19 ديسمبر، 2024 1:55 ص

ما بين الإشتراكية “البائسة” والإشتراكية “الرغيدة”

ما بين الإشتراكية “البائسة” والإشتراكية “الرغيدة”

إنّ المفهوم الدارج لمعنى الإشتراكية وتاريخها ليس وليد المئة سنة الأخيرة من الزمن بل كانت معلومة منذ آلاف السنين وقد أوصى بها الأنبياء والرُسل والمصلحين الإجتماعيين من خلال أقوالهم وحِكَمهم، وحيثُ نبذوا كنز المال والإحجام عن مساعدة الفقراء من قبل الميسورين وروّجوا لمبدأ التكافل الإجتماعي والعدالة الإجتماعية.
لكن “الإشتراكية الثورية” التي أوجدها المنظّرين السياسيين مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تختلف بأهدافها ومفهومها عن ما روّجوا له دعاة الإصلاح المجتمعي منذ آلاف السنين فأصبحت كالكابوس أو كـ (البعبع) لأهم شريحة من شرائح المجتمع التي أطلقوا عليها بالطبقة البرجوازية والتي تنظوي تحت مسمياتها إدارات المصانع الإنتاجية وملاّك القطاع الخاص الذين يديرون إقتصاد البلد ويمتلكون رؤوس الأموال والأهم من كل ذلك يمتلكون العقل الإقتصادي والخبرة الميدانية عن كيفية تنمية رأس المال وتدويره إضافة الى خلقهم للفرص التشغيلية للأيدي العاملة وتركيزهم على الصناعات الإستراتيجية المهمة التي يحتاجها البلد وحيثُ تتوفر من خلالها فرص العمل للملايين من أبناء الشعب مما يساعد بشكلٍ كبيرٍ على رفع العِبْءُ الأعظم عن الدولة لإدارة الشركات المتخصصة والمصانع الإنتاجية وورش العمل في المجالات كافة، وحيثُ أثبتت التجارب الإشتراكية الفاشلة عجز أنظمتها الحكومية المتمثلة بطبقة البروليتاريا وجهلها وعدم مواكبتها وتطويرها لفن “الإدارة الصناعية” كما كان يفعل القطاع الخاص (طبقة البروليتاريا بمعناها المبسّط حسب المفهوم الماركسي: هي الشريحة الإجتماعية الفاقدة لأي إمتيازات والتي ولدت من رحم ممارسات الطبقة الإحتكارية التي إستغلت جهدها العضلي والفكري بأبشع الوسائل والتي أخذت على عاتقها إدارة الدول التي أطلق عليها بالإشتراكية)!!!..
وفن “الإدارة الصناعية” هو موهبة كأي موهبة أخرى قبل أن تُصقل بالدراسة الأكاديمية ولها نفس إستحقاقات وشروط المواهب الأخرى من حيث تعزيزها بالعلم والمعرفة والخبرة، فلا يجوز تعيين كل من هبّ ودب بمجرد أنه حزبي لإدارة هذا الفن ما لم يحمل في داخله علامات موهبته!!!، ولهذا قادت تجربة الدول الإشتراكية الى فشل ما أطلق عليه بـ “رأسمالية الدولة”!!!.
وربما يحاجج المحتجّون والمعترضون على الأنظمة ذات “الإقتصاد الحر” التي ينعتونها بـ “الأنظمة الرأسمالية” على إستغلال فئة قليلة نسبياً من فئات المجتمع التي في يدها رؤوس الأموال للشريحة الأعظم من شرائح المجتمع المتمثلة بشريحة العمال أو ما أطلق عليها البعض بالطبقة العاملة أو الكادحة أو “الشغيلة” ـ ـ الخ من التسميات، لكن أثبتت التجارب الناجحة نسبياً في دول الإقتصاد الحر على إمكانية لجم جشع أصحاب رؤوس الأموال بالقوانين الصارمة التي تحمي العامل الى حدٍ كبير وفي نفس الوقت تنصف رب العمل وتقر التوازن بين الواجبات والحقوق لكلا الطرفين، وما أوردته النظريات الإشتراكية وأدبيات أحزابها ربما كانت تُصلح قبل مئة عام وذلك لوجود مبررات تطبيقها نتيجة الإستغلال الجشع والبشع من قبل أرباب العمل للقوى العاملة دون وجود قوانين رادعة لهم، لكن الأمر إختلف بعد النصف الأول للقرن العشرين مروراً الى بدايات القرن الواحد والعشرين الذي نعيشه الآن.
