجود دائم للقوات الأميركية إلى استبعادهم من المشهد تماما. ومما يزيد الأمور سوءا أنهم يشعرون بالقلق من تقارب متزايد بين حكومة المالكي الشيعية وطهران الخصم الرئيسي لواشنطن في المنطقة.
وتعزز هذا التصور بتقارير أفادت أن طهران تستخدم المجال الجوي للعراق وربما مطاراته وطرقه البرية في تزويد حليفها بشار الأسد بالسلاح في معركته للاحتفاظ بالسيطرة على سوريا. وبالنسبة للبعض فإن كل هذا ليس سوى علامة أخرى على أن الإطاحة بنظام حكم الأقلية السنية الذي كان صدام حسين على رأسه ومحاولة نشر المزيد من الديمقراطية لم يكن قط في صالح الولايات المتحدة.
وتقول واشنطن إن العلاقة بين الجانبين مازالت وثيقة. وفي السادس من ديسمبر- كانون الأول التقى مسؤولون أميركيون وعراقيون في بغداد في أحدث لقاء لبحث التعاون العسكري ومبيعات السلاح والأزمات الاقليمية مثل سوريا. لكن من الواضح أن التوترات قائمة. وقال مسؤول أميريكي “هل لإيران نفوذ؟ بالقطع نعم. هل لنا نفوذ؟ بالقطع نعم.” وأضاف “لكن العراقيين هم أول من يقول أنهم يرعون مصالحهم.”
كان من المفترض أن تكون السفارة الأميركية المقامة على مساحة شاسعة إذ أنها الأكبر في العالم وتعادل حجم مساحة الفاتيكان تقريبا وتكلف بناؤها نحو 750 مليون دولار رمزا لوجود له صفة الدوام، وبدلا من ذلك أصبحت رمزا لمدى مبالغة واشنطن في تقدير نفوذها في فترة ما بعد الحرب.
ويقول مسؤولون أميركيون حاليون وسابقون إن الأمر ليس بهذا السوء، فزيادة انتاج النفط العراقي وفر من الامدادات الإضافية لسوق النفط العالمية ما يكفي للسماح للولايات المتحدة وأوروبا بتشديد العقوبات المفروضة على إيران. ويقول البعض إن الصراع الدائر في سوريا يبين مدى سوء الحال الذي كان من الممكن أن تؤول إليه الأمور في العراق لو لم تتم الاطاحة بصدام حسين عام 2003. ويصر هؤلاء أن انحسار نفوذ واشنطن كان محتوما في ظل هذه الظروف.
وحتى أواخر العام الماضي كان المطلعون على الأحداث يقولون إن المسؤولين الأميركيين لم يتصورا قط أن واشنطن ستسحب قواتها بالكامل من العراق. فبعد طرح اتفاق “وضع القوات” عام 2008 في ذروة الزيادة العددية للقوات الأميركية التي استهدفت بها واشنطن القضاء على تمرد واسع النطاق كان المسؤولون يعتقدون أن حكومة المالكي ستذعن لوجود القوات الأميركية.
وتعتقد أغلب المصادر الأميركية والعراقية أن هذا ما كان يريده رئيس الوزراء العراقي أيضا. لكنهم يقولون إن الجانبين حصرا نفسيهما بالتصريحات في خانة ضيقة وكانت أهم نقطة شائكة وهي رغبة واشنطن في الاحتفاظ لقواتها بالحصانة من النظام القضائي العراقي هي التي حسمت الموقف.
يقول جيم جيفري الذي كان سفيرا لواشنطن في بغداد حتى العام الماضي وأصبح زميلا بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى إنه كان من الممكن التوصل إلى اتفاق على وضع القوات “لكن اقناع أي برلمان عربي بالموافقة “على حصانة للقوات الأميركية” سيظل صعب المنال، المثال الوحيد كان يمكن أن يكون اتفاق عام 2008 وذلك أنهم كانوا يحتاجون إلينا بشدة.”
وقال إن المتعاقدين الأمنيين المستأجرين من الولايات المتحدة بعقود خاصة يتولون الآن تقديم الكثير من المهام مثل التدريب العسكري وهو ما كان من الممكن أن تقدمه القوات الأميركية.
وبعد أن بلغت العلاقة بين الجانبين نقطة متدنية في العام الماضي يقول المسؤولون الأميركيون إن العلاقات بدأت تتحسن من جديد. وقال المسؤول الامريكي “كاد الباب أن يغلق أمامنا وأبقوه مواربا لأنهم اضطروا لذلك. والآن أصبح نصف مفتوح وربما أكثر وهم يعملون على فتحه أكثر وأكثر، إنهم يطلبون التعاون في جميع المجالات.”
لكن يبدو أنه ما من شك يذكر أن دولا أخرى في المنطقة رأت في رحيل القوات الأميركية ما اعتبرته هزيمة للأميركيين.
وقال دبلوماسي عربي في بغداد “من المؤكد أن الحكومات الغربية فقدت وزنا. فلا وجود لقوات لها وقد انتهت حربها هنا. والسبب الوحيد لبقائها هنا هو رغبتها في ابرام التعاقدات ولأنها تريد عقود النفط، لكن حتى في هذا المجال انتهى وضع المعاملة الخاصة.”
ورغم كل ما يتردد عن استفادة شركات النفط الأميركية من غزو العراق فقد كاد وضع الامريكيين أن يتجمد بالكامل. وذهبت الامتيازات لشركات صينية وغيرها وذلك رغم أن شركة اكسون بصفة خاصة تواصل تعزيز عملياتها في القطاع الكردي في الشمال.
ويقول ستيفن بيدل أستاذ العلاقات السياسية والشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن والمستشار السابق لجنرالات الجيش الامريكي في العراق “من الواضح أن المالكي لديه أولويات أكبر من علاقاته مع الولايات المتحدة. ومن الواضح أننا ضغطنا على المالكي لمنع عبور الطائرات “الايرانية” ورفض.” لكنه أضاف أن تصوير العراق في ظل المالكي ببساطة كوكيل ايراني تبسيط مبالغ فيه للأمور.