5 نوفمبر، 2024 3:35 م
Search
Close this search box.

في سيكولوجيا الأنتماء للحزب الشيوعي العراقي في ذكرى تأسيسه

في سيكولوجيا الأنتماء للحزب الشيوعي العراقي في ذكرى تأسيسه

تؤكد الدراسات السيكواجتماعية أن هناك دوافع مختلفة للأنتماء السياسي لعل من بينها هي: المصلحة الذاتية, أي الرغبة في الحصول على مكاسب ذاتية للأفراد الذين ينتمون الى حزب ما, كالحصول على المناصب أو الوظائف أو الأموال أو المكافآت والامتيازات؛ أو الأنفعال أي اندفاع المواطنين لتأييد أفكار وبرامج وأهداف وسياسات الحزب دون تحفظ وذلك لأنها تثير عواطفهم ونزعاتهم النفسية وتجعلهم متحمسين لنصرة الحزب والوقوف بجانب قضاياه والدفاع عنها دون خوف وتردد؛ أو الادراك والتعقل والعقيدة أي أن الشخص ينتمي الى الحزب لا بسبب مصلحته أو عاطفته الجياشة وأنفعالاته المفرطة, بل بسبب الأيمان والعقيدة والادراك الثاقب لأفكار وأيديولوجية ومعتقدات الحزب وأهدافه بحيث تكون هذه جزء لا يتجزأ من شخصيته وآماله في الحياة وتطلعاته, والاشخاص الذين يدخلون الحزب لهذه الاسباب هم الحزبيون الحقيقيون الذين يبقون فيه ويدافعون عنه ويناظلون من أجل نصرته مهما كانت الظروف.

وقد أكدت العديد من الأبجاث النفسية أن هناك خمسة عوامل تتوزع عليها سمات الأفراد المنتمين للأحزاب السياسة وهي تتكامل مع بعضها البعض في ظروف صحية في حياة الحزب الداخلية, وهذه العوامل هي: التفكير الأبداعي؛ والتعبير عن وجهات النظر؛ والألتزام؛ والتفكير الناقد؛ والتنظيم الذاتي. وهناك أيضا سمات شخصية للأفراد الذين ينتمون للأحزاب السياسية في الحالات المثالية, وهي: قوة الأنا, واليقظة الذهنية, والثقة بالنفس, والحساسية الأجتماعية , والفاعلية الذاتية, وتقدير الذات الى جانب الصلابة النفسية والصمود.

أن الأنتماء للحزب الشيوعي العراقي هو شبيه في الأنتماء الى التجارب العاطفية الأولى حيث استحضارها بقوة بين الحين والأخر إلى حيز الشعور, نتيجة لارتباطها ببداية تشكيل الخبرات العاطفية, وتعتبر من اللبنات الأولى في بناء الشخصية العاطفي على طريق اكتساب المزيد من الخبرات والتجارب.وهي اختبارات صعبة للتأكد من صلاحية الشخصية في التكيف والبقاء مع الجنس الآخر.

وتشكل تجربة الانتماء إلى الحزب الشيوعي العراقي لأول مرة في عمر الفرد لونا من ألوان هذا الانتماء المشحون بالعاطفة الجياشة والانفعال القوي للارتباط به الى جانب الأيمان بالفكر والعقيدة بعيدا عن المصلحة الذاتية. ومن اجبر على ترك الحزب في هذا العمر عانى كثيرا, كما يعاني من اجبر على ترك محبه الأول, حيث تجري الأشياء هنا بالضد من الشعور الذي ينتاب الفرد بأن يكون هذا الحب هو الأول والأخير وبطريقته الخاصة.

