قال طرفة:
كُلهمُ أروغ من ثعلب … ما أشبه الليلة بالبارحه
من المعروف إن الإنتخابات هي وسيلة بحد ذاتها وليس غاية، فهي الطريق الذي يوصلنا إلى مفرقين متناقضين، إما التقدم للأمام أو التراجع للخلف، إنها الحد الفاصل ما بين التوحد والتشتت، البناء أو الهدم، الحياة السعيدة أو الموت البطيء. وسنتناول أهم العوامل المؤثرة في سير العملية الإنتخابية في العراق، ونقيم العمليات السابقة على ضوء مواقف العوامل الرئيسة التي أثرت فيها بشكل مباشر.
مفوضية الإنتخابات
لكي تكون الإنتخابات شفافة ومقنعة للمواطن، لا بد من تَحييد المفوضية العليا للإنتخابات من وباء المحاصصة الطائفية، وإختيار هيئة رئاسية لها من القضاة النزيهين المتجردين من الميول الطائفية. وعناصر شريفة ووطنية تعمل فيها، لابد ان يكون القضاة مهنيون، ذوو خبرة متراكمة، ومشهود لهم بالفضيلة والسمعة الحسنة والأمانة، وأهم منها العدل بإعتبارهم رجال عدول. وكذلك أن يكونوا من المستقلين سياسيا وليس لهم قرابة أو علاقة بالمرشحين. الحقيقة ان القاضي عندما ينتمي الى أي حزب سياسي يسقط مهنيا وأخلاقيا، وحري به أن لا يلبس جبة القضاة. إن الأستقلالية من شأنها ان تؤمن العدل والنزاهة في العملية الإنتخابية في كل مراحلها. وفي المقابل أن تسن عقوبة شديدة لمن يخون أمانة الشعب بغض النظر عن موقعه في المفوضية، وتعتير جريمة كالخيانة العظمى مخلة بالشرف. مع مصادرة الاموال المنقولة وغير المنقولة لمن ينحرف عن بوصلة النزاهة والأمانة. فسرقة أموال الشعب لا تقل إجراما عن سرقة أصواتهم.
الحكومة في الدول الديمقراطية كما هو معروف، تتحمل جزءا غير يسير من مسؤولية توعية الجماهير من خلال وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة دون أن ترجح كفتها على بقية الكتل المنافسة بإعتبارها تُخضِع كافة المؤسسات الحكومية لسلطانها وتضع يديها على المال العام. ويمكن توعية المواطن من خلال الندوات الجماهيرية العامة، وتوضيح قانون الإنتخابات لاسيما النقاط التي يعسر على المواطن البسيط فهمها، وإستضافة خبراء قانونيين متخصصين لتسليط الأضواء على أهميها، وتقديم نبذة عن حياة المرشحين وشرح أبعاد برامجهم الإنتخابية وإمكانية تطبيقها على الواقع، ومدى تلبيتها لحاجة المواطنين، وعدم التسقيط السياسي بحجة إجتثاث البعث، وإستبعاد الفاسدين والمزورين وإحالتهم الى القضاء، ومراقبة نشاطات المرشحين بالشكل الذي يضمن عدم إنتهاك قانون الإنتخابات، أو إستغفال المواطنين في الدعاية الإنتخابية، علاوة على عدم تسخير موارد الدولة واجهزتها القضائية والأمنية والإعلامية لترجيح كفة الحزب الحاكم دون البقية، والحساب الشديد لمن يتعاطى الرشاوى النقدية والعينية، والمساومات والمحسوبية والمنسوبية والوعود الوهمية كالتعيينات للناخبين، والمكافأت لعناصر المفوضية. وقد شهدنا أفعال الحكومات المنتخبة السابقة والدروس الباهضة التي دفع الشعب العراقي ثمنها الباهض، وهي تتبجح بشرعيتها بإعتبارها منتخبة من قبل الشعب، وهذه هي الطامة الكبرى، لأنه لا يمكن إنكار هذه الحقيقة، علم الرغم من عمليات التزوير الهائلة في جميع العمليات الإنتخابية السابقة، لكن الشعب العراقي هو الذي إنتخب هذه الطغمة الفاسدة الحاكمة، وهو الذي دنس اصبعه، ولوثه بالحبر النفسجي، لذا فهو يتحمل الجزء الأكبر مما لحق به ظلم وحيف وفقر وجهل وضيم وتهجير.
