” يهدف هذا المشروع إلى تهيئة إدماج قطاع الاقتصاد العمومي ضمن نطاق الاقتصاد ككل”1
فرضية البحث: إذا وضعنا نماذج اقتصادية جديدة على بنى اجتماعية قديمة أو العكس إذا قمنا بتفويض شرائح اجتماعية حديثة للاشتغال ضمن بنى اقتصادية قديمة ووسط آليات إنتاج تقليدية فإننا نحصل على نتائج كارثية ويعيش المجتمع نوع من التوتر الداخلي وأزمة حادة ويشهد الاقتصاد انتكاسة وتقهقرا تاما.
تشخيص الوضع: يعاني مجتمع الموظفين من أزمة عميقة مزدوجة في القيم والمعنى وفي الاقتصاد والمال أدت إلى تعطيل عملية بناء الاقتصاد الوطني عن طرق الاجتماعي والحيلولة دون الارتقاء بالنسيج الاجتماعي من خلال التنمية الاقتصادية وبروز سوء تفاهم كبير بين الأعمال البشرية والحاجات المادية.
لقد اشتد التوتر بين الاقتصادي في بعده المادي والاجتماعي في بعده التاريخي والسياسي ضمن إطاره القانوني والثقافي في تأثيره الرمزي أثرت على أداء الحكم في المركز وانسيابية القرارات في عدة جهات.
تعيد السياسات الاقتصادية المتبعة إنتاج التعثر والتضخم والانكماش وترفع من حجم الاقتراض والمديونية وتجعل الاقتصاد الموازي يحل مكان الاقتصاد الرسمي والقطاع الخاص يضر بالقطاع العمومي وترهن الاقتصاد العائلي للبنوك الربوية وتزيد من الفوارق الاجتماعية ويؤدي تدهور المقدرة الشرائية إلى الكساد.
ربما يعود الخلل إلى عزوف عن العمل وضعف في الإنتاج وإفراط في الاستهلاك وبطء في التوزيع ولا تكافئ في التبادل وانعدام الثقة بين الفاعلين والفساد البيروقراطي في الإدارة وتزايد الاحتكار في الأسواق.
لقد ظهر صراع بين الأجيال المالكة للموارد ووسائل الإنتاج وتسبب ذلك في وقوف النسق الاقتصادي عن الإنتاج وإصابته بالعطالة وغلق عدد من المعامل وتسريح العمال وزيادة أرقام البطالة المفزعة والعاطلين.
من جهة ثانية اختفت المقاربة الموضوعية والتقديرات الدقيقة وحضرت المؤشرات الداعية إلى التشاؤم وغلب اللاّيقين والخشية من الآتي حول الأجور والأسعار واستقرار مواقع الإنتاج وفرص العمل وموارد الرزق وأثر انخفاض نسب النمو على الاستقرار والتوازن وازدادت بقوة الفوارق بين الطبقات والجهات.
من يتحمل مسؤولية التعثر في المجال الاقتصادي؟ هل هو الخبير المالي أم الفاعل السياسي؟ هل هو المشرع أم المستثمر؟ وكيف يمثل الاقتصاد التضامني المدخل المناسب لحلحلة الوضعية الحرجة للبلاد؟ ومن أين يأتي الفقر والبؤس والحرمان في ظل اعتماد اقتصاد السوق وتحرير الأسعار وتشجيع الاستثمار؟ وماهي الأسباب التي أدت إلى تلاشي الطبقة الوسطى واحتكار الطبقة المالكة للثروات واستثرائها بسرعة وبطريقة مفرطة وتوسع حزام الفقر وتزايد عدد المزدرين والمنبوذين و؟ وماذا ينبغي توفيره و ضمانه من الناحية الاقتصادية الاجتماعية حتى يتم تحقق المصالحة بين الحق في الشغل والحق في اختياره؟ وهل من سبيل للعثور على توازن بين الضرورة الاجتماعية لمنح الكل وسائل متطورة للوجود الأحسن والاستحقاق المادي بأهمية تحديث الاقتصاد وتركيز أدوات إنتاج عصرية وفرص شغل في المتناول ومستقرة؟ لماذا يكون أمرا ضروريا على السياسي تطوير البنى الاجتماعية للاقتصاد والنماذج الاقتصادية للمجتمع؟
إن ماهو في الميزان ليس جعل المسار الانتقالي محل اعتراض جذري والديمقراطية موضع مساءلة دقيقة بل تأمين لقمة العيش للناس واستمرارية الحياة وتحقيق التوازن بين الموجودات ورفع منسوب الأمل لهم.
