ولد تولستوي عام 1828, اما تشيخوف فقد ولد عام 1860, واصدر تولستوي روايته العظمى الحرب والسلم ( والتي لازالت تعد واحدة من اعظم روايات الادب العالمي) عام 1869, عندما كان تشيخوف تلميذا في المدرسة الابتدائية,وتوفي تولستوي عام 1910 ( كان عمره 82 سنة), اما تشيخوف الاصغر منه ب 32 سنة, فقد توفي قبله, عام 1904 ( كان عمره 44 سنة فقط),و مع كل هذه الفروقات الهائلة بينهما , لا زال النقاد والباحثون يتناولونهما معا ويحللون نتاجاتهما ومواقفهما الفكرية والفنية ويقارنونها. يبتدأ هؤلاء عادة بالكلام عن موقف الاديب الشاب تشيخوف في ثمانينيات القرن التاسع عشر تجاه تولستوي, وهذا شئ منطقي,فقد ابتدا تشيخوف مسيرة ابداعه عام 1880 بنشر قصص هزلية قصيرة في مجلات الدرجة الثانية الروسية, وفي احدى تلك الاصدارات التي نشرها عام 1886 بعنوان (قائمة ادبية حول المناصب ) وضع تولستوي في مقدمة الجميع,وكتب في نهاية الثمانينيات رسالة الى جايكوفسكي كرر فيها ان تولستوي يشغل المكان الاول بين ادباء روسيا, وفي تلك السنين بالذات كان تشيخوف يكتب تحت تأثير تولستوي, بل ان بعض النقاد يسمون تلك المرحلة من ابداع تشيخوف ب ( القصص التولستوية), على الرغم من ان تشيخوف لم يكن يدعو الى اعتناق الاراء الفلسفية والاخلاقية لتولستوي مثل عدم مقاومة الشر او الشك بشأن التقدم العلمي والتقني …الخ, ولكنه كان يدعو الى احترام آراء هذا ( العملاق) واخذها بنظر الاعتبار , وعدم رفضها مطلقا باعتبارها سلبية ليس الا كما كان يتحدث عنها في ذلك الوقت المضادون لها. لكن تشيخوف تخلص بعد فترة قصيرة من هذا التأثير واعترف هو نفسه بذلك , خصوصا بعد سفرته الى جزيرة سخالين , بل انه حذف من تلك القصص, عندما اعاد نشرها, تلك المقاطع ( التولستوية) منها في نهاية التسعينيات من القرن التسع عشر. لقد سافر تشيخوف الى جزيرة السجناء سخالين عام 1890, وشاهد هناك الواقع الروسي المرير,واصدر كتابه المعروف عن هذه الجزيرة, وبعد تلك السفرة تغيرت علاقته تجاه افكار تولستوي والتولستوية ان صح التعبير , وكتب كلماته المعروفة في رسالته الى سوفورين عام 1894 – ( …في اعماقي الآن شئ- ما يحتج, والعدالة تقول لي , بانه يوجد في الكهرباء والبخار حب للانسان أكثر مما هو موجود في الامتناع عن أكل اللحوم) ويضيف في تلك الرسالة ايضا ان ( تولستوي لم يعد موجودا في روحي ), الا ان هذا الموقف لم يؤثر بتاتا على نظرة تشيخوف الى تولستوي باعتباره عبقرية هائلة ,وكان معجبا جدا برواية آنا كارينينا, وقال عنها, انه عندما يقرأ كل صفحة فيها فانه يصبح (أغنى وأقوى وأعلى) مما كان في السابق, لكن هذا لم يمنع تشيخوف من ان يسجل بعض الملاحظات بشأن نتاجات تولستوي, فقد انتقد مثلا كيف رسم تولستوي شخصية نابليون في رواية ( الحرب والسلم), معتبرا انه أضفى عليها صفة غير واقعية وانه قلل من شأنه, وكذلك انتقد تشيخوف بعض مقاطع من رواية ( البعث), وخصوصا نهايتها,واعترض تشيخوف على قول تولستوي الذي اشار الى ان الانسان يحتاج الى مترين من الارض ليس الا قائلا ,ان الجثة تحتاج الى مترين اما الانسان فانه يحتاج الى العالم كله, الا ان كل ذلك لم يغير من موقف تشيخوف تجاه شخصية تولستوي كانسان وقيمته ومكانته, وقد كتب عام 1900 انه يخاف ان يموت تولستوي لان موته يعني ولادة فراغ لن يشغله اي انسان ( اولا لاني لا احب اي انسان اكثر من حبي له,وثانيا لانه عندما يوجد تولستوي فانه من السهل ان تكون اديبا , لانه يعمل كل شئ من اجل الادباء وان نشاطه يبرر وجودنا كادباء, وثالثا لانه يقف صلدا وقويا, وما دام تولستوي على قيد الحياة , فان الادب سيخلو من التفاهة ).
