قبل مدة .. وضمن الرسائل البريدية التي تصل بشكل عشوائي الى العديد من المشتركين على شبكة ياهو، وصلتني دعوة – ليست لي بالطبع- بل موجهة الى شخص يطلب منه تعميمها الى عدد من المنظمات الحكومية والشخصيات المهتمة بالأمر. أما موضوع الدعوة فهو يتحدث عن التعاون مع معهد اكيودي الذي تم تعريفه باختصار على انه (مؤسسة دولية تتبنى برامج لمكافحة الخوف وازلة مجالات الخوف والتهديد عن حياة الانسان اينما كان). ويعمل هذا المعهد تحت شعار (شارك بالعمل من خلال اجتثاث عناصر التهديد والخوف للناس المحيطين بك).
أحد الزملاء وصف هذه الدعوة على انها (تقليعة) جديدة من تقليعات منظمات المجتمع المدني التي تبدو كأنها عالجت كل المشاكل والاخفاقات على الساحة العراقية فأوفت التزاماتها فيما يخص مساعدة الارامل والايتام وتطبيق مبادئ حقوق الانسان ومحو الامية وغيرها من المشاريع التي تعمل عليها هذه المنظمات منذ نشأتها، فجاءت مكافحة الخوف ك(تقليعة) كما وصفها الزميل.
وقبل أيام أيضا، همس لي زميل يحذرني من الحديث بسوء عن رئيس الوزراء أو الرموز الدينية مدعيا أن من يفعل ذلك (يذبوه جوه)، جملة عادت بي الى الوراء حينما كان الخوف رفيقا لكل منا، فلم يكن أحد يتجرأ على قول أو فعل أي شئ يمس السلطة الحاكمة لانهم (يذبوه جوه).
وقبل يومين أيضا، ارتبكت جارتي عندما اقتربت لتحيتها وهي تقود سيارتها، فسارعت الى خفض صوت جهاز التسجيل ثم استبدلت قرص الاغاني بآخر فيه سور من القرآن الكريم، فنحن في شهر محرم –كما قالت- وأخاف ان يسمع أحد ما أغاني في السيارة.
بشكل غير محسوس، تسلل مارد الخوف الى النفوس لينهي نزهة قصيرة قامت بها الحرية لبضعة سنوات في بلد لم يفلت بعد من قبضة هذا المارد. هي نفس ملامح الخوف التي تغير خارطة الوجوه عند مرآى شرطي او أحد أفراد الجيش او شرطي مرور او موظف استعلامات في وزارة او حتى حارس أمن على باب مدرسة.
نهض المارد ثانية مذ اقفرت ساحة الفردوس، وجثمت سيارات الجيش والشرطة تحت نصب الحرية وصارت التظاهرات تخضع لتراخيص الحكومة. ربما لم يتسلل او ينهض بل انه لم يرحل أصلا!! فنحن نرضع كلمة (أخاف) مع حليب امهاتنا : الكل يخاف من الكل.. الطفل يخاف والده وان لم يكن الوالد (يخوف) تستعين الام بالخال او العم لاخافته في حال فقدت سيطرتها عليه. والطالب يخاف المعلم، وان لم يكن المعلم (يخوف) يستعين بالمدير لمعاقبة التلاميذ، ولو كان ذلك بالعصي. والزوجة تخاف الزوج، وإن لم يكن الزوج يخوف (يخرب البيت). وساسة البلد، ومن منطلق (أمام اللي ميشور محد يزوره)، ادركوا انه حتى الديمقراطية يجب ان (تخوف) والا (فلت) الشعب وصار يتدخل في كل صغيرة وكبيرة. وبما ان حليبنا ممتزج بالخوف ككل البضائع.. اتخذت احداث الساحة السياسية الجسام من نشرات الاخبار سكنا لها، وتوقف الحديث حتى عن مشاكل الكهرباء والخدمات والمفارز والحواجز ولحوم الحمير وانهيار التعليم والبطالة. ما زالت نظرات الريبة والشك تحاصر أي نقاش بين سني وشيعي، مسيحي ومسلم، وكردي وعربي، بل حتى بين ابناء الطائفة الواحدة على اختلاف ولاءاتهم، فهناك خلف كل مجموعة توجد اكداس عتاد وحمايات ومجاميع مسلحة وفرق موت ومقرات بسجون خلفية.
ما نحتاجه لمكافحة الخوف لن يوفره ألف معهد اكيودي او مليون منظمة، ولا يمكن ان يكون مجرد (تقليعة)، بل ثورة في داخل كل منا لبناء الانسان الذي يقول كلمة حرة دون ان يشعر بالخوف.