دور الإعلام
يحاول السياسيون شراء ذمم الإعلاميين، ممن يبيع شرفه المهني بأرخص الأثمان. فالسياسي يركض لاهثا وراء الإعلاميين قبل وأثناء الحملات الإنتخابية، يحمل معه سلة من الوعود يوزعها عليهم، ويفتح جيبه بكرم حاتمي، لإقامة الولائم وتوزيع الهدايا والهبات لشراء ذممهم متوكلا على أقلامهم الهشة، وألسنتهم الأجيرة لدعم ترشيحه. والإعلامي بدوره يركض وراء السياسي بعد الإنتخابات عسى أن يترجم له وعوده بمنصب أو مزايا مادية كانت أو معنوية. وغالبا ما يكتشف الإعلامي والناخب أن السياسي عبارة ( بياع كلام ) لا أكثر! وان البشاشة واللباقة والضيافة والكرم هي وسائل مطلوبة في الصفحة الأولى من الإنتخابات وهي الدفاع عن النفس! ولكن بعد الإنتخابات يتحول السياسي إلى صفحة الهجوم على الصحافة، بكل أنواع الأسلحة من دعاوي وإعتقال وتعذيب ويصل الحال إلى التهديد بالقتل أو ممارسته فعلا. وقد شهدنا الكثير من الإعتداءات الآثمة التى طالت رجال الصحافة والإعلام من قبل المسئولين وحماياتهم الخاصة، وطردهم من باحة البرلمان بكل جلف وغطرسة، بل أن رئيس الحكومة السابق نوري المالكي وصف إحدى أهم وسائل الإعلام ” بمكب نفايات”، واصدر قرارا بمنع وزير الصحة ومؤسساته من الإدلاء بأية معلومات عن ضحايا التفجيرات لوسائل الإعلام، ناهيك عن التعويضات المليارية التي طالب بها المولى الفقير أياد الزاملي صاحب موقع كتابات وصحيفة الغارديان البريطانية، ويكفينا معرفة أن العراق الديمقراطي الجديد يحتل الموقع (158) في الترتيب العالمي لحرية الصحافة.
لنقف قليلا عند محطة الإستذكار، ونفكر ما الذي قدمته الحكومة وبرلمان الحجيج السنوي لرجال الصحافة والإعلام أكثر من سراب رغم التضحيات الجسيمة التي تحملها رجالها في سبيل الأماني الضالة؟ وماهي نتيجة التطبيل الإعلامي والتزلف والهمز واللمز لرجال الإعلام، فقد رفعوهم على أكتافهم مهللين بمزاياهم، وطلوهم بأصباغ المجد والرفعة والأمانة، لكن سرعان ما سقط الطلاء وبانت العيوب؟ لقد ضلل الإعلاميون ـ السائرون في ركب الإحتلال والحكومة ـ المواطنين أبشع تضليل، فكانوا جزءا من المشكلة بدلا من الحل. وتحول الإعلام من سلطة رابعة إلى كلب أمين للسلطة الثالثة ينبح على الإعلام الشريف المقاوم، ويغطر عورة الحكومة والبرلمان والقضاء العراقي. وأصيب الإعلام بنفس الأعراض المرضية التي تعاني منها حكومة المحاصصة من العمالة والطائفية والعشائرية والعنصرية والإنتهازية والمصلحية. كانت الدروس مؤلمة في الإنتخابات السابقة، دروس مؤلمة لابد أن يستخلص الإعلامي العبر منها. لذلك لابد أن يلتزم الإعلاميون بالحياد، ويتصرفون بإيجابية، منطلقين من قاعدة وعي متكامل بحجم المسؤولية الوطنية، دون العبث بتغيير مسار الإنتخابات لصالح جهة ما، أو جهات معينه ولاسيما أعضاء السلطتين التشريعية والتنفيذية. وأن يتم التعامل مع جميع المرشحين بمسطرة واحدة، فلا فرق بين مرشح وآخر إلا بأخلاقة وإلتزامه الوطني وخلفيته الثقافية والسياسية والتأريخية وبرنامجه الإنتخابي المعلن.