الحق في المساعدة الاجتماعية من الدولة والمجتمع المدني:
” يبدو أن أساس المساعدة الاجتماعية يثير مشكلة”2 تتعلق بالبنية القبلية للحق أو بوجهة النقاش العمومي حوله، هل المساعدة الاجتماعية حق ذاتي يرتبط بحاجة الفرد أم أنه حق إنساني يتركز على أسس كونية؟
إن المسألة الحقوقية التي تقدمها دولة الرعاية تتضمن مجموعة من الإجراءات القانونية وتغطي شرائح واسعة من المواطنين ولكنها تظل منقوصة ويحرم منها عدد كبير من الفئات الهشة وتهمش شرائح كثيرة بسبب تركيزها على تحقيق الرفاهية و ضمان الوفرة ورغد العيش للفئات الأكثر حظا من النخب العليا.
تبعا لذلك تم التطرق ضمن نظام العدالة الجديد الى حق الفئات غير المحظوظة في المساعدة الاجتماعية من الدولة المركزية ومن مؤسسات المجتمع المدني وأصحاب رؤوس الأموال والقطاع الخاص بالسواء.
تركز منظومة المساعدة الاجتماعية على ذوي الاحتياجات الخاصة وأصحاب العاهات المستديمة وتنتقل إلى الفئات الهشة التي أفرزتها العولمة المتوحشة ونظام الملكية الخاصة والتفقير الممنهج ويذكر خاصة المعطلين عن العمل من خريجي الجامعات والمسرحين من مراكز عملهم بسبب إفلاس شركاتهم وإغلاق مصانعهم وكذلك الفئات الشعبية التي تنحدر من وسط اجتماعي منبوذ على أساس جهوي وثقافي وسياسي.
المساعدة الاجتماعية هي نسق من التضامن الوطني يقدم المساعدة للأشخاص الذين يعانون من صعوبات اجتماعية ومادية، بواسطة أفعالها في الإدراج والوقاية والإغاثة تتحول إلى داعم حقيقي للعمل الاجتماعي.
بهذا المعنى لا تدرج مطلب المساعدة الاجتماعية ضمن الصدقات التي يمكن أن يتبرع بها عدد من الأفراد والمجموعات وفق مشيئتهم وإنما حق للمتضررين وواجب على الدولة وهيئات المجتمع المدني القيام به.
لكن يمكن ضبط مجموعة من الشروط القانونية والظروف الاجتماعية التي تحدد الأشخاص الذين يتسنى لهم التمتع بمنظومة المساعدة الاجتماعية وفق نموذج الاقتصاد التعاوني والاجتماعي والجهات المانحة والمؤسسات الداعمة لهذا الخيار التكافلي من حيث التجهيزات والأموال والمبيتات والفرص لحياة جيدة.
من هذا المنطلق تقدم المساعدة الاجتماعية للأطفال والمسنين والمرضى وللمتضررين من الكوارث على غرار الأعاصير والزلازل والفيضانات وتمنح أيضا للكل في الأزمات الاقتصادية والمجاعات والحروب.
بطبيعة الحال ترتكز منظومة المساعدة الاجتماعية على مبادئ احترام كرامة الإنسان واستقلاليته وتفرده وتقدم المعونات وفق مقادير مناسبة تراعي مسألة تغطية الحاجات بحرفية وكفاءة تحقق الفائدة والمساندة.
لكن لا يجب اختزال المساعدة الاجتماعية في توفير الأموال من أجل التغلب بشكل مؤقت على الظروف المادية الصعبة بل يفترض أن تتجاوز ذلك نحو تقديم حلول جذرية وتهيئة ظروف جديدة لمغادرة القديمة بتمكين المتضررين من فرص شغل مستقرة وتعويضات هامة ومساكن لائقة وتوفير علاج صحي فعّال.
بهذا المعنى المساعدة الاجتماعية هي حق مشروع يمكن للفئات الهشة المطالبة به من السلطات الحاكمة ومن المجموعة الوطنية ومؤسسات المجتمع المدني الذي تتبعه وفق شروط الانتماء ومعايير الاستحقاق.