ومن خلال خبرتي العملية والميدانية التي تجاوزت السبعة والثلاثين عاماً عملت خلالها في ثلاث دول مختلفة في أنظمتها السياسية ما بين جمهوري ثوري وملكي دستوري وليبرالي وكنتً على تماس مباشر بالطبقة العاملة فيها ومنها العشرين عاماً الأخيرة التي قضيتها في بلد من البلدان المصنفة بإقتصادها الحر وتدرجتُ في مختلف الدرجات الوظيفية فيه، وحيثُ تبين لي من أنّ العامل محفوظة حقوقه بنسبة عالية لم أكن أتوقعها وليس كما قرأنا وسمعنا عنها!!!!، لكن الفرق بين نظام “الإقتصاد الحر” عن النظام “الإشتراكي” هو مطالبة العامل بالإنتاج الفعلي المساوي لمقدار أجوره في النظام الأول (الإقتصاد الحر) ومراقبة الهدر الإنتاجي مراقبة جادة من خلال مراقبة أرباب العمل للهدر المتعمد لساعات العمل لأن مصانعهم ومؤسساتهم قد أنشأت على أساس ربحي وإستثماري بالدرجة الأولى!!!.
ولو تعمقنا في البحث عن أي من القوانين في النظامين (الإشتراكي أوالإقتصاد الحر) تنصف العامل أكثر فسنجد دون ريب من أنّ المفاجئة ستكون عكسية!!!، أي بمعنى سيكون الضمان للعامل في نظام الإقتصاد الحر في (زمننا الحالي) أشمل وأكثر رصانة من النظام الإشتراكي فيما لو تصرف العامل بطريقة سوية لضمان مستقبله (من يقرأ النظرية الإشتراكية التي طرحها منظّروها يفهم منها من أن المجتمع ككل وخاصة طبقته العاملة سيعيشون في مستوى معاشي مضمون وميسور، لكن الوقائع أثبتت العكس عند تطبيقها)!!!، وربما يسألني أحدهم، كيف؟؟؟!!!، فيكون جوابي له: من أنّ العامل في أنظمة الإقتصاد الحر على سبيل المثال يستطيع رفض أي عمل خطر على حياته إذا لم يتضمنه عقده مع رب العمل وحيثُ تحميه بذلك قوانين العمل النافذة فيما لو حاول رب العمل طرده، وعلى ربّ العمل تهيئة كافة المستلزمات والمعدات الخاصة بالحماية الشخصية للعامل في حال قيامه بأعمال خطرة للتقليل من إحتمالية الإصابة ونسبها وإلاّ سيخسر ربّ العمل ربما مصنعه أو متجرهُ ثمناً لتعويض العامل المتضرر أو ربما يتعرض الى عقوبة السجن أو الأثنين معاً!!، كذلك للعامل حرية قبول أو رفض الأجور المعروضة عليه في العمل فيما لو يعتقد بأن كفائته وطبيعة عمله تستحق أجوراً أعلى، أي هنالك مبدأ الإتفاق بين الطرفين قبل البدأ بالعمل، كذلك لا يوجد في مجتمعات الإقتصاد الحر أي صيغة للعمل المجاني أو ما أطلق عليه “التطوعي” الذي غالباً ما يفقد معناه التطوعي ليصبح “قسرياً” كما هو معمول به في الدول الإشتراكية والذي دأب البعض على تسميته بـ “العمل الشعبي” أو أسماء مرادفة أخرى (أقصد بالعمل التطوعي المجاني المطلوب القيام به في نفس الشركة أو المصنع أو أي مجال إنتاجي آخر وبساعات إضافية غير