جواد الحطاب في بروفايل للريح .. رسم جانبي للمطر: صيّاد لآليء الشعر .. يوقظ نصب الحريّة من سباته

جواد الحطاب في بروفايل للريح .. رسم جانبي للمطر: صيّاد لآليء الشعر .. يوقظ نصب الحريّة من سباته

كمن يبحث عن لؤلؤ في أكوام صدف , على شاطيء , منسوج من حلم , يتجوّل وحده , مصطحبا كشّافا ً سريّا مصنوعاً من طفولة ٍ , ولهفة حب وفرح , وانسياب موج يتكسر على قوارب تستعدّ لفجر ٍ نافر ٍ من لحظة ٍ ممهورة ٍ بموّال بصريّ أطلقه عاشق , شقّ هديل الصباح , ومضى بين النخيل , يبحث عن نجمة تركها المساء , في ليلة ٍ شهقت بالأغنيات …هكذا هو , جواد الحطاب , جُبِلَ من هذه الخلطة , وخرج عن المألوف في كلّ شيء , حتى غدا محلقا بأجنحة الروح , لا يقف على دكة زمن ٍ معينة ٍ , ولا يخشى إفراطه بالحب والشعر والدهشة , لذلك حين يطلّ من نافذة جديدة , فعلينا جميعا أن نصمت وننتبه جيّدا له .من اللحظة الأولى في الشروع بالتجربة , إيذانا ً بالتحليق , يفتح الحطاب أفقا ً , يضع له محددات – تنتمي للحلم – كي يفصح عن نسق شعريّ , يوهمنا , بحبّ وحرفيّة ٍ عالية ٍ وموهبة ٍ نادرة ٍ , أنه يغامر , لينطلق من أثر ٍ معلوم ٍ , وتجربة ٍ لفحل ٍ شعريّ هو بلند الحندري , لم تحقق مبتغاها , وهذا المدخل , وضع تحته كل استثناءات النحت اللغوي , والانفلات من التحديد , ليعطي درسا ً فنيا وتعبيريا في الشعر الحديث , وخاصة للذين أدمنوا اللغو وادعاء الحداثة والتحديث , والتجريب والغرائبيّة , فكان الايضاح الذي وشى بإناء الشعر هو المدخل ,
 1
 ولعل الصرخة الأولى كانت دالا ً مهما ً على شروع الحطاب بتجربته , العلامة الفارقة , الجديدة في الشعرية العراقية , وربما , رغم أنني لم أطّلع على النموذج الموازي للوحات جواد سليم والتي قدمها , في حينها الشاعر الكبير بلند الحيدري , إلا أنني أتوقع أن انتظام تعبيرات الحيدري مع ضربات سليم , كانت تعيقها الغنائية , وارتباط الحيدري بالتفعيلة التي جعلته يصنع نصا موازيا , لا يحاكي الصورة بحرية كاملة , وهذا الرأي ربطته بربما , فأنا لم أطّلع كما أسلفت ُ على النموذج الذي قدمه بلند الحيدري , أما جواد الحطاب , فقد تحرّر من هذا النسق , وأعطى لذاته حرية الغور , في عوالم الجدارية , وهذه الحرية جاءت مضاعفة , إذا افترضنا أن هناك معيارا لقياس الحرية , وسبب مضاعفتها لدى الحطاب يكمن في تجربة لم تنجح , ورؤى تخمرت وتجددت مدعومة بالوعي والموهبة والنضج الفني العالي , لذلك حين يفصح الشاعر بالقول : هذه المرة …أنا ( جواد الحطاب) قررت ُ أن أغامر مع (جواد سليم) وأكتب عن تكويناته الراسية في ساحة التحرير , قد تتطابق القصائد مع رؤية النحات , ومن المؤكد أنها ستختلف , فالإبداع بكل ثيماته ليس سوى مغامرة تحتمل التأويلات …فلأغامر إذن , وإذا فشلت ُ , سأدّعي ما ادّعاه الحيدري بلند ….