دور المرجعيات الدينية:
مهما حاول البعض ان يبرأ المرجعيات الدينية من مسؤولية إنتخاب هؤلاء الفاسدين، فإنما هو غبي أو جاهل او طائفي للنخاع، لأنه يحاول ان يغطي ضوء الشمس بغربال، من منا ينسى تعطل الحوزة وإرسال طلابها الى العشائر في الجنوب والفرات الأوسط لحثها على إنتخاب أبناء المرجعية؟ أو تشبيه العملية ببيعة الغدير المزعومة، بل وصل الأمر الى تحريم الزوج من زوجته في حال عدم إنتخابه قوائم اولاد المرجعية وفق القاعدة المذهبية المتخلفة (نصرة المذهب) بدلا من نصرة الوطن! أو على أقل تقدير نصرة الدين، مع أن المواطنة تسمو على الدين، والعراق يضم عدة أديان ومذاهب. ومع هذا فإننا نقف مذهولين لأن المرجعية كانت راشدة وهكذا فعلت! فكيف صار الأمر لو لم تكن راشدة؟
كان موقف مراجع أهل السنة العزوف عن الإنتخابات لأن مفوضية الإنتخابات غير نزيهة، ولأن الوجوه سوف لا تتغير، وأن أهل السنة سيبقون مهمشين سواء شاركوا في الإنتخابات من عدمه. وإن مطالب أهل السنة سوف لا تتحقق في ظل الحكم الشيعي المتطرف. صحيح ان مراجع أهل السنة، لم يقدموا البديل، لكن نظرة الشيخ عبد الملك السعدي أثبتت صحتها، لأن سياسي أهل السنة في البرلمان والحكومة كانوا أضعف من فأر أمام قط، فهم إنقسموا ما بين جحوش لرئيس الوزراء الشيعي يتملقون له بلا كرامة ولا حياء، أو مهمشون لا حول لهم ولا قوة، خشية إتهامهم وفق المادة/ 4 إرهاب، او يُتهمون بدعم الدواعش، وهي التهمة الني ما يزال حزب الدعوة بشظاياه يسبغها على من يعارض مواقفه السياسية. خذوا مثلا وزير الدفاع الحالي (عرفان الحيالي) الذي لا يعرفه 99% من العراقيين، مع شدة سعير الحرب مع داعش، لم يزر مناطق القتال، ولم يصدر بيان واحد عن سير العمليات العسكرية، بل أوكلها للجنرال سليماني وأزلامه كهادي العامري وقيس الخزعلي وغيرهم، ولم يخرج في مقابلة واحدة ليعلمنا ما يجري في وزارته على أقل تقدير، بل هو تقبل الإهانات بكل رحابة صدر من قبل زعماء الحشد الذين تنكروا لإسناد قوات التحالف الجوي، وتضحيات الجيش، فنسبوا الإنتصارات لأنفسهم او لنظام الملالي، ولم يحرك الوزير الأمعي ساكنا، الطريف أنه منذ تولى منصبه لم نشهد له سوى مقابلتين مع نظيره الإيراني في طهران وبغداد، أشاد فيها بدور ولاية الفقيه في الحرب على داعش! هذا نموذج للوزير السني في الحكومة العراقية، وفي أخطر وزارة، فما بالك بالبقية!