مدفوعة الثمن، ولا أقصد فيه ما هو معمول به في جميع البلدان من خلال الجمعيات الخيرية والفعاليات الجماهيرية الذي يكون إختيارياً بالفعل وليس قسرياً)، لا بل على العكس من ذلك في بلدان الإقتصاد الحر هنالك ساعات عمل محددة شهرياً للعامل ومازاد عنها تُعتبر ساعات إضافية تدفع للعامل حسب إتفاقه مع رب العمل وقد تحتسب كل ساعة عمل إضافية بساعة ونصف أو ساعتي عمل إعتيادية وحيثُ يطلق عليها بالوقت الإضافي (Over Time)!!، وهذه الفقرات غير موجودة أصلاً في الأنظمة الإشتراكية التي تَعتبر الإمتناع عن العمل الخطر في الحالة الأولى وعدم أحقية مناقشة الأجور في الحالة الثانية ورفض العمل لساعات إضافية مجانية في الحالة الثالثة جريمة قد تدخل في إطار معاداة النظام الإشتراكي!!!، وفي أغلب الأحيان يشترك كلا النظامين (الإشتراكي والإقتصاد الحر) بوجوب تمتع العامل بالتأمين الصحي والتأمين على الحوادث التي قد تحصل له أثناء العمل مع فارق حصول العامل على تعويضات مادية مجزية قد تصل الى ملايين الدولارات في نظام الإقتصاد الحر وحسب نوعية الإصابة مع تخصيص راتب تقاعدي مجزي له لبقية عمره إضافة الى تحمل الطرف المتسبب بالإصابة (أي ربّ العمل) لكافة مصاريف العلاج للطرف المتضرر!!!، في حين لا تتجاوز في النظام الإشتراكي أكثر من ضمان العيش للعامل حتى مماته بالمستوى البسيط المعتاد عليه أصلاً مع شموله بمجانية العلاج التي يتمتع بها المجتمع “الإشتراكي”!!!!.
فالتجربة الإشتراكية في كوبا مثلاً قد قاد فشلها خلال الست سنوات الأولى من عمر الثورة الى رفض بقية شعوب دول أمريكا اللاتينية لها جملةً وتفصيلاً ولأسباب عديدة أولها الدعاية المضادة والحصار الأمريكي المفروض على كوبا، وثانيها عدم تنفيذ قادة الثورة لمعظم وعودهم وحيثُ رأيتُ بنفسي بؤس الشعب الكوبي أثناء زيارتي لهذا البلد بعد ثلاثة وخمسين عاماً بالتمام والكمال على نجاح تلك الثورة!!، وهذا ما كان واضحاً أيضاً من خلال عدم تجاوب الشعب البوليفي وطبقته الكادحة حينها مع دعوة الثائر جيفارا ورفضهم من الإنضمام الى مجموعته الثائرة حين أعلن عصيانه في غابات بوليفيا بعد ست سنوات تقريباً من إنتصار الثورة الكوبية التي كان عمادها المزارعين، وحيثُ صُدِمَت شعوب أمريكا اللاتينية بنتائجها التي قادتهم الى رفض النظام الإشتراكي الثوري البائس بمجمله!!!، مما حدا بالطبقة الكادحة والمزارعين البوليفيين للعمل كجواسيس ومخبرين للحكومة بأكثريتهم الساحقة ضد العصيان المسلح الذي قاده جيفارا وكما جاء في مذكراته التي تكلّم عنها بمرارة الثائر الواهب حياته لإسعاد الفقراء وتحقيق العدالة الإجتماعية لهم لكنهم خذلوه!!!!!.
