كنت والى عهد قريب اتسائل لماذا لايثور او ينتفض الشعب العراقي ازاء
كل هذا الذي يجري عليه من فساد وفقر وقهر وافتقار لابسط الخدمات الانسانية ، وانتشار العنف في كل مناطق العراق تقريبا . ورغم ان اعدادا غير قليلة من المتعلمين والمثقفين وعمال واعين يخرجون بمظاهرات احتجاجية الا انها لاتلبث ان تخفت ويعودون ادراجهم
ان الانتفاضة فعل جمعي يقوم به الشعب عند شعوره بالظلم او المهانة . والشعب العراقي من الشعوب الحية التي لاتقبل باقل من العدالة والانسانية ، ولاينام على ضيم . وازاء ذلك فانني توقفت كثيرا لمعرفة اسباب رضوخ العراقيين وخنوعهم في هذه المرحلة الحرجة من حياتهم
وقد وجدت ان ذلك يعود الى اسباب عديدة لعل اهمها الاتي :٠
اضعاف الولاء الوطني
ان اول عمل قامت به قوات الاحتلال الامريكي للعراق هو تشكيل مجلس حكم يقوم على التقسيم الطائفي والقومي المزدوج . ويبدو ان التقسيم الطائفي لم يكن مجديا لوحده فتم الحاقه بتقسيم قومي ايضا في تشكيلة موزائيكية لاتشبه اي تقسيم منطقي . وتم تعزيز التقسيم هذا من خلال الدستور الذي اعتبر العراق مجرد مكونات . اي نفى عنه صفة الشعب الواحد وهذه اول واخطر مؤامرة جرت على الشعب العراقي . وقد استغلت الاحزاب الحاكمة هذا التقسيم فعمقته لتحصل على اكبر عدد ممكن من الاصوات بالانتخابات من خلال التحريض والاصطفاف الطائفي
فتم بذلك احلال الانتماء الطائفي محل الولاء الوطني . واستفادت من ذلك كل الاحزاب والتكتلات المشاركة في الحكم . ان غياب المشاعر الوطنية يعد من اهم الاسباب التي تبعد الشعب العراقي عن الثورة او الانتفاضة ضد حكامه المتخلفين والفاسدين ٠
شيوع عدم الثقة بالاخرين
ان هذا التقسيم الطائفي والقومي الهجين قد تسبب في انكار الاخر
وعدم الاعتراف بالتعايش المجتمعي ، وقد ادى ذلك الى تشكيك كل طرف بالاطراف الاخرى . لابل معاداته . واختلفت الاراء كثيرا حتى على الحد الادنى من الاسس التي كانت محل اعتراف الجميع بثوابت متفق عليها كمسلمات غير قابلة للنقاش . فحل التشكيك بالاخرين محل الثقة المتبادلة . وانتشر الخلاف حتى بين اوساط كثير من المثقفين ، مما ادى الى انقسام المجتمع ، وغض النظر عن المشتركات التي كانت تجمعهم ٠
احلال المفاهيم الدينية الزائفة
قامت الاحزاب والتكتلات الحاكمة باحلال الطقوس والدعوات الطائفية
البالية محل القيم الدينية العليا ، والرأي العلمي والتفكير المنطقي ، وانتشرت الخرافات والاحاديث الطائفية في كل مرفق من مرافق المجتمع ، بل اصبحت احيانا هي الشغل الشاغل لكثير من الافراد . وبنظرة واحدة الى وسائل التواصل الاجتماعي من الفيسبوك والواتساب وغيرها نجد التعصب ، والخلط الواضح بين الدين والعلم . بل اصبح العلم مشبوها وغير معترف به اذا لم تؤيده مقولة دينية زائفة قديمة او حديثة . وتعطل العقل وتم الاعتماد على مراجع دينية بعضها غير معتمدة اصلا . وتم احلال هذه المفاهيم محل الشروط الاساسية للحياة ، كما ضعف الشعور الجمعي بشكل عام تجاه الفقر والامية والحرمان من ابسط الخدمات الاساسية ولم يعد الناس يهتمون بما وصل اليه المجتمع من خراب ثقافي او علمي عدا قلة من المتخصصين . حتى الفنون بكل اشكالها اضمحلت ولم يعد احد يكترث بها او يتابعها الا الفنانين والمثقفين الحقيقيين . فتم صرف انتباه الناس عن مشاكلهم الحيوية واحتياجاتهم الانسانية الى الانشغال بالتعصب الديني والمذهبي المقيت