اما تولستوي, فقد بدأ بملاحظة تشيخوف في نهاية الثمانينيات, وكان يثمن فيه روحه المرحة, وقد اختار 30 قصة من قصصه, وكان يقرأ نماذج منها في الحلقات العائلية, وكتبت ابنة تولستوي في احدى رسائلها الى تشيخوف حول ذلك, وتوجد اشارة الى ان تولستوي قرأ ( مئة مرة) احدى قصص تشيخوف امام الاخرين, واصبحت مشهورة كلمات تولستوي التي قالها مرة حول تشيخوف وهي – (لا يمكن مقارنة تشيخوف كفنان مع الادباء الروس السابقين له, مع تورغينيف ودستويفسكي, ومعي. عند تشيخوف يوجد نمط خاص به, كما عند الانطباعيين, عندما تنظر الى نتاجاته تعتقد بان هذا الانسان يلطخ الالوان دون اي تمييز, ويستخدم اي لون يقع تحت يديه بدون اي علاقة بين الالوان, ولكن ما ان تبتعد لمسافة قصيرة وتنظر من جديد, فستجد انطباعا متكاملا بشكل عام, وتتكون امامك صورة للطبيعة ساطعة لا تنسى ). لقد تحدث النقاد كثيرا عن هذه الكلمات واستنتجوا منها ان تولستوي كان يريد ان يقول, ان تشيخوف هو فنان الانطباعية في الادب الروسي , وانه يجسد مرحلة اعلى في الاتجاه الواقعي الذي يسود الادب الروسي عموما, وهذه بالطبع افكار كبيرة لا يمكن التوقف عندها في اطار هذه المقالة.
من الضروري ايضا , عند الكلام عن العلاقات المتبادلة بين تولستوي وتشيخوف, الاشارة الى ان تولستوي رفض رفضا قاطعا وتاما مسرح تشيخوف ولم يعترف به, بل انه بدأ بكتابة مسرحيته الشهيرة ( سلطة العتمة) بعد ان شاهد مسرحية تشيخوف (الخال فانيا), وذلك جوابا على تلك المسرحية شكلا ومضمونا, وهذا موضوع كبير يتطلب التوقف عنده تفصيلا في اطار تاريخ الادب المسرحي الروسي, وما آل اليه الآن, اذ اصبح من الواضح ان روسيا والعالم قد تقبلا مسرح تشيخوف, وان هذا المسرح قدتفوق في الصراع مع افكار تولستوي. ونختتم هذه الملاحظات السريعة بكلمة كتبها ابن تولستوي بشأن العلاقات بينما – (كان ابي يشعر بان انطون بافلوفيتش يتعاطف معه بشدة, لكنه لم يكن يشاركه بارائه, لهذا كان يدعوه الى المناقشة, لكنه لم يفلح بذلك, اذ ان تشيخوف لم يستجب لهذه الدعوة .يبدو لي, ان ابي كان يريد ان يكون تشيخوف اقرب اليه وان يخضعه لتأثيره, لكنه وجد فيه رجلا عنيدا صامتا. لقد كانت هناك حدود-ما تعرقل تقاربهما اللاحق).