نؤكد بهذا الصدد، إن الإنتخابات فرض وطني دنيوي، وليس دينيا، ولا يحتاج إلى الدوافع الروحية والإرشادات والمواعظ، ولحساسية موضوع الإنتخابات وما يرافقها في الغالب من ألاعيب سياسية، لذا من الأولى أن لا يحشر رجال الدين أنوفهم فيها، وأن يلتزموا بالصمت المطبق إحتراما لمكانتهم عند الناس، فقد أسبغوا رضاهم وبركاتهم على اللصوص والمجرمين فزكوهم وزينوهم أمام العراقيين في الإنتخابات السابقة، فدفع العراقيون جميعهم ثمن تلك الأخطاء التي نمت ونضجت وتحولت إلى خطايا.
لقد زرعوا بتدخلهم هذا الاشواك بين أقدامنا، وتركوها تنخز بأجسادنا، وتورمنا، وهم بمنأى عنها يتاجرون بعقول الجهلة والسذج، كان تدخلهم في الإنتخابات جريمة بشعة أثارت غضب الأرض والسماء معا. الغريب في الأمر ان المراجع وهم غير عراقيين ولا يتدخلون في الإنتخابات التي تجري في أوطانهم الأم، ولكنهم يتدخلون في إنتخابات بلد آخر هم فيه ضيوف، وعلى الضيف أن يحترم مضيفه، ولا يدس أنفه فيما لا يعنيه!
يجب أن يعلم الشعب العراقي أن الإنتخابات هي عملية سياسية بحته لا علاقة لها بالدين، وهناك فرق بين المجد والتمجيد، الشعب لا يختار فيها خليفة للمسلمين بل حاكما سياسيا، وإذا تدخل رجال الدين فيها فأنهم آجلا أم آجلا سيحتذون من قبل السياسيين. وتدخل رجال الدين في الإنتخابات ان أدى إلى خير فهم لا يشكرون عليه، وأن أدى الى شر سيلامون عليه، فعلام التدخل إذن؟
الإنتخابات أمر دنيوي يتعلق بتعاليم أرضية متمثلة بالدستور، وليس سماوية، وإن أدخال الشعارات الدينية في الدعايات الإنتخابية هي مناورة سياسية قذرة، وإساءة بالغة للدين، وإستغلال بشع ورخيص لأسمى عامل في الوجود، يعكس قلة الوعي بنواميس التأريخ البشري. وقد شممنا في الإنتخابات السابقة روائح الغليان الطائفي التي سدت منافذ عقول الكثيرين وأعيتهم، ليس الغرض من عرضنا هذا أن ننكأ الجراح الماضية، بقدر ما نرغب بإستخلاص الدروس وإستخرج العبر، لكي لا نلدغ من جحر واحد عدة مرات، وهذا يتطلب الإجابة بوضوح على أسئلة في قد تكون محرجة:
ـ هل كانت مباركة المرجعية للإنتخابات السابقة والحث على المشاركة فيها بإصطفاف طائفي يتناسب من نوعية الذين تم إنتخابهم في ضوء النتائج التي تمخضت خلال السنوات الأربع الماضية؟
ـ زعمت المرجعية بأنها ستقف على مسافة واحدة من جميع الكتل المشاركة في الإنتخابات، فلماذا تنصلت عن دعواها؟ لماذا تبطن غير ما تعلن؟ ولماذا لم تعتذر للعراقيين عما سببته لهم من كوارث؟
ان الإجابة بصراحة على هذه الأسئلة من شأنها أن تجنبا الوقوع في الخطأ. الشعب لا يتحمل اليوم المزيد من الكوارث، فأتركوا العراق للعراقيين!
في المقال القادم سنبين إيجابيات وسلبيات المشاركة في الإنتخابات، ويبقي لكل عراقي رأيه الخاص.