وبالمقابل لنأخذ مثلاً آخراً قائماً لإحدى أهم الدول المنظوية تحت مظلّة الإقتصاد الحر والمجاورة لأكبر منظومة إشتراكية والمتمثلة بالإتحاد السوفيتي السابق والتي زرتها أيضاً في شهر آب/2014م، فالسويد سعت بنظامها الى تطبيق الإشتراكية الحقيقية بإعتراف اليساريين العراقيين بعد هجرتهم اليها وطلب اللجوء فيها بعد فترة ملاحقتهم نهاية السبعينات من القرن المنصرم في العراق!!، وحيثُ فضلوا في معظمهم العيش فيها على العيش في إشتراكية جمهوريات الإتحاد السوفيتي السابق التي إحتوتها “النظرية الشيوعية” وأفقدتها لجوهرها وسارت بها الى نظام “البطالة المقنعة” والهدر الكبير لموارد هذه الجمهوريات الغنية بمواردها التي خضعت للنظام الإشتراكي الفوضوي أو كما يسميه البعض بالثوري والذي لا يزال يدافع عنه بعض اليساريين بقولهم من أنّ “الخطأ ليس في النظرية ولكن بتطبيقها”!!، وقد أغفلوا حقيقة ماثلة أمام مثقفي العالم بسؤالهم: هل من المعقول إنّ النظرية كانت صحيحة وأخطأت عشرات الدول الشيوعية وبمختلف إجتهاداتها عند محاولة تطبيقها وأخفقت في نجاحها ولو بنسب معقولة وليس بالنسب المطلقة بدءاً بالجمهوريات السوفيتية والدول الشيوعية الملحقة بركبها الى يوغسلافيا الى المجر الى المانيا الشرقية السابقة الى الصين (لقد لاحظتُ خلال زيارتي للصين في شهر مايس/2016م تعافي إقتصادها نسبياً بعد تخليها عن جوهر الإشتراكية الثورية وتعاون بلدان الإقتصاد الحر معها في إستيراد منتجاتها بمئات المليارات من الدولارات سنوياً، لكن بقي نظامها السياسي يحمل شعارات الشيوعية لإدامة السيطرة على الشارع الصيني المتخم بالتراكمات التي قد تفجّر الوضع في أي لحظة)!!، وحيثُ كانت لكل مجموعة من تلك الدول الشيوعية التي ذكرتها رؤيا وفلسفة تختلف عن غيرها في كيفية فهم هذه النظرية وتطبيقاتها، وحتى البعض من الأحزاب “الإشتراكية” الشرق أوسطية التي تأثرت بمفهوم الإشتراكية الثورية فشلت في تطبيقها كمحاولة حزب البعث العربي الإشتراكي تطبيقها في العراق وسوريا وكذلك الحزب الشيوعي في اليمن الجنوبي وغيرها، فهل من المعقول أنّ كل هذه الدول والأحزاب فشلت بعباقرتها ومفكريها بالوصول الى الطريقة الصحيحة التي طرحاها كارل ماركس ـ فريدريك أنجلز في نظريتهما؟؟؟!!!.
ولو كانت فرضية حدوث هذا الخطأ واردة بالشكل المأساوي الذي أوصل تلك البلدان وشعوبها الى ما هم عليه الآن، فهذا بكل تأكيد يعطينا مؤشرين لا ثالث لهما!!، فأمّا النظرية خطأ من الأساس ـ ـ أو إستحالة تطبيقها على أرض الواقع كونها تسمو على ما فوق تفكير وقدرة البشر وسلوكهم ووعيهم وحيثُ يمكن نعتها بالنظرية “الأفلاطونية” وليس كما يحدثنا عنها فريدريك أنجلز في كتابه (الإشتراكية: الخيالية والعلمية)!!!.
قبل منتصف السبعينات من القرن المنصرم كان هنالك لغطاً كبيراً بين الحزبين الرئيسيين المتحالفين في الجبهة (الشكلية) في العراق وكان كلاً منهما يحاول بيان سلبيات الآخر من خلال فسحة الديمقراطية المفروضة منطقياً من خلال (العقد أو الإتفاق) المبرم بينهما عند قيام تلك الجبهة وعبر صحيفتيهما (الثورة وطريق الشعب)، ولا أعلم لحد الآن لماذا أطلقوا عليها إسم “الجبهة”؟؟!!، وضد مَنْ كانت؟؟!!، فهل كانت ضد تحديات ومؤامرات (الإمبريالية) العالمية أم ضد أعداء (الإشتراكية الثورية) من البرجوازية المحلّية أم ضدهم جميعاً؟؟!!، وحيثُ أنّ واقع الأيام التي تلتها أثبت عدم وجود أي جبهة حقيقية وإنما كانت جبهة على الورق فقط!!!.
