مد يده الى جهاز الـ ” غرامافون ” الغارق وسط طوفان من صور بغداد أيام زمان المعلقة على الجدران داخل المقهى المثخن بالتراث والدخان ، حيث صور الرؤساء الجمهوريين ممن أعدم أحدهم اﻵخر وأزال نصبه وتماثيله وسجن أتباعه ونفاهم وصادر ممتلكاتهم وحجز اموالهم وكل ذلك بـ” `إسم الشعب ” ، الى جانب الملوك الهاشميين الذين تعاقبوا على حكم العراق – قبل أن يسحلوا جمهوريا – ولمحات من تأريخ العراق وعاداته وحرفه وفلكلوره – حيث الفقر ذات الفقر ، البؤس عين البؤس ، الاستعمار والاستحمار هو هو ، الاستعلاء الطبقي والبرجوازي الذي يقابله الجهل والشقاء الشعبوي لم يتغير قط بشهادة الصور المعلقة كأعواد المشانق التي تأرجح عليها الاف المعارضين والإنقلابيين والمجرمين واﻷبرياء منذ تأسيس الدولة العراقية تحت الوصاية البريطانية عام 1921 والى ماشاء ربك !
وضع ” سرحان سدارة ” إسطوانة من بقايا تسجيلات جقماقجي وإذا بها واحدة من أجمل قصائد الصوفية على مقام النهاوند بصوت ، يوسف عمر ” والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت إلا و حبّـك مقـرون بأنفاسـي ، ولا هممت بشرب الماء من عطش إلا رَأَيْتُ خيالاً منك في الكـــأس، ” تأملت جيدا بكلماتها وإن كانت قد سيقت لمغزى آخر تماما فوجدتها تنطبق كليا على شده ووله العراقيين بالانتخابات اليوم على مستوى المعارضين والمؤيدين حتى إن إحدى المحطات الفضائية المعروفة أطلقت عدادا ألكترونيا، بالأيام والساعات والدقائق والثواني التي تفصل عن موعد الانتخابات ..وووشد أبو النظيف والهوا بظهرك !!
كنا قد أكلمنا حضورنا للتو من غير موعد مسبق أنا وبقية الشلة ، فينا السني والشيعي ، الكردي والتركماني ، المسيحي والصابئي ، الشبكي والفيلي ، يربطنا مؤقتا بيتان من أبيات مستلة من القصيدة ذاتها ” ما لي وللناس كم يلحونني سفها ، ديني لنفسي ودين الناس للنـــاس ، وقد قرأتُ كتاباً من صحائفكمْ ، لا يـرحـمُ الله إلاّ راحـمَ النّــاسِ” ، وأخذنا نتنقل أخويا من موضوع ثقافي الى آخر ونحن في قمة الوقار والوئام والاحترام – العفووو، من فضلك ، شكرا ، من رخصتك ، اوكي ، سوري، ممكن الجريدة ؟ – حتى وصلنا الى – رباط السالفة – الانتخابات البرررلمانية فعبست الوجوه ،إنتفخت اﻷوداج ، إكفهرت اﻷجواء ، تبددت الدبلوماسية ، تغيرت لغة الحوار كليا لتتحول من” اكسكيوزمي .. الى إسمع لللللك !!”.
عمر ( سني) كان رأيه أن مقاطعة الانتخابات أفضل كونه ﻻيرى في إجرائها أية جدوى تذكر ﻻ للعراق وﻻ للعراقيين ، بإستثناء تدوير المخلوقات واﻷحزاب والكيانات وربما الشعارات والبرامج الانتخابية أيضا ، ناهيك عن تكرار الفساد بكل أشكاله وصوره ﻷن من المرشحين ورؤساء القوائم عشرات المتهمين بالفساد ، ويصر على أن ” الحصان نفس الحصان ، بس السرج مبدل ” مختتما تصريحه الناري بـ” آسف للعبث بمنطوق المثل البغدادي الشهير للضرورة …اﻷخلاقية وووالإنتخابية !!”.
حذيفة ( سني ) أحد نازحي إحدى المحافظات التي قلب عاليها واطيها ، كان له رأي آخر على النقيض من سابقه يؤيد الإنتخابات ﻷنه يأمل بإعادة إعمار ما دمر في محافظته وضمان عودة النازحين أمثاله وذلك من خلال فوز من يتوسم فيهم خيرا للدفاع عنه من الوجوه الجديدة المرشحة للانتخابات ﻷن القديمة بنظره أصبحت – ستوك مضروب في 10 – ﻻ تباع في سوق الترويج الانتخابي بدراهم معدودة وﻻ تشترى ولو بالحد اﻷدنى بعد كل الذي ذاقه من مرارة التهميش والاقصاء والإذلال طيلة الفترة الماضية مقابل ضعف تناسب عكسيا مع معاناته يوازيه في القوة ويعاكسه في الاتجاه ظهر جليا في تصرفات ومواقف من يمثلونه سياسيا وبشكل عجيب أرهق فكره ، بلد مشاعره ، هوى ببعض ثوابته الى الحضيض ،حجم من وطنيته كثيرا مع أنه – أبو الوطنية – قبل أن يتم تسفيهها أمميا فلا طال اﻷممية التي أغروه بها وﻻحظي بالوطنية التي تربى عليها ، مختتما حديثه ” عمي بطلنا مانريد العنب ..أرجعوا لنا سلتنا ..مدينتنا ..محافظتنا ..مدرستنا ..جامعتنا ..جامعنا ..مزرعتنا .. حلالنا .. بيتنا ..أهلنا ..أحبتنا ووووووووطنيتنا !