اشاعة الانانية واللامبالاة
نتيجة لممارسات كثير من المسؤولين في تفضيل مصالحهم الشخصية
على حساب المصلحة العامة ، نجد بعض فئات المجتمع تنحى الى نفس هذا السلوك ، ولذلك نجد ان بعض المظاهرات والاحتجاجات تقتصر على الفئات المتضررة فقط . مثل تأخر الرواتب او الفصل التعسفي ، وغيرها من المصالح الضيقة . وما ان يتم تلبية بعض مطاليبهم حتى تنتهي المظاهرات ويعودون الى السكينة والهدوء . ونجد ذلك ايضا في مظاهرات الكهرباء التي تنطلق الجموع في اوقات القيض . وما ان يتم تزويدهم بسويعات من الكهرباء حتى ينتهي الغضب ويعود المتظاهرين الى دورهم غير مبالين باخوان لهم في نفس المنطقة او مناطق اخرى مازالوا محرومين منها . . كما ان المال قد اصبح قيمة شخصية عليا لدى بعض الناس ومهما كان مصدره ، بمافيه المال الحرام . ولاتبالي هذه الفئة من الناس بالفقراء ومعدومي الدخل لتراجع المسؤولية الجماعية . وضعف الحس الانساني ٠
ترويض الشعب وتحطيم نفسيته
بدأت مهمة الترويض او التدجين هذه بعمليات الاختطاف والقتل على
الهوية . وكسر ارادة المواطن باعمال العنف المفرط والعقوبات الجماعية لمناطق متعددة والزج بكثير من الابرياء بالسجون لاسباب واهية وعمليات التعذيب الواسعة . اضافة الى قتل الصحفيين والاطباء امام اعين الناس جهارا نهارا . ونشر البطالة والمخدرات . . وتم استغلال مشاعر الخوف والقلق لسلب ارادة الانسان العراقي البسيط والسيطرة عليه بعد تحطيم نفسيته بحرب نفسية ممنهجة ومدروسة . هذا الانسان الذي كان لايسكت على ضيم وينتفض لجاره ولكل شخص مظلوم . ويصون حرمات الحرائر اصبح خائفا مسلوب الارادة يخضع للتهديد ويصدق كل مايقال له او اي اشاعة دون ان يفكر بمصدرها او الغرض منها ٠
العودة الى السلطة العشائرية
بدلا من ان يتم تمدن الريف انتقلت بعض المفاهيم البدوية والريفية الى المدن . حيث ان ضعف الدولة قد ساهم في العودة الى العشائر وتبني القيم الريفية . ان هذه القيم قد سلبت من المواطن حرية التفكير والارادة واخضعته لسلطة شيخ العشيرة او رجل الدين بحيث لايستطيع القيام باي عمل قبل موافقتهم او بامر منهم . واذا كان رئيس العشيرة او رجل الدين مرتبط بحزب او تكتل حكومي او مستفيد منه ، فانه سوف يكبح جماح اي تمرد او اعتراض على الحكومة . فتم اسكات الاصوات الحرة المنادية بالاصلاح الحقيقي ٠
انحسار دور المرأة
بالرغم من تخصيص كوته للمرأة في مجلس النواب العراقي الا ان غالبية
الاحزاب الدينية المشاركة في الحكم قد عملت باتجاه تقليل دور المراة في الادارة والمجتمع ، ويتبدى ذلك من الاحصائيات التي تثبت ازدياد معدلات الامية الى نسب عالية تتجاوز التسعين بالمئة . اضافة الى ارتفاع نسب الجرائم تجاه المرأة واضطهادها والنظرة الدونية لها مما سهل الاعتداء عليها بالضرب او الاغتصاب وعدم السماح لها بمزاولة اي نشاط سياسي او اجتماعي . حتى اصبحت ظلا للرجل لاتستطيع العمل او الخروج الا بموافقته او بما يمليه عليها . اضافة الى لبس عباءة مزدوجة مع الحجاب في احيانا كثيرة . . وبذلك تم اعادة المرأة الى فترة العشرينات من القرن الماضي . في حين كانت المرأة شريكة للرجل في ادارة الدولة وفي مختلف النشاطات الاجتماعية والفنية . وكان لها دور مؤثر في الاسرة والمجتمع ٠
الاعلام المضلل
ان انتشار الفضائيات العراقية قد رافقها عمليات تضليل واسعة النطاق