وهكذا يبدأ الابحار , مرة بإيهامنا , وأخرى , بالإشارة والتنبيه للأشكال التي احتواها النصب , ثم مرة في التجريد اللامتناهي ” بأخاديد الدبابات …تضع القنصليات بيوضها ” وأخرى على أسنان الواقع ” يمعودين ” في ملخّصات شعريّة وإضاءات ٍ , لا يمكن وضعها في إطار شكل فني محدد سوى أنها شعر خالص , يجيد أداءه جواد الحطّاب .
2
هناك مفارقة , تعتمد الحذق والتمكن اللغويّ وطريقة صناعة الدهشة , في شعر جواد الحطاب كلّه , ولعل البروفايل , نموذج متقدم لنسيج هذه المفارقة , التي تحمل طرافتها منقوعة بالدم , على طريقة جان بول سارتر حين يعرّف الدبلوماسيّة على أنها ” اللعبة التي تبدأ بالمزاح وتنتهي بالدم ” ووفق هذه الرؤية ينحت الحطاب مقطوعة مدهشة بسيطة عميقة جميلة يقول فيها :
كان لبغداد ..أربعة أبواب
* باب الشام
* باب الكوفة
* باب البصرة
* و…باب خراسان
…………………..
…………………….
وكان للمنذر يومان
…………..
………….
لبغداد …أبواب أربعة
* باب كلوذا
* باب الظفرية
* باب السلطان
* و …باب الطلسم
……………………
………………….
الآن لبغداد باب ٌ واحد ٌ
باب ال آآآآآآآآآآآآآآآآه
وتعددت الأيام :
* الجمعة الدامي …
الأحد ….الثلاثاء ….السبت ….الأربعاء ….
…..امتلأ الأسبوع دما ً
فمن أين سنستأجر أيّاما ً بيض …
وهمرات فتاوى الأحزاب
سجّلتنا : (زائدة) حياتية !!!!!
…….
…..
يسير الأنبياء على الماء
ونسير  على اللهب …
……………
فهل اختارنا الله لتبليغ رسالته الجديدة ؟؟
وهكذا , تنساب القصائد , تلوّح بدلالاتها , وتوهم , ثم تمسك , حتى يجري تأويلها محمولا ً على بعدين هما الماضي , المرصود نحتا ً , والحاضر الموجع شعرا ً , وهو ارتباط رمزيّ ومسيرة دم لم تبدأ الآن , ولم تتوقف , فالعبارات المكتنزة بالمعنى والايحاء تشير إلى الأحداث , باعتبارها أكثر حقيقة من التاريخ , وباعتبارها منتقاة بذهن ووعي وإحساس شاعر , لا كسياق خبريّ يصف الفجيعة , بل يعبر بذات النزف , عنها , وبأسلوب قريب من الجميع , معنيين وغير معنيين , وهذه هي الوظيفة الحقيقية , للشعر , يكون فعله كفعل الموسيقى , لا  تحتاج إلا إلى إحساس وتذوق وإصغاء للجمال , وإلا كيف نقرأ :
سنلعب ….
لعبة الحكومة والمتظاهرين
ممتطين هراوات
عصيّا ً كهربائية هذه المرة !!
………
…….حين أموت
ادفنوا معي بطارية ضوئية
فأنا أخاف من الظلام
……………
هكذا , تنسج الصورة من أعقد نقطة في الذهن , لتصعد إلى فضاء العفوية , ورسم الصورة الشعرية , المنطلقة من الواقع , والمموهة فيه , تقديسا ً للفعل الشعري , وبذلك تصف وتعبر , وتحلّق أيضا , بلا ارتباك ولا تكلّف , كما أنها قالت الكثير , وعبرت عن هواجس ومعاناة الفرد , فما احتاج الشاعر للتصريح العلني الفج عن أزمة الكهرباء , مثلا , بل رسم لها صورة جمالية عبرت شعريا عنها , وهكذا مع كل الهموم الانسانية , ومع كل صور المعاناة , جاءت مبنية بإتقان , واضحة لكنها غير مباشرة , بسيطة وعميقة .