كاكا نوزاد(كردي أربيلي ) مؤيد بدوره لإجراء الانتخابات بموعدها والمشاركة فيها بقوة إﻻ أنه مازال يصر على تحقيق حلمه بدولة مستقلة تسبقها حصة ثابتة من الموازنة ﻻتنقص طيلة اﻷربع سنين المقبلة التي سيتنازل خلالها عن حقه بالإنفصال عن العراق مؤقتا ليحافظ على الوحدة – الوطنية -وحدود سايكس بيكو لحين رسم خارطة إستعمارية جديدة للمنطقة تعمل على تقسيم المقسم وتقزيم المقزم ، ولرغبته بتغيير الوجوه القديمة في كردستان وتغيير اﻷوضاع الحالية وتوزيع الرواتب المتأخرة وعودة التحكم بالمنافذ الحدودية واﻵبار النفطية الشمالية والحفاظ على استقلالية المطارات وإعادة إنتشار البيشمركة والاسايش في السيطرات ورفع العلم الكردستاني فوق البنايات والمؤسسات وحسم ملف المناطق المتنازع عليها والحفاظ على التوازن الديمغرافي وعدم العبث به وووو..شلون ما أدري !!
كاكا شيرزاد ( كردي سليماني ) يرى مايراه ” نوزاد ” بالمجمل إلا أنه يختلف معه في التفاصيل بأن تكون السيادة للسليمانية محافظة ، وﻵل الطالباني عشيرة ، وللاتحاد الوطني حزبا ، برعاية ايرانية وليسﻷربيل محافظة وﻻ للديمقراطي الكردستاني حزبا ، وﻻ ﻵل البارزاني عشيرة تحت رعاية اميركية كما يؤمن بها اﻷول !!
آيدن ( تركماني سني ) من مؤيدي الانتخابات أيضا وهو يأمل بكركوك حرة أبية يضم اليها ما حولها من مناطق متنازع عليها بحماية تركية ، ورفع التهميش الذي تعرضوا له على مر عقود ، جعل اللغة التركمانية لغة ثالثة تدخل في المناهج الدراسية كافة ولجميع المراحل ، الحصول على مناصب سيادية في الحكومة ، ومناصب قيادية في الجيش والشرطة ، إيقاف حملات التكريد والتعريب في مناطقهم ، إعادة التسميات التركمانية الى مناطقهم وإعادة إعتبارها وإحياء معالمها وتكريم أعلامها !
هاكان ( تركماني شيعي ) يطالب بذات المطالب التي شدد عليها (آيدن السني ) ، مع فارق اقليمي كبير أﻻ وهو ان تكون كلها تحت الوصاية الايرانية بدلا من التركية التي طالب بها نظيره في القومية وشقيقه في الدين وجاره في المناطقية ومخالفه في المذهبية ، فلا هما سوقا نفسيهما قوميا وﻻ نجحا باﻷتفاق بينهما طائفيا ، ما سهل ابتلاعهما حتى اﻵن ومن جميع اﻷطراف !
اوديشو ( مسيحي كلداني ) متشائم من الانتخابات وباﻷخص بعد إغتيال عائلة مسيحية مؤلفة من طبيب يعمل في مستشفى الراهبات وزوجته الطبيبة ووالدتها طعنا بالسكاكين لسرقة أموالهم في منطقة المشتل جنوبي العاصمة ، متشائم ﻷن الإنتخابات لن تأتي بجديد إﻻ أنه وبرغم تشاؤمه مضطر لإنتخاب من يمثلونه لعلهم يدفعون عنه بعض الشر الذي لحق به وبأبناء جلدته ويتركونهم وشأنهم في بلدهم – اﻷصلي – العراق ويعيدون لهم ممتلكاتهم ويطلقون لهم حريتهم في عباداتهم ، ويكفون عن ترويعهم والتضييق عليهم وإعادة النازحين والمهجرين منهم الى مناطقهم ، لينعموا باﻷمن واﻷمان في بلاد – زامبي ودراكيولا مان – !