وقد غذى الفساد السياسي والاداري هذه الفضائيات وجعلها توجه المواطن العراقي الى محتوى لايمس واقعه الفعلي . . وتركز على تعميق الخلافات بين شرائح المجتمع المختلفة . وتحريف الاخبار عن طريق استخدام الوسائل المتطورة للاعلام في خداع الناس ونشر الصور والفديوهات الكاذبة . . وبدلا من ان يهتم المواطن بمستواه المعاشي والخدمي اخذ يتحدث بمواضيع متخلفة وخرافات ماانزل الله بها من سلطان كل ذلك من اجل صرف انتباهه عن الفساد المستشري وسوء الادارة وتخريب القطاع الصناعي والزراعي والبطالة ، والهائه عن التفكير بمستقبله ومستقبل اولاده . وتحويل الصراع بينه وبين حكامه الغاصبين الى صراع ديني وطائفي او اثني مع اخوة له في الوطن الواحد
الادعاء بمكافحة الفساد
للتخلص من تهمة الفساد الذي اصبح ظاهرة مخربة لاتقل عن الارهاب
يدعي اغلب السياسيين محاربتهم له والقصاص من المفسدين في مسرحية كوميدية لابعاد التهمة عنهم ولامتصاص نقمة الجماهير التي كثيرا ماتخرج في مظاهرات لمحاسبة الفاسدين . . ولما كان اغلب السياسيين متورطين بالفساد وقسم منهم يديرون مافيات مسلحة لحمايتهم في عمليات السطو على اموال واملاك الدولة . فان هناك حملة يديرها هؤلاء الفاسدون للتبرؤ من هذه التهمة وقطع الطريق على من يحاول اتهامهم بها . من خلال كثرة تصريحاتهم عن مكافحة الفساد حتى اصبح الحديث عنها مملا ولايقدم اي جديد في هذه الظاهرة الخطرة
فقدان القيادة والتنظيم
ان اي انتفاضة او احتجاجات واسعة لابد لها من تنظيم يحدد اهدافها واساليب عملها والتدرج بها صعودا حتى تحقيق المطالب . ان المظاهرات العفوية اذا لم تتمخض عنها قيادة فاعلة وتنظيم تصبح مجرد غضب جماهيري ناتج عن ردة فعل ولايمكن ان تستمر ، واذا ما استمرت دون توجيه وتنظيم دقيق فان المتربصين بها يعملون على تشويه اهدافها لتسهيل ضربها والقضاء عليها حتى لو كانت سلمية . ان من اكبر مشاكل الشعب في الوقت الحاضر هو عدم وجود تنظيم يحدد اهداف التظاهر او الانتفاضة . اضافة الى فقدان القيادة الواعية التي تسطيع ادارة هذه الحركات او التفاوض باسمها لتحقيق طموحات الشعب المشروعة
كل هذه الاسباب ادت الى اضعاف ايمان الشعب بقضيته الوطنية ومبادئه الساميةوقيمه العليا والتشكيك بقدرته على التغيير او المقاومة وزعزعة الامل بالنصر او الخروج من المأزق الذي اوقعوه فيه
مالعمل اذن
لقد ثبت بما لايقبل الشك فشل الاسلام السياسي على مستوى الدولة وعلى المستوى الشعبي وانه فقد مقومات بقائه كما فقد ماكان يدعيه من قدسية مزيفة
ولم تعد اطروحاته النظرية تنطلي الا على الاميين واصحاب الاجندات الطائفية
اننا اذا اردنا الخروج من هذه الفوضى التي وضعونا فيها فان علينا
ايجاد نوع من التنظيم او التجمع ونتفق على الاهداف المطلوبة للعمل من اجلها ومن ثم الضغط على القادة السياسيين باحتجاجات ومضاهرات تتصاعد حتى تحقيق المطاليب او الاهداف المرسومة . وهذه ليست امنيات انما هي ضرورة
يجب على كل المخلصين والوطنيين العمل لانجازها حتى نحقق التغيير المنشود ٠
اننا عندما نتحدث عن المظاهرات والاحتجاجات فاننا لانشجع اعمال العنف
او تخريب مؤسسات الدولة والمجتمع . ولكننا نهدف الى التغيير الجذري بطرق سلمية وانسانية متحضرة لتصحيح مسار العملية السياسية المشوهة لبناء دولة عصرية تليق بالعراق الذي كان مشعلا للحضارة الانسانية على مدى التاريخ كله