لكن ماهو دور المنظمات الاجتماعية في إرساء التعاون والتكافل ضمن الوجود الاجتماعي للإقتصاد؟
دور التعاون الأسري والتكافل المهني في تعزيز اقتصاد القرب:
” يدخل العالم الاقتصادي مع الأزمة الاقتصادية لسنوات 1970-1990 في مرحلة يبدو فيها مجال الاقتصاد الدولي محل تساؤل”3
الاقتصاد القريب هو مفهوم جديد يتعلق بتدبير المنزل إلى تدبير المؤسسة الصغرى وينتقل إلى حسن تنظيم المؤسسات الكبرى وينتهي إلى حوكمة الشأن العمومي على الصعيد المالي والاقتصاد الإنتاجي، ويتطلب هذا النمط من النشاط تثمين المجهودات البسيطة والمعاملات المجهرية التي يقوم بها الناس في حياتهم اليومية وضبطها وفق مبدأ المردود وذلك بالتقليل من الهدر والضرر والإفراط وجلب المصلحة.
يتطلب اقتصاد القرب تقوية علاقة التعاون في الأسرة الواحدة بين العناصر المكونة منها وذلك قصد توفير الفوائد والتقليل من الإنفاق وترشيد الاستهلاك وتقوية الإنتاج وتفادي الفساد والإتلاف والتبديد والتسرب.
من جهة ثانية يحتاج الاقتصاد القريب إلى تكافل بين المهن وتبادل للمواقع والخدمات وإيجاد حلقات انتاج وتبادل وترويج بين المجموعات المنتجة التي تتوزع وفق عائلات اقتصادية لها علامة مميزة وتغطي عدد من القطاعات الصناعية والفلاحية والتجارية والخدمات وتخضع السيرورة الاقتصادية إلى حركة تكافلية.
كما تساعد أنشطة الجوار على تطوير الاقتصاد المجهري والارتقاء به من مجرد معاملات مالية فاقدة القيمة إلى أشكال من الإنتاج والتبادل تحقق الربح المعقول وتراكم الثروة المشروعة لدى الفئات الشعبية وتساعد على الادخار وتحافظ على الطرق التقليدية في الاكتفاء الذاتي وتزيد من حجم الاقتصاد الوطني.
بطبيعة الحال انتمت خدمات القرب إلى الفضاء الأهلي وأشكال التضامن الأسري وآداب حسن الجوار ولكن الوساطة التشاركية التي اقتضتها خدمات القرب ساعدت على إدراجها ضمن برامج دولة العناية.
من الواضح أن علاقة الترابط بين اقتصاد القرب وقيم التكافل والتعاون تظهر بصورة جلية في مفهوم السوق التضامني الذي كان ولا يزال يمثل المكان الملائم لممارسة البيع والشراء عن طريق عمليات تبادل ومقايضة ومسالك تجارية مباشرة: “أسواق القرب قديمة تماما مثل قدم البشرية في حد ذاتها. ينبغي تذكر الأغورا، الفضاء العمومي المركزي في المدن الإغريقية، أين ولدت فكرة الديمقراطية والحكم الذاتي، لقد كان المكان الذي تتم فيه التجارة في الآن نفسه الاجتماعات الشعبية…لقد أصبح السوق آلية اليد الخفية التي تنسق وتضبط النظام الاجتماعي”4، لكن ماهي مقومات ورهانات هذا النموذج الفريد من الاقتصاد؟ وما المقصود بالتنظيم الجماعاتي للإنتاج في الاقتصاد البيئي المتباين مع الاستثمار الخاص للأنماط الرأسمالية في الإنتاج والتبادل والاستهلاك؟ وألا يمكن إحداث ابستيمولوجية علمية مع التجارب الفاشلة؟
الحاجة إلى ثورة في الاقتصاد البيئي:
“الاقتصاد البيئي ليس مقاربة اقتصادية للحي وإنما مقاربة حية عن الاقتصاد”5
لعل التركيز على الاقتصاد البيئي ضمن نمط إنتاج جماعاتي يمكن أن يمثل أحد النقاط المضيئة في الطرق المستقبلية التي تندرج ضمن محاولات العقل العلمي لإخراج البشرية من مأزقها الحيوي وأزمتها المالية.
لقد وضع عالم البيولوجيا الروسي بيلانوف منذ 1925 الاقتصاد البيئي وفق نظريات وتطبيقات تقارب السلوكات الاقتصادية ضمن تنظيم اقتصادي وكان غرضه الأول حسن التصرف في الموارد الطبيعية وحسن استثمار المجهودات والأنشطة التي يقوم بها الإنسان تلبية لحاجياته دون تخليف الضرر بالبيئة.
إن الاقتصاد البيئي هو رؤية جديدة للحي تتشكل عند تقاطع العديد من الاختصاصات العلمية والمعالجات التقنية وتتركب من العديد من المناهج والمقاربات المنحدرة من العلوم الطبيعية والصحيحة والإنسانيات.
