1 – الرقي إلى الجلجلة
الحديث عن الاعلام كالحديث عن الخليقة … هو أمرٌ يسيسر لمن استيسرهُ وهو أمرٌ عسر لمن استعسرهُ… لكن المهم في الأمر أن الحديث عن الاعلام ليسَ مستحيلاً ولكن هو ممكن حين ترتبط النتيجة بالسبب والهدف من الخطة .
يقولونَ إنه عصر الاعلام ونقول لهم إنه عصر العلم… ونفرٌ ثالث يقول : إنه عصر الهندسة الوراثية… ولا أحد يستطيع التحكيم بين فريقٍ وفريق لأن الاعلام هو كل شيء… هو المعلومة وهو العلمية وهو المنطق وهو الايصال… اذاً الاعلام لا يستثني شيئاً واذا كان المبدعُ العربيُ مخلوقاً مبتكراً فإن عليه وهو يبتكر نصوصه أن يبتكرَ وسائط إيصال النصوص إلى قلوب الناس وعقولهم بحيث يظنُ الظان أن هذا النص المبتكر مهمٌ ومبهجٌ وجميل…الابتدائية التي درستُ فيها طفلاً وصبياً اسمها الملك الناصر تقعُ على سفح جبلِ قاسيون المطل على دمشق الشام في منطقة تسمى الصالحية… كنت أنظر في وجه معلمي منبهراً فهو عندي النافذة التي أطل منها على العالم وكان نزار الأسود وهو أول معلمٍ في حياتي أعجب به… ولأكتشف في الأخير أن اعجابي به كان غفلةً كان هذا الرجل الذاكرة ينوء بأعباء لم نكن نلتفت إليها وقتها مثل أعباء العائلة والوطن وإكمال الدراسة وتربية جيل من الأطفال كل ذلك أدركته بعد أن أعطوني الشهادة الابتدائية والغريب أنني مازلتُ وسأظل أحن إلى وجهن نزار الأسود وهموم نزار الأسود يوم كانت الدنيا بسيطةٌ مثلَ ينبوعٍ دمشقيٍ صاف والغريب أنني كلما دخلتُ مرحلةً دراسية أو معرفية وتخرجت منها أتذكر معلمي وبالرغبة الكبيرة للبكاء فهو معلمٌ بملامحِ أب ووطنٌ بملامحِ مواطن.
ولا أدري حقيقةً كم مضى من الوقت بين أول درسٍ ابتدائي تلقيته من معلمي نزار الاسود وأخر درسٍ أكاديمي تلقيتهُ من أستاذي الدكتور منتصر القدسي ولكن الذي أعرفهُ كما أعرف نفسي أن المبدع أو المثقف لا يمكن له أن يتواصل مع الجمهور بمعزل عن الاعلام وإذا كنت أنا كاتب هذه الحروف قد دخلتُ التجربة فإن دخولي ليس معناه أنني فطمتُ من المرحلة الممتدة بين المعلم نزار الأسود وبين الأكاديمي منتصر القدسي فكلما تعمقتُ في التجربة كلما شعرتُ انني بحاجة إلى زمن وعمر اضافيين كي أصل إلى المستوى اللائق من التجربة وكم رددتُ في داخلي مقولة شيخ النحويين الكسائي الكوفي التي كان يرددها (يموت الكسائي وفي نفسهِ شيئٌ من حتى )فإذا كان الكسائي العظيم يموت وهو غير واثق أنه اتقن النحو بل أتقن ( حتى ) فكيف لأحدٍ منا أن يدعي العلمَ بما لا تستطعه الأوائل فكلما تعمقَ الفنان في التجربة تعمقَ احساسه الفادح بالحاجة إلى المزيد وهناك أمور لم يتحدث عنها الاعلام بشكلٍ منفرد ولكنها جائت بسياقٍ مختلط مثلاً :
أنا الفقير الى الله كونت لي جمهوراً على بساطته في سوريةيؤشر همومي الحياتية والثقافية معاً وكان يمكن أن أستمرَ ويستمرُ معي جمهوري ولكنَ قدراً كبيراً حلَ على دمشق أو بمعنى أخر حل على زكي إبراهيم الحمصي فوجد نفسهُ بعد هذه التجربة خارجَ حدودِ الوطن محاصراً بمئات المواطنين عزاب و متزوجين وإذا كنت في بلدي الشام أبحثُ عن النص الجميل والوجهُ الجميل والجمهور الجميل في حالةٍ من الطمأنية فإنني وأنا خارج حدود الوطن صرتُ أبحث عن اللقمة النظيفة والكلمةِ الصادقةوالموطن الآمن ولا أدري كم ضيعتُ من عمري وتجربتي بينَ الدقائق التي أحاططت صرختي الأولى وأنا أواجه الحياة وصرختي الثانية وأنا أغادر بلدي ثم جاءَ زمنٌ أخر زمنٌ وجدتني فيه عربياً يتستكع في الولايات المتحدة الأمريكية وفماً انتقلَ همهُ من البحث عن النص إلى البحث عن لقمةِ العيش ومن البحثِ عن الجمهور المتعاطف المتضامن إلى الجمهور الذي يبحثُ مثلي عن لقمةِ العيش وفرصةِ الاقامة وما إلى ذلك.