كرار ( شيعي يساري مدني ) بدأ حديثه كالمعتاد بـ” بإسم الدين باكونا الحرامية ” وأردف ” نريد دولة مدنية شعارها ” الدين لله والوطن للجميع ” ونريد فصل الدين عن الدولة ، وإبعاد الاحزاب الاسلاموية عن سدة السلطة واصلاح المنظومة السياسية و تغيير بنيتها من المحاصصة الى المواطنة ، وتخفيض رواتب ومخصصات الرئاسات الثلاث ، وفتح ملفات الفساد ومحاكمة المفسدين وإجراء اصلاحات جوهرية اقتصاديا وسياسيا واداريا وﻷجل ذلك تتواصل تظاهراتنا في ساحة التحرير وسط العاصمة وبقية محافظات الجنوب منذ 4 سنين وبناء على ماتقدم فنحن سنشارك في الانتخابات وبقوة لتغيير الواقع البائس من خلال مرشحينا “التكنو قراط ” على حد وصفه ، إﻻ ان الملاحظ أن هذا التيار تحديدا يعاني من شيزوفرينيا مخيفة فهو يلعق بمظلومية التأريخ الإسلامي من جهة ، ويثرد باﻵيفون العلماني من جهة أخرى وليس ببعيد عليه أن يتحالف مع من يتظاهر ضدهم بعيد الانتخابات او خلالها مقابل تقاسم الغنائم ويتلقى اﻷوامر منهم لا من غيرهم بناء على هذا التقاسم الفريد من نوعه سياسيا ، بما له شواهد عديدة خلال السنين القليلة الماضية !!
حسن (شيعي اسلاموي راديكالي ) يريد المشاركة بالانتخابات لتحقيق الاغلبية السياسية لتحقيق قوة غير قابلة للمنافسة مشفوعة ومؤطرة بإستدعاء الماضي القريب والبعيد كله وتكرار ذات العبارات ” قطري ، وهابي ، سعودي ، تركي ، بعثي ، أزلام النظام السابق ، النظام المقبور ..الخ ” حتى أن أتباعه ليقفون أمامه حيارى و هم في أوضاع لايحسدون عليها البتة والدليل تظاهرات أهالي الحسينية وجسر ديالى اﻷخيرة متسائلين : ” وماذا عن توفير الخدمات ، بناء المستشفيات ،تشييد المدارس والجامعات ، فتح الجسور والطرقات ، رفع النفايات ، ردم البرك الاسنة وتجفيف المستنقعات ،مكافحة البطالة وفتح باب التعيينات ، حل أزمة السكن والعشوائيات ، القضاء على اﻷمية اﻷبجدية والتقنية ، القيام بنهضة صناعية وعمرانية ، الشروع بثورة زراعية وتجارية ،القضاء على العصابات الاجرامية ….” 15 عاما ولم نلمس شيئا غير الوعود المستقبلية وإجترار الماضي في الحملات الإنتخابية ..فالى متى يبقى البعير على التل من غير خطام وﻻسنام ولا حل ؟!
رعد الشبكي ، مروان الصابئي ، ليث الفيلي،سالم الايزيدي أحلامهم لم تتجاوز حدود – الكوتا – والظفر بنائب واحد يمثل كل منهم في البرلمان لعله يضمن لهم ما يحلمون به من أبسط حقوق المواطنة والحصول على اراض سكنية وحرية لم ينعموا بها إﻻ قليلا في بلاد تطفو على بحار من النفط والغاز والفوسفات والكبريت لم يشموا منها غير أبخرتها السامة ولم يحصلوا منها سوى على أمراضها وأوبئتها وتلوثها ووو…على صواريخ الحالمين بها من رعاة الثيران والجاموس والبقر !
وبعد أن أدلى كل واحد من رفاق المائدة المستديرة بدلوه نظروا الي جميعهم وقالوا بصوت واحد ” وما الذي تريده أنت ..أشووو ساكت ﻻ حس وﻻ نفس ؟ !” ، قلت ( خبز ، حرية ، صحة ، تعليم ، استقلالية ، نهضة ونزاهة وشفافية ، محاربة فساد وعدالة إجتماعية) وللجميع ومن دون تمييز وﻻ إستثناء ، ثم وقفت منتصبا كأبي الهول ، ونقرت على كتف سرحان سدارة ” كونها أفضل طريقة علميا ونفسيا للفت إنتباه الصم والبكم ، وقلت له بلغة الإشارة ” ياسرحان.. أنت وأقرانك فقط الذين يستمعون الى صوت الحق الهادر ويستجيبون له بغير أذن تسمع وﻻ لسان يكبس ويرفع ، فيما أنا وبقية شلة المثقفين الانكفائية ، الانطوائية ،الانعزالية، المصابة بالبارانويا ، وفوبيا اﻵخر والدوغمائية – التزمّت لفكرة معينة وعدم قبول نقاشها إطلاقا – والتي تراها أمامك اﻵن بأجلى صورها ..هي ثلة الطرشان ، ممن يستدعون التأريخ بكل مثالبه وتداعياته وأحقاده ويرفضون سماع اﻵخر ويذهلون عن واقع الشعوب ومستقبل اﻷوطان ..وأتحدى نفسي وإياهم أن تجد للوطن ولحقوق المواطن والمواطنة وللإصلاح الإجتماعي وللسلم المجتمعي الحقيقي ﻻ الوهمي أو الدعائي في أحاديثهم ..مكان !!!أودعناكم أغاتي
[email protected]