يقوم الاقتصاد البيئي بتحويل المواد الأولية المسماة متجددة إلى منتجات للتغذية البشرية والحيوانية والى طاقة ومنتجات ذات مصادر حيوية ويمكن أن تكون المواد الأولية من مصدر غابي أو بحري أو زراعي ويتم تحويلها بواسطة مسارات تكنولوجية حيوية موازية واقعيا لمراحل التحويلات الكيميائية والفيزيائية.
لذا يعيد الاقتصاد البيئي الاعتبار إلى الجانب الطبيعي من الكون الذي يرمز إلى الحياة في لونيها الأخضر والأزرق والى أشكال الإنتاج التقليدية الرونق الذي فقدته بالإفراط في التصنيع ونهب الموارد الأولية.
علاوة على ذلك يمكن إدخال تقنية النانو تكنولوجيا في توفير الغذاء وتنقية الهواء من التلوث ورسكلة النفايات وتحلية المياه المالحة من أجل معالجة آفات التصحر والانجراف والعقم الذي أصاب التربة وآديم الأرض وتهيئة الظروف من أجل إطلاق ثورة بيئية في مجال التصنيع الغذائي بالوقود الحيوي واستعمال الطاقات المتجددة في الإنارة والتعويل على الطاقة البديلة الطبيعية (الرياح-الشمس- الجاذبية الكونية).
غاية المراد أن الغرق في الأعمال الجزئية في المجالات الاقتصادية المتباعدة وهجرة الأدمغة وسوء الحوكمة في الموارد البشرية والاستغلال المفرط للثروات الباطنية وترك فراغات رهيبة بين التجارب يزيد الوضع الاقتصادي سوء ويستوجب عندئذ التدخل العاجل من الأطراف المكونة للعملية الإنتاجية.
يجمع الاقتصاد الأخضر بين نمطين من الأنشطة: أنشطة كلاسيكية يتم انجازها بطرق غير ملوثة للبيئة والمحيط وغير مستهلكة للطاقة، وأنشطة اقتصادية تتمثل مهمتها في حماية المحيط وحسن التصرف في الموارد الطبيعية ، ولذلك تنخرط هذه الأنشطة في تنمية خضراء تحمل المؤسسات الاقتصادية المسؤولية.
بهذا المعنى يمثل الاقتصاد الأخضر نموذج التنمية الاقتصادية على أساس التنمية المستدامة والمعرفة بالبيئة والمحيط ويعمل على تحسين الوضع الاقتصادي وتحقيق مساواة البشر في الرفاهية الاجتماعية ويحرص على الحد من المخاطر المهددة للبيئة وندرة الحياة على الكوكب بالنسبة لعدد كبير من الكائنات.
مجمل القول أن الاقتصاد البيئي يتناول بالدراسة مسألة النشاط التحويلي للعالم عن طريق الحساب والتجريب بغية إشباع ما يحتاجه الناس من منافع بطريقة جيدة وبالحد الأدنى من الوسائل المتاحة ويجمع بين عناصر ثلاث هي السجل الطبيعي المادي والسجل البشري الحاجي والسجل الاقتصادي التحويلي6.
ماهو تأثير الثورة الرقمية على الحقل الاقتصادي؟ والى مدي يمكن التعويل على الفضاء الافتراضي؟
الاقتصاد الرقمي والولادة الافتراضية:
” إن العلاقة بين السيطرة الاقتصادية للشغل والتحكم التكنولوجي في الشغل تتغير صورتها ولكنها لا تختفي.”7
يهدف اعتماد الاقتصاد الرقمي في المعاملات الإنتاجية والمالية إلى جعل استبدال السيطرة الاجتماعية للشغل بالتحكم التكنولوجي في النظام الاقتصادي وتغيير الطرق التقليدية في المعاملات بطرق عصرية.
يضم الاقتصاد الرقمي مجموع المؤسسات التي تنتج الخيرات وتقدم الخدمات للناس بالاعتماد على المنظومة الرقمية وعن طريق المعاملات اللامادية وذلك ببناء الأنشطة الاقتصادية وفق نماذج الووب وتحويل المعلومات المستخدمة والواردة إلى معلومات رقمية ضمن برمجيات وأنظمة تواصل الكترونية.