والسؤال هل خرجتُ أنا كاتب هذه الحروف عن النص وعن العنوان ام مازلتُ واضحاً بينهما ؟
قلتُ في أولِ هذه المقالة أن الاعلام هو كل شيئ ولذلك فأنا مازلتُ داخلَ النص كيفَ لفنانٍ قادمٍ من الشام أنتقلَ همهُ من النص المسرحي أو الفني إلى السكن الواقعي ؟
كيفَ لمثلي أن تستقرَ روحهُ وهو يحلُ في أمريكا حيث المدن الاعلامية الكبيرة مثل مدينة هوليود العملاقة المسرح والسينما والتلفزيون ومثل ناشفيل اللوحة التشكيلية والنوادي الليلة والموسيقى الصداحة ومثل سيدر بوينت مدنٌ مخصصة للمرح البريئ العائلي والطفولي ومثل لاس فيجاس المسرح الليلي والخامة البشرية وعروض الأزياء والأجساد والأموال والقمار …..الخ
فمثلي لا يستطيع ان يعدد المدن المخصصة بإستجذاب الجمهور فكيف لي أن أحدد أعتقد أنني أحتاج إلى سنواتٍ أضافية كي أزور معالم وتركات اناس قدموا للحياة الكثير والكثير مثل مدينة هنري فورد و عزبة ارنيست همني غواي ومدينة والت دزني اذاً أحتاجُ من الاعلام شيئاً من صبره ويحتاج مني الاعلام شيئاً من عمري وفي كلا الحالتين لا استطيع التواصل مع جمهوري الجديد بغيرهما.
2 – الشام في مهب الريح
وطئت قدماي تراب الأردن الشقيق في الساعة الخامسة مساءً من يوم االسبت 5 فبروري 2012 ولم تكن الرمثا الأردنية وهي منطقة حدودية المكان الأول الذي احتضنني وكان علي أن اقول إنني غادرت بلدي الشام باتجاه تركيا التي وصلتها يوم 29/01/ 2012 جنوري بمعنى ثان ان التراب التركي كان أول تراب غير سوري اتخطاه بعد الغربة كنت في تركيا غريب الوجه واليد واللسان فمن الطبيعي جداً أن لا تسمع في تركيا صوتاً عربياً إلا ما ندر بقيت في تركيا خمسة أيام وكان هاجس الاعودة إلى الشام يخيفني فأنا سمكة لا تعيش إلا في مياهها لكن للزمان أحكامه في تغيير خارطة المكان خمسة أيام في تركيا هي خمس سنوات إن لم أقل خمسة قرون وفي تركيا علمتُ من خلال الاصدقاء ان اسمي لم ينزل في المنع بعد فاستثمرتُ تلك المعلومة لأعود إلى الشام ثانيةً وهناك بقيتُ يوم الجمعة لأنطلقَ من الشام صوبَ الأردن وفي الأردن فقط علمتُ أن اسمي قد نزلَ في المنع فحمدتُ الله أني وصلتُ قبلَ المنع .