3
الشاعر جواد الحطاب بدأ رحلته الغنية في عالم الشعر , بقصيدة التفعيلة , الموزونة , اتضح هذا الخيار الفني , من خلال قصائده التي نشرها قبل مجموعته الأولى ” سلاما ً أيّها الفقراء” ثم في مجموعته والمجموعات التي تلتها , عدا مجموعاته الأخيرة , التي تخلّى فيها عن الأطر الشكلية , وتخلّى حتى عن الفهم التقليدي لتجربة قصيدة النثر , فلم يعد الشكل يؤرقه , ولم تعد عباراته المكتنزة , مصغية إلا إلى جوهر الشعر , فتخلّى عن الممهدات , والمقدمات , والايضاحات , ليستخلص “بيت القصيد” دون غيره , ويؤدي بذلك هدف الشعر , دون اللجوء إلى أية قشور , أو عكازات لغوية إو إطالات يبتعد فيها الشعر عن جوهره , لتعود , شذرات في جسد القصيدة تتناثر هنا وهناك , لا يفعل الحطاب ذلك , بل هو كما قلنا يصطاد اللؤلؤ من بين أكداس القواقع التي يجدها على شاطيء اللغة , وهو بذلك , وليسمح لي العاملون في حقل تجربة “قصيدة الشعر” إنه يكتب نموذجا ممتازا لهذا اللون , دون الافصاح عن التسمية , فالشعر عنده هو الأساس,
 تأملوا معي هذه اللؤلؤة :
حبّة دمع واحدة
من عين أمّ …
كافية لتعقيم الملائكة
…………………………
أو …..
يرسب أولادنا في الدرس
…. لا يعرفون إعراب المفخخات أو …
….أيتها المرأة
لا ترمي القشّة التي كنستها من ساحة التحرير
فهي من ذرّيتي …
…………………..
أو …
….. لن نعيدك للمحارة أيتها اللؤلؤة
فلا وريث لأفراحنا
…………………………….
استميح الشاعر المبدع جواد الحطّاب , عذرا ً فأرسم صورة له , أتخيّله فيها , متعلّقا ً بنصب الحرية , متأملا إياه بعمق , لينزل بعدها , ويدير ظهره للأشكال المرسومة , ثم يمضي متسكعا ً في المدينة , مرة ً في آفاقها , وأخرى في عمقها , ليأخذ صوره من حياة بغداد وعشّاقها وفقرائها ومتسوليها وضحاياها وطقوس المحنة فيها , فيما يحمل بذهنه رابطا فنيا يذكّره بمخفيات الفنان الراحل جواد سليم وماوراء أشكاله المجسّدة , وهذا هو أهم سرّ في نجاح تجربة جواد الحطاب في محاورة مغزى النصب , وليس ظاهره , يقول الحطّاب :
 يا رجال اليافطات
نظّموا سير اللغة
وابعدوا (الإشارات)
عن حرفها السرّي ّ
….فالنص في الشارع للمرة الأولى
أعطوا “المارشات” مخالفة البراءة
ودعوا الغناء يمر
فالدرب طويل
من الروبوت إلى شقائق النعمان
المزيد من الألوان
المزيد من الثانية ظهرا ً
لئلا تنمو على النايات
ساعات حظر الليل
………………………
هكذا إذن , عين ٌ في أقصى السماء , وعين ٌ أخرى في القاع , هكذا يتلمّس الشعر , لغة الواقع وإيحاءها الجمالي والفكري , بصياغة , تمتزج فيها فصول المهارة والحذق والموهبة , لتخرج لحظة شعريّة متكاملة , قريبة من الذهن والقلب وحتى الحلم .
4
ركام ٌ من الرؤى والأسئلة الشائكة , لخّصتها لأليء الحطاب , فأعطت إشاراتها , لتفتح أبوابا ً للتأويل والاحالة إلى ضروب الحياة الراهنة المعقدة في الحياة , فنصب الحرية , في مركز الألم ., صوره وإيقاعاته المتحولة دائما , تصغي لنبض قلب بغداد , مكانا ً وأبعادا دلالية , طالما اجتذبت شعراء وعشاق , جنونهم أبهى من رجاحة العقل , ومن هنا رمى الفنان الراحل فائق حسن سهام رؤاه , فأنجز جداريته , مقابلة لجدارية جواد سليم , ومنها أطلق الشاعر الكبير سعدي يوسف قصيدته الخالدة “تحت جدارية فائق حسن” ليقابلها بعد أكثر من عشرين عاما الشاعر المبدع عدنان الصائغ , فيغني” انتظريني تحت نصب الحرية” ..وهكذا علقت القصائد والأغنيات والرسائل بين طرفي حديقة الأمة , وهي تتنقل في أرجوحة ضخمة منسوجة من حلم , وضعت , بين نصبين خالدين , ليأتي جواد الحطاب ويصعد بها محلّقا ً في الأعالي , وليرى من علوّه أشياء وأمكنة ونساء ….