من هذا المنظور يسعى مصطلح الاقتصاد الرقمي الى تعريف قطاع الأنشطة الاقتصادية التي ترتبط أساسا بالمجالات الرقمية وبالمعالجة العددية والهندسية للمعطيات من جهة الموارد والنفقات وبالأرباح ونسب الفائدة. لذا يجوز تقديم الاقتصادي الرقمي على الاقتصاد المعلوماتي بالنظر لمنحه الأولوية للأرقام على أنواع أخرى من المعلومات والمواضيع واعتماده على التجارة الرقمية وما توفره من اختزال للوقت والجهد والمسافة. لهذا كان الغرض من اعتماد الاقتصاد الرقمي التغلب على الهشاشة التي يعاني منها الإنسان الصانع في المجال المهني والحياة العلائقية وتمكينه من التفوق على الخسائر التي يمنى بها عند الإنتاج والتوزيع والاستهلاك وتهيئة ظروف إيتيقية تقنية تكون مواتية لميلاد جماعة اقتصادية رابحة.
والحق أن الرقمي يجمع بين تقنيات الإعلام والتواصل وبين الوسائل السمعية البصرية و جملة البرمجيات الإعلامية ويستخدم سوقا رقميا تتكون من تقنيات إعلامية مثل الحواسيب والهواتف والشبكات الاجتماعية.
على هذا الأساس يتناول الاقتصاد الرقمي بالمقاربة العلمية موضوع الخيرات اللامادية لكونها غير مكلفة من الناحية المادية وسهلة التداول والاستعمال وتؤسس أنظمة تبادل حديثة خارج إطار الأنظمة التقليدية للعرض والطلب التي ظل يحتكم لها السوق بالمعنى التقليدي والذي بقيت تعاني من الاحتكار والقرصنة.
في الواقع يتعلق الأمر بميدان متكامل من الاقتصاد يغير من طبيعة الملكية الخاصة وينتج تصورا جديدا للملكية الافتراضية المشتركة التي تسمح برقمنة الوجود الاقتصادي من جهة المعاملات ويتم الاستغناء عن الأوراق المالية والسندات البنكية ببطاقات مغناطيسية ونماذج تحويلية ومعاملات الكترونية افتراضية.
غني عن البيان الاقتصاد الرقمي ينبني على المرتكزات المكونة للاقتصاد الثقافي واقتصاد المعرفة ويتحرك ضمن الأشكال متعددة من الإنتاج والتبادل تتميز بالمرونة والانسيابية والانفتاح والتشبيك بما يمكنها من التغليب على العراقيل البيروقراطية والإجراءات الإدارية المعرقلة والبطء في المعاملات.
غاية المراد أن مكاسب الاقتصاد الرقمي تكون متعددة اذا ما تم تصويبه نحو التشجيع على المبادرة الحرة والانتصاب للحساب المشترك ضمن نمط تعاوني وتكافلي من الإنتاج ويزيد من قيمة ومعدلات الاستثمار والتنمية المحلية وينهي السيطرة الاجتماعية على الإنتاج والتوزيع. “لعل التطابق بين وظيفتي السيطرة الاجتماعية للعمل والتحكم التكنولوجي في مجموعة المتعاونين المالكين أنفسهم ينهي صفة اغتراب الشغل ولكنه لا يلغي الفارق في علاقتي التبعية التكنولوجية من جهة، والاجتماعية من جهة أخرى.”8
على هذا النحو يوفر الاقتصاد الرقمي أنساق اقتصادية مجهرية تشتغل في كنف الحماية والرقابة وتعتمد على أنظمة حوكمة قوية ما يبعث الثقة والتنافس النزيه بين الشركاء ويزيد من حجم الإنتاجية والمعاملات.
كما يستمد الاقتصاد الرقمي مصداقيته وحرفيته من وظيفية التقنيات الالكترونية التي يستخدما ودقتها العالية على المستوى الاشتغال ومطابقة البيانات المستخلصة للقيمة الحقيقية للمداولات والأنظمة الاتصالية ومن احترام المعطيات الشخصية وحيادية الأجهزة وسرية الشبكات التواصلية والفضاءات الافتراضية.
لذلك يشتمل الاقتصاد الرقمي على مجموعة من المنصات الالكترونية التي تسهل المعاملات والخدمات بين التجارة الافتراضية المنتجين والمستهلكين على غرار الأنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي وأجهزة الاستشعار ويؤدي تراكم الرأسمال الرقمي وتأثيره غير المباشر في النظام الإنتاجي إلى تحسن نسب النمو.
غاية المراد أن الاقتصاد الرقمي يعد قطاعا استراتيجيا بالنسبة الى الاقتصاد الوطني وذلك لتأثيره بعيد المدى على مستقبل الأنظمة الإنتاجية وأساليب التصرف في الأنظمة التقليدية وما يمنحه من قيمة مضافة ولما يساهم به في تطور البلدان ونمو المجتمعات وتمدن الشعوب وتحولها نحو الوضع مابعد الصناعي.