أن الخطاب الحزبي في بداية الانتماء وأن كان خطابا عقلانيا يستند إلى مادة فكرية وفلسفية رفيعة المستوى تقدم”للمحبين” له, ألا أن الحزب له القابلية على إضفاء مشاعر وأحاسيس عنيفة معززة رغبة البقاء في صفوفه, وهي نتاج عمل دؤوب سايكوعقلي ـ معرفي , يترك أثرا عميقا أكثر بكثير من وقع الحب الأول في محبيه, يترك في الشخصية شحنة انفعالية موجبة كما تدرك. وبقدر ما يكون الحب الأول فرصة لتأكيد الذات واختبار الشخصية,يكون الانتماء الحزبي هو الآخر فرصة ذهبية لتميز الشخصية ضمن إبعاد جديدة وفي سياقات غير معتادة, تشكل فرصا للنمذجة المثالية للشخصية, تمنح صاحبها امتيازا في بيئة محدودة الإمكانيات, وخاصة في صورة الخروج الايجابي عن المألوف, وتشكل مع الوقت احد المصادر الأساسية في التوافق الذاتي ورسم الملامح العقلية وحتى أحيانا المزاجية للشخصية. أو يأخذ الانتماء شكل المخالفة لما هو سائد أو كما يقال”خالف تعرف” في بيئة غارقة في الممنوعات.

أن الانتماء للحزب والاستمرار فيه إن شاء الفرد يجب أن يرتبط بعقلانية رفيعة المستوى في الدفاع عنه, وهذا يأتي عبر التخلص من غرائز الانتماء الأول المفعمة في اللوازم العصبية والانفعالات المؤذية في أحيان كثيرة للحزب, والتي يعكسها الدفاع المفرط عنه, وبأي ثمن, وبآليات غير موفقة تلحق الضرر به. وفي حالات كثيرة تسبب شحنة الحرص الزائد(الانفعال المفرط) إلى ارتكاب أخطاء ينتظرها من لا يرغب بوجود الحزب كما ينبغي أن يكون.

أن الحزب وبعد مسيرة تجاوز فيها الثمانية عقود تعرض فيها إلى هجمات شرسة من أعدائه وحلفائه, وكذلك انتكاسات كبيرة نتيجة لأخطاء ذاتية وظروف موضوعية, وعلاوة على ذلك تعرض حلفائه “الثابتين” في الخارج إلى انهيارات كبرى تمثلت في انهيار المعسكر الاشتراكي, والتي أدت ضمن ما أدت إليه إلى أن يطال الشك إلى مصداقية الفكر الماركسي. يحتاج الحزب اليوم إلى انتماءات بذهنية جديدة, ترى في الحزب مشروعا عمليا للحياة ومرنا قدر مرونة الحياة…أن عهد” ملائكة” الحزب ودعاة الحرص”المؤذي”لم تزكيهما الحياة. ومن يرى في الحزب ملاذا لتأكيد الذات, لأنه لم يجد في دائرته القريبة الملاذ, فأنه يرتكب أخطاء بحق الحزب, ومن يرى في الحزب وظيفته الدائمة فأنه يخطأ أن يقدم شيئا مفيدا له.

اليوم وبعد هذا الزخم الهائل من التغيرات الدولية والإقليمية والقطرية, فأن الحزب لم يعد حزب”دكتاتورية البرولتارية”,ولكنه يستطيع أن يكون بامتياز حزب البرولتارية, ولا حزب التكتيكات من أجل” استلام السلطة”, ولكن من حقه أن يتطلع إلى المشاركة الواسعة في السلطة, ولا حزب بناء” الاشتراكية”على نسق مرجعياتها السابقة, ولا حزب الانضباط الحديدي وفقا “للقواعد اللينينية في حياة الحزب الداخلية” ولكن حزبا منضبطا,حيث تنعدم المقومات الموضوعية والذاتية لذلك. أذن لماذا كل هذه الحملات والهجمات عليه, وخاصة عندما تبدأ الرؤيا بهذا الوضوح. أني اعتقد أن المشكلة في التساؤلات الآتية: ماذا نختار, وكيف نختار, ولماذا؟؟؟ .