ومن بين المحاججات بينهما دفاع الشيوعيين وتسويقهم لمنتجات الإتحاد السوفيتي ومعسكره الذي تضادده آراء البعض من المسؤولين الإداريين في حزب البعث من خلال تصريحاتهم!!، وقد كان جواب مدير الشركة العامة لإستيراد السيارات حينها مفاجئاً في البرنامج الإذاعي “البث المباشر” في معرض ردّه على الإتهامات بشأن الإختناقات المرورية الناتجة عن إغراق الطُرق بالسيارات الخصوصية بدون تخطيط وتنسيق مع الجهات ذات العلاقة لتطوير وتوسيع الطُرق وإنشاء الخطوط السريعة!!، مؤكداً عدم مسؤوليته عنها ودافع عن سياسته بفتح المجال لإستيراد السيارات الخصوصية، وحسب ما برره حينها من أنه يعمل في شركته على هدف حصول كل مواطن عراقي على سيارته الخاصة وعلى بقية المؤسسات ذات العلاقة مواكبة هذا التطور ومنها مؤسسة الطرق والجسور والدوائر ذات العلاقة وبيّن مِن أنّ مشكلة الإختناقات المرورية ليست مشكلته!!، وحيثُ عزا نفس المسؤول تلك الإختناقات المرورية الى إصرار الدولة وقيادة الحزب على إستيراد السيارات من دول المعسكر الإشتراكي وخاصة الروسية منها على الرغم من عدم ملائمتها للأجواء الحارة في العراق مما يؤدي الى إرتفاع حرارة “الفيت بامب” ووقوفها في منتصف الشارع وتعطيل السير إضافة الى رداءة الطرق (كانت الحكومة العراقية وحسب إتفاقيات التبادل التجاري المعقودة مع الإتحاد السوفيتي السابق تقايض إستيراد بعض أنواع السيارات الروسية بثلاثمئة الى خمسمئة زوج أحذية من شركة “باتا” العراقية حسب ما أشيع حينها)!!!!، فرد عليه الشيوعيون في جريدتهم “طريق الشعب” ضمن سلسلة المناكفات السياسية التسقيطية المتبادلة بينهم لكسب المواطن العراقي بقولهم: “من أنّ سبب المشكلة يعود الى إغراق الشارع بالسيارات الخصوصية مع عدم تطوير وتوسيع الطرق، وبدلاً مِن إستيراد السيارات الخصوصية بمئات الآلاف على الحكومة توسيع وتطوير منظومة النقل العام (الجماعي) كون أنّ جوهر النظام الإشتراكي الذي يرفعه الحزب الحاكم من المفروض أن يسير في هذا الإتجاه”!!!!.
فرد عليهم مدير الشركة العامة لإستيراد السيارات حينها بتصريح في جريدة حزبه “الثورة” بقوله: “أنا أفهم من أنّ الإشتراكية لا تعني بالنسبة لي حرمان المواطن المقتدر من إمتلاكه لسيارته الخاصة وإنما السعي لتمكين المواطنين جميعهم الى إمتلاك سياراتهم الخاصة وعلى عدد البالغين منهم في البيت الواحد”!!!، طبعاً تصريحه هذا كان بكل تأكيد ضد مفهوم الإشتراكية الثورية التي تتبناها الأحزاب الشيوعية وحتى حزبه حزب البعث العربي الإشتراكي!!، لكن الحقيقة ما نطق به الرجل جدير بالوقوف عنده والتأمل بمعنى الإشتراكية “الرغِدة أو الرغيدة” وليس “البائسة” كما أسميتهما في عنوان مقالتي هذه.