ان الطريق الصحيح الذي تسير فيه الدول هو امتلاك نماذج الاقتصاد الجديد وخاصة الاقتصاد الالكتروني والاقتصاد الرقمي وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتقنيات المتطورة وجملة المنصات الافتراضية.
كما يعمل الاقتصاد الرقمي على الاطلاع على التجارب الناجحة في النمو وتقريبها ونقلها من الدول المتطورة الى الدول الفتية وتزيد من القدرة التنافسية للشركات والمؤسسات العمومية والخاصة والتعاونية، ولكن ماهي النماذج التنموية الجديدة التي يمكن إتباعها لكي يستعيد الاقتصاد الوطني ميكانزيمات تطوره؟
الاقتصاد التضامني بين الفاعلين الاجتماعيين ونماذج التنمية:
” لا يمكن أن يظل الاقتصاد التضامني يلعب بالميكانيزمات نفسها للأمس والمسألة الاجتماعية الجديدة التي تطرح اليوم تستوجب معالجة جديدة”9.
يتخطى مفهوم الاقتصاد الاجتماعي أطر وحدود علم الاجتماع الاقتصادي والحماية الاجتماعية للعمال لكي يتسع ويمتد نحو ترقية في الوضع البشري وإحراز التنمية الشاملة التي تخدم الأفراد والمجموعات. ويتأسس الاقتصاد الاجتماعي على التشاركية والتعاون على صعيد الخبرات والموارد وتبادل المنافع والمصالح ويمنح الأولوية للإنسان على المال ويراهن على قدراته الخلاقة وفعاليته على الصعيد الإنتاجي.
يتموقع الاقتصاد الاجتماعي بين الديمقراطية والتضامن ويريد الإفلات من المشاكل الكارثية التي تعاني منها الرأسمالية من جهة على صعيد الاحتكار والتهريب والمضاربة والاستغلال والإضرار بالبيئة والمحيط من جهة والأزمات الدورية التي تقع فيها الاشتراكية في مستوى الانكماش والركود والكساد وضعف المردودية وقلة الإنتاج والتواكل والانتظارية من جهة ثانية وذلك بالتعويل على تشارك الأفراد في بعث مشاريع تنموية تعاونية تطمح لتوازن بين الخاص والخاص يقتضيه التنظيم الاقتصادي للمجتمع.
لقد تشكل ميثاق يدعم الاقتصاد الاجتماعي منذ 1980 ويقوم على سبع قواعد:
-قاعدة أولى: تشتغل مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي بطريقة ديمقراطية وتتكون من شركاء متضامنين ومتساوين في الحقوق والواجبات.
-قاعدة ثانية: الشركاء، المستهلكون أو المنتوج هم أعضاء في مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي يلتزمون بحرية وفق أشكال العمل المفضلة لديهم ( التعاون، التعاضد، التشارك) ويتحملون مسؤولية تبعة أعمالهم.
-قاعدة ثالثة: كل الشركاء يحوزون على ملكية وسائل الإنتاج بنفس القيمة، وتبذل مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي جهودها من أجل خلق روابط جديدة في العلاقات الاجتماعية الداخلية بواسطة فعل غير منقطع من التكوين والإعلام في مناخ من الثقة المتبادلة والأخذ بعين الاعتبار والتثمين لكل عضو.
-قاعدة رابعة: مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي: تطالب بالمساواة في الحظوظ لكل واحد من الشركاء. وتمنح الحق في التنمية لكل طرف مع احترام حريته التامة في الفعل والمبادرة والابتكار.
-قاعدة خامسة: تتنزل مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي ضمن إطار نظام خاص من الملكية والتوزيع أو التقسيم للفوائد وتستعمل الفوائض في تحقيق المزيد من النمو وتحسين الخدمات للشركاء الذين يراقبونها.
-قاعدة سادسة: تبذل مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي جهودها من أجل تقوية البحوث والتجارب في ميادين النشاط البشري وتساهم في التنمية المتكاملة للمجتمع ضمن منظور تأليفي بين الفردي والجماعي.
-قاعدة سابعة: مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي تعلن أن غائيتها النهائية ومقصدها الأول يتمثل في خدمة الإنسان10. من المفروض أن يتم تأهيل الفاعلين الاجتماعيين من جميع النواحي التقنية والمهنية والصناعية والمعنوية والتربوية والقانونية وذلك من أجل الحصول على قوى إنتاج جيدة تكون قادرة على تحمل الأزمات ورفع التحدي والنهوض بأعباء الاقتصاد والتضامن مع القوى الحية في المجتمع والرد على التحديات باقتدار.