علينا أن لا نعطي الظواهر قوة دفع أكثر بكثير من خصوصية الظرف الذاتي والموضوعي الذي تجري فيه.أليست تلك هي سنة الديالكتيك.فمن أراد للحزب خيرا فعليه أن يقلع عن عادات “الحب الأول”في الدفاع عنه, أو عادات أخذ الثأر منه والهجوم عليه عندما ينفض العقد معه. ومن أراد أن يكون الحزب “حبه الأخير”فعليه القبول بشروط الحياة, وعلى الحزب المزيد من الاستجابة والتفحص الذاتي, وخاصة بعد تجربة تجاوزت العقد والنصف من العمل العلني وفي ظروف نوعية جديدة.

أن من يريد أن يكون حزبه حزب الثلاثينيات أوالاربعينيات أو ما يسمى” حزب فهد” فأن ذلك مجافاة للحقائق والتغيرات العميقة على الأرض في الداخل والخارج. وتستحضرني في هذا السياق ليست مقولة لينين(النظرية مرشد للعمل), ولكن من عمق التأريخ مقولة للأمام علي: ” لا تقصروا أولادكم على آدابكم فأنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم “. أذا كان هذا الحديث في التربية, فكيف يكون الأمر في السياسة وهي فن الممكنات. وهل يجوز العودة في السياسة إلى أكثر من ثمانين عاما إلى الوراء!!!, وهل يجوز في السياسة أيضا أن تصاغ سياسات الحاضر واتجاهات المستقبل لحياة الحزب الداخلية والخارجية على ضوء معايير الثلاثينيات والاربعينيات ونحن في الألفية الثالثة. أن مآثر الحزب وتأريخه النضالي هي ملكا للجميع. ولكنني أتساءل :هل كان حزب” فهد” آنذاك بدون انحسارات أو صراعات!!!, وهل كان في برجا عاجيا كي لا يكون كذلك, وهل كان مراقبا للمعارك الوطنية لكي يكون معصوما من الخطأ أم طرفا أساسيا فيها….الإجابات في التأريخ المكتوب والغير منحاز نسبيا للحزب.

أن من يرى في الحزب ” حبه” الأول والأخير عليه أن يكيف نفسه لميكانيزم الحياة المتغيرة أبدا وبدون انقطاع. فلا يمكن “السباحة في النهر مرتين”, لأن الماء غيره عن المرة الأولى.فالحزب اليوم يؤمن في الديمقراطية الليبرالية على مستوى السياسة والاقتصاد(مع مظلة حقوق اجتماعية واسعة). ويترتب على ذلك أن يكون الحزب واضحا في خطاباته وتحالفاته وحدود انتمائه للعقيدة الكلاسيكية. وعلينا أن نعي حقيقة أن” الحب الأخير” هو ليست صورة طبق الأصل لفلم غير ناطق عن “الحب الأول”. وبين” الحبين”تأريخ مشترك يجب العودة أليه ودراسته وتقويمه بعناية وحرص شديدين. وأعتقد أن الحزب الشيوعي ليست حركة ماضوية فهو من الحركات التي تلتصق بالحاضر بشدة . وإذا كان الحب الأول يعبر عن الحاجات الأولى للانتماء, فأن الحب الأخير هو حب الأحاسيس والانفعالات الهادئة…أنه حب الحياة والاستقرار, وكما عرفنا فأن الأنتماء أليه طواعية, ومغادرته أيضا بعرفان وأحسان.

الذكرى ال 84 لميلاد الحزب الشيوعي العراقي هي مناسبة لتشديد الخناق على الفاسدين وهي مناسبة لأعادة بناء العملية السياسية في العراق بعيدا عن المحاصصة الطائفية والأثنية, وهي مناسبة للملمة الصف الداخلي لحزب فهد, وأن نتعلم من الديمقراطية والتعددية الحزبية, أن تحالفات اليوم قد تصلح أو لا تصلح لغدا, ومصالح الناس الأساسية في الخدمات العامة والعيش الكريم هي جوهر ما يطمح له الشيوعيون بعيدا عن الوصفات المتحجرة, فأن ما كان صالحا بالأمس لم يكن صالحا اليوم أو لغد. وكل عام والحزب بأفضل منه.

أحدث المقالات

أحدث المقالات