فإذا توفرت للإشتراكية “الرغيدة أو الميسورة” العوامل الموضوعية وخاصة غنى البلد بمصادره وثرواته القومية وصناعته فلِما لا يتمتع الشعب بها وتقل الفوارق الطبقية بين الجميع عن طريق السعي الى توفير الحياة الرغيدة للجميع وليس مساواتهم بالحياة البائسة!!!!!، أي بمعنى آخراً مساواتهم بمعدل الغنى أو اليُسر المقبول وليس بالفقر المفروض والشامل للكُل!!!!، فهل من الضروري أن يتم تطبيق النظام الإشتراكي من خلال تدمير الطبقة الغنية وسلبها لأموالها ومصادرة ممتلكاتها لصالح الدولة بإسم المساواة بين أبناء الشعب؟؟؟!!!، وإذا كانت الدولة بإمكانياتها المادية قادرة على دعم الطبقات الفقيرة والمتوسطة من خلال تطوير وزيادة مواردها المالية لتقليل الفوارق الطبقية لكان الأفضل في الوصول أو الصعود الى الإشتراكية “الرغيدة” وليس النزول الى الإشتراكية “البائسة”!!!، فالمفصل في هذا الأمر يعود الى عنصرين أساسيين، أولهما: على الدولة توفير فرص العمل لجميع شرائح المجتمع وتوفير مستلزمات التطوير الذاتي للمواطن من خلال فتح آفاق التعليم الأكاديمي والتدريب المهني وتطوير كافة نواحي المردودات المالية للمواطن في جميع المجالات الزراعية والصناعية والعلمية وإقرار القوانين الصارمة لحماية العامل ورب العمل وتنظيم العلاقة بينهما، وثانيهما: شخصي وهو مسؤولية المواطن ذاته في السعي لتطوير ذاته بالتحصيل العلمي أو توسيع دائرة مهارته ومقدرته لضمان مستقبله ورفع مستواه المعاشي، فليس من الإنصاف أن يتساوى في النظام الإشتراكي (البائس) مواطن “عالم” حاصل على الشهادات الأكاديمية العليا وسهر الليالي لبلوغ ما بلغ اليه من علم ومعرفة مع “جاهل” كسول تعمد على عدم تطوير نفسه فنراهما يعيشان بمستوى مادي متقارب ويتجاوران في الحي السكني المملوك للدولة ويدفعان الإيجار الشهري لوحدتي السكن المتماثلة في كل شئ ويتنقلان بوسائط النقل العام، وربما على “العالم” إهدار وقته الثمين بالبحث عن بعض الحاجيات الحياتية الشحيحة في النظام الإشتراكي “البائس” وحيثُ أنّ الوقت لا يعني أي شئ بالنسبة للإنسان “الجاهل” والكسول الذي لا يهمه الوقوف لساعات في الطوابير للحصول على “التموين الإشتراكي” المدعوم من الدولة وعندها سيتساوى “الذين يعلمون والذين لا يعلمون”!!!، وبإعتقادي هذه هي إحدى أهم الأسباب لفشل الإشتراكية “البائسة”!!.
وحيثُ أنّ “النظام الإشتراكي” يعني حسب المفهوم السياسي للقوى اليسارية “دكتاتورية البروليتاريا” التي تقوم على أساس تحجيم لا بل الغاء شريحة القطاع الخاص، وتأميم الممتلكات الخاصة من مصانع وأراضٍ زراعية وممتلكات أخرى للطبقة التي أطلقوا عليها بالبرجوازية وتحويل معاملها الى الإدارات العمالية المتصلة بالدولة الحزبية!!!، بمعنى آخر عدم السماح أو التضييق بأقصى ما يمكن على إمتلاك العقارات الخاصة ووسائل النقل الخاص وكل ما يتصل بالخصخصة أو القطاع الخاص وإخضاعها للملكية العامة بدلاً مِن الملكية الخاصة ومحاولة سيطرة الدولة عليها وإدارتها بشكلٍ كاملٍ والغرق في مشاكلها (طبعاً هذه الفقرة هي إحدى أهم جوهر الإختلاف بين الأنظمة الشيوعية ولا أقول الإشتراكية وبين الأنظمة الرأسمالية أو أنظمة الإقتصاد الحر)!!!.