أما النماذج التنموية التي كانت سائدة فهي في حاجة إلى مراجعة جذرية: فقد بان بالكاشف أن أسلوب التخطيط المركزي الذي يعتمده النظام الاشتراكي والتركيز على القطاع العام يؤدي الى غياب المنافسة وتقلص التنمية وانكماش الاستثمار وتحميل مؤسسات الدولة مسؤولية النشاط الاقتصادي وتبعات تحولاته. أما انتهاج الخوصصة وتفويت القطاع العام إلى القطاع والتشجيع على الاستثمار الأجنبي والوطني بلا قيود ودون حسيب ولا رقيب يؤدي إلى بيع الثروات ونهب خيرات البلاد والتفويت في القرار السياسي والاعتداء على مبدأ السيادة الشعبية التي نمثل ركيزة أساسية في النظام السياسي الديمقراطي التشاركي.
بطبيعة الحال يفترض الابتعاد عن نعت الاقتصاد الاجتماعي بمصطلحي التعاضد والتضامن وذلك ليس لوجود شائبة في المعنى والدلالة وإنما بعد التوظيف الإيديولوجي والشمولي لهما في التجارب الفاشلة.
من هذا المنطلق يجدر اعتماد خيار ثالث في التنمية يؤلف بين العدالة والحرية وبين المساواة والنجاعة ويضع أعيينه على الرعاية الاجتماعية للدولة ويقوم بتطوير قطاعات الإنتاج الاقتصادي ذات قدرة تشغيلية عالية. لكن أي دور ممكن للاقتصاد الاجتماعي من أجل تقريب المسافة بيننا والتنمية المتكاملة؟
في هذا المجال يجدر إنهاء التوتر القائم بين السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي وبلوغ الإنصاف وتحقيق المواءمة بين المنفعة الاجتماعية والتواصل الإيتيقي وتنظيم الإنتاج الاقتصادي بصورة تعاونية.
من البديهي أن يكون هدف الاقتصاد الاجتماعي هو تقوية أشكال التعاون وصور التضامن في المجتمع وتنمية القيمة المضافة الاجتماعية وذلك بالالتزام الفاعلين على الانتقال مجرد مستهلكين إلى مواطنين.
زد على ذلك يعمل الاقتصاد التضامني على نقل ملكية رأسمال من المنتجين إلى المستعملين والموظفين المشاركين في تنظيم العملية الاقتصادية والاعتماد على التشارك والتعاون والتكاتف في إدارة الأعمال.
خاتمة:
” يضع التصور الديمقراطي للتضامن الاقتصاد في دور الوسيلة لتحقيق غايات العدالة الاجتماعية والاستدامة الايكولوجية”11
يظل الاقتصاد التضامني موجودا على مستوى الوقائع والمعطيات التي تلتقي حولها عدد من الحركات الاجتماعية وذلك لما يوفره من فوائد وخيرات للفاعلين وما يلبيه من مصالح للفئات وما يحققه من مكاسب للشرائح الهشة وما يحققه من مطالب حركات نقابية ونسوية وإيديولوجية وشبابية وما يتميز به من تعاونية تبدأ من ضمان الشغل المستقر إلى حد المسكن اللائق في المدن الراقية والأحياء الشعبية وتنتهي بضرورة تفعيل المؤسسات الديمقراطية التشاركية من خلال تركيز فضاءات الحرية وإجراء نقاشات واسعة حول السياسات العامة في الوسائط الرمزية ووسائل الاتصال الحديثة وذلك لتشريك المواطنين في اتخاذ القرار.
حسن استثمار استمرارية الاقتصاد التقليدي وتوجيه الاقتصاد التضامني نحو تقوية المؤسسات العامة وتخليص القطاع الخاص من النزعة التنافسية الأنانية وإدماجه في المجهود المشترك للتنمية والاعتماد على الثروات الوطنية في تركيز عناصر أساسية لمنوال تنموي محلي يدعم مصادر الانتعاشة المادية وصحة المجتمع النفسية ويوفر الأمل في مواطنة عادلة تزيد من منسوب الحلم في بيئة سليمة وحياة جيدة.
يحتاج الوضع الاقتصادي في سبيل إدراك التحسن إلى :
استقرار على مستوى مؤسسات الحكم في علاقة باتخاذ القرار تفاديا للارتجال والاستدراك.
إتباع استراتيجية تنموية تضامينة تعتمد على تحقيق التوازن والتكامل بين القطاعات والفئات
تنمية العائدات وتوزيع الموارد بشكل منصف لكي تصل لجميع الفئات التي عانت من الازدراء.