وفي الأردن التي بقيتُ فيها ستة شهور تعرفتُ على فنانين أردنين وسوريين وصرنا نلتقي بوقتٍ معلوم لكي نقتلَ الغربةَ في دواخينا الغربةُ الغربةُ هل هي قدرٌ مكتوبٌ على العربِ فقط أم أنها حالة إرتادية لا تخيفُ أحداً أما الأغترابُ فهو الاحساس الفادح بتغير الزمكان فالعربيُ مكتوبٌ عليه ممارسة الاغتراب في كلِ شيء الاغتراب داخل الوطن والاغتراب خارجهُ بحيث يمكننا القول أن الاغترابَ داخل الوطن هو الموت دون رصاصة رحمة كنا مغتربين ومازلنا في الوطنِ وخارجهِ لكن الغربة تجربةٌ جديدةٌ علينا فنحن لم نكن لنتركَ بلادنا مهما ساءت الظروف حتى أن مجرد المقارنة بينَ الغربةِ والاغتراب هو ضربٌ من العبث والرفاهية الفكرية الأردن بلدٌ مضياف يسكنه الأردني كما يسكنه العراقي كما المصري كما الفلسطيني كما السوري ولكنَ الشعب الأردني شعبٌ طيب والشوارع الأردنية نظيفة بل وأن التقارب بين لهجات الاردن والشام وفلسطين يذوبَ الفوارق بينَ هؤلاء وهؤلاء إن مثلي من تركَ بلاداً جميلة كجمال بلدي وشعباً طيباً كأبناء بلدي لا يمكنُ أن يستقرَ له حال وكنا نحن الشاميين نلتقي ونخطط لمستقبلٍ مجهول فأي بدٍ في العالم يقبلنا وظاهرة الهجرة ظاهرة عالمية ويومية كان علي أن انتظر ولا شيء أمامي غير الانتظار وبما انني فنان وإعلامي فقد كانت عينايي تلتقطان مشاهد معبرة عن الأردن مثل فتاة الأستوديو: المشيُ والتجوال رياضتان أحببتهما ونشأتُ عليهما ولا أدري كم كنت أقطع باليوم بالشوارع بالساعات والكيلو مترات وحينَ أجوع فثمت مطاعم منتشرة في جل الشوارع الأردنية وحينَ أدوخ فما أكثرَ الشاي والقهوة والعصائر في الأردن وأعترفُ أن الأيام في الأردن كانت متشابهةً بالنسبةِ لي اللهم إلا يوم من الأيام أسمه الخميس ومكان أسمه استوديو روزيتا غيرا حياتي وقناعاتي فاستديو روزيتا كان واسعاً بحيث يستوعب الفنانين والفنانات من كل الأقطار هناكَ تحديداً تعرفتُ عليها فأكتشفتُ أنها قارةٌ جديدة في حياتي ورشحتها في داخلي لتكونَ الأميرة .
ولكن بي رغبة إلى الصراخ كيف ستكون الأميرة وأنا خارجٌ للتو من محرقة !!!
أنا خارج للتو من بلدي مقيم للتو في بلد عربي أخر فماذا أفعل في نفسي وكيف لي أن أهاجر الشام روحاً وجسداً جسدي خارج الشام وتحديداً في الأردن لكن روحي باقية حيثُ بلدي حيث المياه الجارية والينابيع والوجوه الحلوة والأغاني التراثية وحيث أمي !! أمي وطني أمي زمني أمي روحي أمي أنا وماذا بعد ثمة ابنتي (راما) تسد علي المنافذ الكونية فلا أرى سواها ولا أشم غيرها ولا أسمع إلا صوتها راما أين أنت الأن وما هي معلوماتك عن باباكِ!
إذا ماما وراما والشام وأنا قارات متلاصقة من الأسفل متباعدة من الأعلى والسؤال كيف لمثلي ان يتخلص من قلق الهواجس كيف لمثلي أن يؤسس طقوساً جديدة ترضيه وترضي الأخرين كيف لمثلي أن يستغل وقع الفراغ في الكلام والموسيقى واللوحة والأفق والورق لابد أن أستغل الفراغ في كل شيء وإلا فأنا مهدد حقيقة بأن أنضم إلى الفراغ أنا زكي وأبي إبراهيم وأمي انصاف أنا أنسى همومي الوطنية والحضارية والفنية وأبحث عن الرغيف والمئوى وأهرب من شبح التهجير والتسفير أيها القارئ الكريم كن معي مشاركً ولا تكن معي متفرجاً فأختر لي موضوعات الحلقة الثالثة فهي الأصعب بين الحلقات لأنها ستعالجني ريشةً في مهب الريح .