عاش العراق منذ الانقلاب على الملكية في تموز 1958 وحتى إسقاط نظام الرئيس صدام حسين وحزبه من قبل التحالف الدولي في نيسان 2003، نظاما شموليا وان اختلفت التسميات والإكسسوارات من مجلس السيادة إلى الاتحاد الاشتراكي إلى المجلس الوطني العراقي وصولا إلى برلمان العشائر والأحزاب الدينية والمذهبية، ولم تختلف الأنظمة في جمهوريات الزعيم والعوارف والبعثيين عن بعضها إلا بسمات رمزية لم تؤثر على النهج العام للنظام الذي استمر حتى يومنا هذا بوتائر ترتفع تارة وتهبط تارة أخرى.
لقد ظن العراقيون إن الغرب وبقيادة الولايات المتحدة سيعينونهم على إحداث تغييرات جذرية في البنية السياسية والاجتماعية والثقافية بعد إزالتهم لهيكل إدارة صدام حسين وأجهزته القمعية، لكن ما حدث خلال السنوات التي تلت 2003 أكدت إن تلك الظنون ما هي إلا اضغاف أحلام متهرئة، فبعد ثلاث دورات برلمانية مارس خلالها العراقيون انتخابات يفترض أنها اختلفت عن انتخابات حزب البعث ومن سبقه في حكم بلاد الرافدين، أنتجت لنا دولة تم تصنيفها من ناحية اللصوصية بأنها دولة فاسدة بامتياز، حسب مؤشر مدركات الفساد لعام 2017 لمنظمة الشفافية الدولية الذي أظهر إن خمسة بلدان عربية هي الأكثر فسادا في العالم وهي العراق والصومال وسوريا واليمن والسودان، والأكثر فسادا تعني إن غالبية مؤسسات الدولة وسلطاتها الثلاث ينخر فيها الفساد وخاصة الفساد المالي الذي ينتجه فساد التربية والأخلاق، بمعنى إن الذين أنتجوا السلطة التنفيذية بشقيها رئاسة الوزراء والجمهورية هم منبع هذا الفساد، والغريب إن كل شرائح الشعب تتهم البرلمان وأعضائه وأحزابه وسلطاته التي أنتجها باللصوصية، ورغم ذلك وبعد أسابيع قليلة يبدأ ماراثون الانتخابات العراقية الرابعة بمشاركة الآلاف من مرشحي الأحزاب والمستقلين والعشائر والأديان والمذاهب والتكتلات والشركات، للوصول إلى مجلس إدارة بنك البرلمان العراقي، في بلاد تغص بالفساد والمفسدين، وتشتت الانتماء وتمزق أنسجة المواطنة لحساب دشاديش العشائر والمذاهب، تتبارى فيها منذ الآن جوقات وكروبات جديدة من احدث موديلات مساحي الجوخ الانتهازيين والمتملقين جامعي أموال الرشاوي والسحت الحرام، بالتعاون مع بعض المسؤولين المتمرسين بالفساد والإفساد، من اجل تولي مناصب المشهد السياسي القادم، بدعم من مفاصل مهمة في الحكومة وغيرها ممن يمتلكون مفاتيح السلطة والمال.
إن ما يجري الآن ومنذ سنوات عجاف يدفع إلى الرأي العام أسئلة مريرة، تدور دوما حول خيارات الناخب وقراءاته لحقيقة ما يحدث ومنذ 2005 مقارنة مع واقع الحال اليوم، ووعود أولئك الذين منحهم صوته على أنغام التدليس والرشاوى وولائم السحت الحرام، واكتشف أنهم أصلا بحاجة ماسة إلى تأهيل تربوي واجتماعي وأخلاقي، أسئلة تتعلق بشخص الناخب وتأهيله وسلوكه وثقافته، وهل هو فعلا بمستوى اختيار الأفضل لخدمة البلاد وتمثيل الشعب في البرلمان؟
هذا الناخب الخارج من سرداب الشمولية المسجون فيه منذ عشرات أو ربما مئات السنين في ظل ثقافة الاوحدية التي تحدد الانتماء للعشيرة والشيخ، أو للقرية والمدينة، أو للدين والمذهب، بعيدا عن مفهوم الوطن والشعب في مجتمعات أدمنت النظام الشمولي، وعشقت حتى الوله الفارس المقدام والقائد الملهم، ولا يمكن أن تتحول إلى النظام الديمقراطي بين ليلة وضحاها، كما لا يمكن لها أن تستوعب رئيسا لبلادها كموظف من الموظفين على الطريقة الأوربية، بل إن كل ذلك يتناقض كليا مع نهجها وتربيتها وسلوكياتها الاجتماعية والدينية التي تفرض نظاما شموليا صارما من البيت إلى المدرسة إلى الجامع.
ما يحصل اليوم وغدا في لعبة المارثون الديمقراطي المشوه للتسلط، لا يتجاوز الإكسسوارات التجميلية لشكل النظام البديل، الذي تم تأسيسه إثر نجاح العملية الجراحية التي استأصلت حزب البعث ورئيسه من هيكل السلطة، حيث حافظ النظام الجديد على معظم الأنشطة الحيوية والسلوكية للأنظمة السابقة، بل تجاوزها بامتياز، ولذلك لا أمل منظور في أي نتيجة مختلفة عما سبق منذ 2005 ولحد اليوم، إلا اللهم مزيدا من الفساد ومزيدا من أفواج السراق وأجيال مطورة من الدكتاتوريين الجدد.
ترى هل الديمقراطية صناديق اقتراع أم تربية وأخلاق، وإن كل ما جرى كان مسخا وسلما لارتقاء الفاسدين والانتهازيين والفاشلين من السياسيين ورجال الدين!؟