اعتماد منظومة ناجعة وشفافة ومرنة في المراقبة والمحاسبة للمداخيل والنفقات والمعاملات.
” يكشف اقتصاد تضامني من هذا النمط من جديد النقاش القديم حول الدولة التي تعارض بين ثقافتين، واحدة على الأصح جمهورية وبالتالي حكومية ، محمولة على البحث منذ البداية عن جواب وطني عن المشاكل التي بقي المجتمع في مواجهتها، والآخر، على الأصح، محترس إزاء الحلول الحكومية ، محققا اللاّمركزية في مقاصدها الأصلية، محترسا تجاه البعد المحلي والجهوي من الأجوبة المقدمة عن المشاكل الاجتماعية، مفتوحا على الاستقلالية والتجريب بالاعتماد على تقوية الجماعات المحلية.”
منتهى القول لا يقوم اقتصاد قوي إلا على فاعلين اجتماعيين لهم كفاءة عالية وفائق في القيمة الأخلاقية ولا يخرج المجتمع من أزمته الروحية إلا بإتباع نموذج اقتصادي تعاوني يقوم على التشارك والتكافل والبر. على هذا النحو يجدر بنا المحافظة على قطاعات واسعة من الأشكال التقليدية للإنتاج الاقتصادي وتطعيمها ببعض الموارد والتقنيات الحديثة ومساعدتها تضامنيا على التوزيع والترويج على غرار الحرف التقليدية والمهن ، وفي المقابل توكل مهمة الابتكار والاختراع والإبداع في الحقول البيئية إلى الفئات الشابة الحرة، لكن كيف يساهم السلوك الديمقراطي في تشكل رأسمال تشاركي غير قابل للتجزئة والاغتراب ويؤدي إلى زوال الملكيات الفردية للفوائد وتلبية للحاجيات الجديدة للاقتصاد وتقديم عدد من الخدمات العمومية للناس؟
(مداخلة قدمت ضمن يوم دراسي حول الاقتصاد التضامني، من تنظيم مركز التكوين ودعم اللامركزية، يوم الخميس 22 مارس، بتونس العاصمة)
الإحالات والهوامش:
[1] Laville Jean louis, l’économie solidaire, une perspective internationale, Nouvelle édition Desclée de Brower, Paris, 2000,p216
[2] François Ost, théorie de la justice et droit à l’aide sociale, in Individu et justice sociale, autour de John Rawls, éditions du Seuil, Paris, 1988, p263
[3] Laurent Fraisse, changement social, in Dictionnaire de l’autre économie, sous la direction de Jean-luis Laville et Antonio David Cattani, Desclée de Brouwer, Paris, 2005 , p93.
[4] Antoine Bévort et Elisabetta Bucolo, Capital social, in Dictionnaire de l’autre économie, op.cit,p82
[5] Les Notions philosophiques, économie, tome1, dirigé par Sylvain Auroux, éditions PUF, Paris, 1990, p736
[6] Jérôme Blanc, marché solidaire, in Dictionnaire de l’autre économie, op.cit, p367.
[7] Paul Ricœur, l’homme faillible, finitude et culpabilité, la philosophie de la volonté, éditions Montaigne –Aubier, Paris, 1960.p133.
[8] Paul Ricœur, l’homme faillible, op.cit .p133.
[9] Laville Jean louis, l’économie solidaire, une perspective internationale , op.cit.p260
[10] Neurrisse Abdré, l’économie sociale, édition PUF, collection que sais-je ?, Paris, 1983.pp.05-06.
[11] Jean-louis Laville, solidarité, in Dictionnaire de l’autre économie, op.cit,p495.
[12] Laville Jean louis, l’économie solidaire, une perspective internationale, op.cit.p128
المصادر والمراجع:
Laville Jean louis, l’économie solidaire, une perspective internationale, édition Desclée de Brower, Paris, 2000.
Neurrisse Abdré, l’économie sociale, édition PUF, collection que sais-je ?, Paris, 1983.
Paul Ricœur, l’homme faillible, finitude et culpabilité, la philosophie de la volonté, éditions Montaigne –Aubier, Paris, 1960.
Dictionnaire de l’autre économie, sous la direction de Jean-luis Laville et Antonio David Cattani, Desclée de Brouwer, Paris, 2005
Les Notions philosophiques, économie, tome1, dirigé par Sylvain Auroux, éditions PUF, Paris, 1990,
Individu et justice sociale, autour de John Rawls, éditions du Seuil, Paris, 1988