جزء من حركة الناس ….
(دكاكين الأغاني
الازدحامات
المعارك الصغيرة) …
– من مكمنها
تسمع ما تتهامس به
مكتبات شارع السعدون
وتخوض في الكتب التي تستنبط الوردة
من أثلام علي الوردي
جاءتها النداءات , من كورس مجهول
فنهضت ….
مغنّيا ً عليها –
لأيّة أشرعة تناهى عمودها الفقريّ ؟
…ويرى الحطّاب ما لا تراه العين العاديّة , يرى من خلال , اللعب في اللغة والكلمات ونسج الصور التي تنطق بالدهشة : صحراء ….صحراء …صح ….لاااااااااااااااا…. , تبدو المفردة عابرة , أو مصطنعة , لكنها في الحقيقة , ريشة منتزعة من جناح طائر ٍ خرافيّ , سقطت هذه الريشة , على موجة من أمواج دجلة الهاديء , لتعطي معناها , مكتنزا , مقاما ً على اعتبار دلالات , نفسية واجتماعية وجمالية , تتعدد وجوهها , لأنها تفضي إلى بوح خاص : سيّان كلّ الطرق مادامت العربات ..
لن تغيّر حدوات جيادها , في باب كلواذا …
……………………………………………………….
إذن , يجب أن تكون لجواد الحطّاب قراءة خاصة , أولى مميزاتها , الحذق والمحبة , وقوة البصيرة , وأيضا الانصات للمفاجأة التي تحدثها سورات اللغة في مسار النص , أو جسد القصيدة , وبذلك يكون الشاعر المتواري جماليا خلف : الدم : اندحار الكلام
أشرطة ٌ صفر
وخطوط طباشير
على أرصفة العصر
……..
…….
توقّف الديك المعدنيّ عن الدوران
فوق بناية “القشلة”
….أجلس عند مفترق الهتافات
تحيط بي النوارس
وتصنع لي الأمواج
حساء ً باردا ً
من خشب وغرقى
* لا تقولوا وداعا ً للتماثيل
و لا تندبوا الزقورات
ثلاثا ً ستنبعث بغداد
ثلاثا ً ..
ستنبعث …..
…..
حين يكون لا مجد في الانتصار
عليكم
احترام
الهزيمة .
بهذا يختم الحطاب رؤيته ورؤاه , وهو ينسج مشهدا حالما لا يخلو من طرافة وفزع معا , ويشير إلى كلام كثير يتجلى فيه الأمل والتحدي , وقسوة الواقع والحلم , مجدا , للحطاب في تجربته الناجحة , ومجدا للابداع العراقي المتجدد . وأختتم أنا قراءتي المتواضعة له فأستعير هنا ما قاله أدونيس في شعر الشاعر السويدي توماس ترانسترومر لأنه ينطبق تماما على شعر الحطاب ,.” المجاز ُ مقترنا ً بالإيجاز , والحداثة ُ , موصــــــــــولة ً بالكلاسيكيّة , والغريب ُ , نابعا ً من الأليف : تلك هي ثنائيات في شعره , أعدّها مفاتيح أساسيّة للدخول إلى عالمه الشعريّ , وللإحاطة به . فقلّما اجتمع الايجاز والمجاز عنـــــــد شاعر ٍ كما يجتمعان عنده . وقلّما نرى هذا الإقتران العضويّ بين التأصل في الصرامة الكلاسيكية , والانفتاح الأصيل على لغــــة الحداثة , رؤية ً وكتابة ً , كما نرى في شعره , وفي هذا كلّه , يبدو الأليف غريبا ً كأنه يُخْلق ُ  للمرة الأولى , ويبــــدو الغريب ُ أليفا ً , كما لو أنّه ُ يُوْلد ُ أمـــــــــام أعيننا , وبين أحضاننا “

أحدث المقالات

أحدث المقالات