ولكي نكون منصفين علينا التنويه الى أنّ معظم الدول التي ننعتها بالرأسمالية تطبق فعلاً فقرات مهمة مِن “الإشتراكية” وذلك من خلال قوانينها المجتمعية كالتأمين الصحي ونظام الرعاية الإجتماعية وتوفير المساكن أو الوحدات السكنية الحكومية المؤجرة بأسعار رمزية لذوي الدخل المحدود والمدعومة من فرض الضرائب التصاعدية حسب الدخل المالي السنوي على المواطنين، أي الأخذ من الغني لإعطاء الفقير!!، وتوفير العمارات السكنية لكبار السن بكل مستلزماتها وتخصيص رواتب تقاعدية لكل فرد في المجتمع وصل الى العمر المحدد للتقاعد، والتسهيلات المصرفية للمسنين مع التسهيلات والتخفيضات في الأسعار حتى في وسائط النقل العام والأهم من كل ذلك الرعاية البيتية للمسنين وخاصة العاجزين وعلى حساب الدولة أو بالأحرى يتم تغطيتها من الضرائب المستحصلة من ذوي الدخول العالية أو ما يطلق عليه اليساريين “بالطبقة الغنية أو البرجوازية”، إضافة الى وجود أماكن أو مطاعم الـ (Food Bank) التي تقدم الوجبات اليومية المجانية خاصة للمتسولين أو ما يطلق عليهم بالهوم لِيسْ (Homeless)، اليست هذه هي الإشتراكية التي تتبناها الدول التي أطلقت على نفسها بالمعسكر الإشتراكي؟؟؟!!!، فلماذا يحاربون ويحقدون على “النظام الرأسمالي”؟؟!!، وكلنا نقرأ ونسمع ونعلم عن الكثيرين ممن خرجوا من العراق ودول أخرى من اليساريين وغيرهم قد أخفوا على حكومات الدول “الرأسمالية” التي لجاؤا اليها أموالهم وممتلكاتهم ورواتبهم التقاعدية التي يتقاضونها من بلدانهم الأصلية وبدءوا بمزاحمة ذوي الدخل المحدود في تلك البلدان على مكتسباتهم التي أقرتها أنظمتهم “الرأسمالية”، وبدءوا أيضاً بإستحصال رواتب تقاعدية كاملة من بلدان اللجوء “الرأسمالية” مستغلين قوانينها الإشتراكية أبشع الإستغلال!!!، ألا يعلمون من إنهم بعملهم هذا يدمرون الجزء “الإشتراكي” المهم في النظام الذي أطلقوا عليه بـ “الرأسمالي”؟؟؟!!!.
ولنقارن بالنتائج الملموسة طبيعة النظامين السياسيين الرأسمالي والإشتراكي من خلال شخصية قادتهما، فالأول (أي الرأسمالي أو الإقتصاد الحر) يمتاز قادته بالديمقراطية الحقيقية والبساطة فنراهم يذهبون الى مقرّات عملهم بسياراتهم الخاصة أو دراجاتهم الهوائية دون حمايات وسيارات شرطة تقطع حركة المرور لساعات بإنتظار مرورهم!!!، وبإحترام لحظة مغادرتهم للسلطة ولكرسي المنصب الحكومي حال إنتهاء دورة إنتخابهم من قبل الشعب بإنتخابات غالباً ما تكون شفافة ونزيهة ويتركوا مواقعهم الرسمية بملابسهم فقط مثلما دخلوها!!!!، أما رؤساء الدول التي تقودها الأحزاب الأيديولوجية الثورية التي تُدعى بالإشتراكية، فحال إستلامهم لمناصبهم يظهر عليهم الغنى الفاحش، ويحصّنوا أنفسهم بالحمايات التي لها أول وليس لها آخر، ويبتعدوا ببيروقراطيتهم وإستبدادهم عن شارعهم الكادح الذي جاءوا منه ولأجله ويتشبثوا بالسلطة حتى مماتهم!!، ولقد حاولتُ في هذا الطرح وللإنصاف فقط أن أجد حالة شاذة عن القاعدة التي ذكرتها لطبيعة النظامين لكي أستشهد بها وللتدليل على أن هنالك حالات عكسية تنفي ما ذهبت اليه من خلال طرحي لأدعم فيها الأنظمة الإشتراكية فلم أجد!!!، وهذا الأمر يعني بكل تأكيد من أن نظريتي النظامين الرأسمالي والإشتراكي هي التي حددت سلوك القادة أثناء توليهم للسلطة!!!.
وأرجو أن لا يَفهم البعض مِن كلامي على أنه ترويج للنظام “الرأسمالي” على حساب النظام “الإشتراكي الثوري” بقدر ما أسعى فيه الى المقارنة المنطقية وبنتائجها الواضحة: مَنْ مِن النظامين طبّق “الإشتراكية” بشكلها وصيغتها الصحيحة عملياً وعلى أرض الواقع وبقي مستمر ولحد كتابة هذه السطور في المحافظة على ديمومتها على الرغم من أعباء قبول ملايين اللاجئين في دولهم وشملوهم بنظامهم المجتمعي المبني على أساس التكافل الإجتماعي!!، فبكل تأكيد سيكون الجواب هو أنظمة أو دول الإقتصاد الحر!!.
وكما هو واضح من طرحي مِن أنني لست ضد مبدأ التكافل الإجتماعي والعدالة الإجتماعية المتمثلة بتطبيق “الإشتراكية الرغيدة” وليست “الإشتراكية الثورية البائسة” والفوضوية!!، وأرجو أن لا يخرج لي أحدهم للدفاع عن الأنظمة “الثورية” ليقول لي بأن مؤامرات الدول الرأسمالية هي التي أجهضت التجارب الإشتراكية (الفريدة) في الدول ذات الحكم “الثوري”، فيكون جوابي له: لماذا لم يحصل العكس؟!، أي لماذا لم تُجْهِض الأنظمة الإشتراكية الثورية أعدائها الرأسماليون وأنظمتهم بمؤامراتها فهي لم تكن قاصرة (شر) وتخطيط بمخابراتها التي يُضرب المثل فيها بتنظيمها وقوتها، وحيثُ لم تترك وسيلة إلاّ وإستخدمتها في تحريضها للعناصر اليسارية تحت مسميات حركات التحرر الى المنظمات المتطرفة مثل “بادر ماينهوف” في المانيا و”الألوية الحمراء” في إيطاليا و”النجم الأحمر” في اليابان وغيرها، ولماذا إستطاع المعسكر “الرأسمالي” بمخابراته التأثير على شعوب المعسكر “الإشتراكي” فثارت ضد أنظمتها؟؟!!، ولماذا لم يحصل العكس؟؟؟، اليس لأن الشعوب في بلدان المعسكر الإشتراكي أضنتها الحاجة وهي ترى رفاهية شعوب البلدان “الرأسمالية”!!!، وليعطيني من يخالفني الرأي تجربة “ثورية” واحدة نجحت ولا تزال مستمرة وراضية عليها شعوبها وليس لديها نظام حُكم مستبد لا يسمح حتى بالتعبير السلمي عن الرأي، وجميعنا نعلم من أنّ الأنظمة التي كانت تنعت نفسها بالإشتراكية أسقطتها شعوبها بدءاً بتفكك الإتحاد السوفيتي السابق الى سقوط جدار برلين وإنتهاء النظام في المانيا الشرقية الى رومانيا ويوغسلافيا وجيكوسلوفاكيا وبلغاريا وغيرها.

أحدث المقالات

أحدث المقالات