يحتفل العالم كل عام وفي الثامن من آذار بيوم المرأة العالمي, وهو ليست مناسبة ترفيهية بل هي دعوة عالمية تقودها منظمة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والسياسية والأحوال المدنية, وهي دعوة لحماية المرأة من العنف المجتمعي بمحتلف مظاهره, الجسدية والنفسية والأخلاقية. وتحتفل نساء العالم في هذا العام استمرارا لمبادرة الأمم المتحدة قبل عامين تحت أسم ” 50 ـ 50 بحلول 2030 خطوة للمساواة بين الجنسين ” أو ما يسمى بكوكب مناصفة بين الجنسين, لتركز على المساواة بين الجنسين ورفع الوعي السياسي والاجتماعي في قضايا المرأة وتسليط الضوء على الأوضاع الصعبة التي تواجهها ملايين من النساء حول العالم.
وبحكم الزخم الهائل الذي تمتعت به قضية المرأة على الصعيدين العالمي والوطني فقد ساعدت على خلق مزاج ايجابي معلن في قضية المساواة بين الجنسين, حتى بات من لا يؤمن بها لا يستطيع التصريح علنا بذلك, بل يبحث عن مبررات في أروقة الخطاب الفكري الديني وغير الديني لأضفاء قدسية من نوع ما على عدم قناعته بجوهر المساواة بين الجنسين في محاولة لتكميم أفواه انصار العدالة الاجتماعية بين الجنسين, وأذا اعترف بذلك تحت تأثيرات الحركات الاجتماعية الفكرية والمدنية المناصرة لقضايا المرأة فأنه يذهب قلقا للبحث عن عدالة خاصة ومشروطة بين الجنسين.
أن عملية المساواة هي أولا وقبل كل شيء عملية ذهنية ـ عقلية/اجتماعية, تنشأ بفعل عملية التنشئة الاجتماعية والتربية المستديمة للفرد اتجاه نفسه واتجاه الجنس الآخر, تلعب الأسرة فيها دورا مهما وعلاقات الوالدين بالطفل ذكرا أم أنثى, ومعاملة الإخوة الذكور للأخوات الإناث, والتربية المدرسية وما تبثه من فلسفة تربوية حيث تعرض الفرد لمختلف وجهات النظر الفكرية والعقلية اتجاه الجنس الآخر, فيتبلور لدى الفرد اتجاها محددا نحو نفسه ونحو الجنس الآخر, وكذلك العادات العامة والتقاليد, ثم المؤسسات الاجتماعية المختلفة الرسمية منها وغير الرسمية, والأحزاب والأيدلوجيات المختلفة ومدى نفوذها في الوسط الاجتماعي .
ويشكل أعلان المساواة بين الجنسين قيمة أخلاقية وإنسانية في التأكيد صراحة على الصعيد العالمي بعدمية الفروق بين الجنسين في المساهمة في الحياة والحقوق العامة. ويشكل هذا الإعلان عودة إلى الفطرة الإنسانية والى مرحلة تاريخية ما قبل اللاتساوي بين الجنسين ونبذ الفروق الجسمية والعقلية والنفسية باعتبارها مصدرا بهيميا لعدم المساواة والتي يبنى عليها شتى مظاهر اضطهاد المرأة.
وفي مجتمعاتنا العربية والإسلامية والإقليمية بتنوعها الديني والاثني والقومي, وعلى الرغم مما حققته من انجازات فردية على صعيد انخراطها في التعليم بمختلف مراحله, ودخولها عالم المهن المختلفة من طبية وتدريسية وهندسية وإدارية وجامعية, وصولا إلى تبوئها مناصب عليا وزارية وغيرها, فهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أنها حققت تقدمها في المساواة مع الرجل, بل المهم في ذلك كله هو المزاج والموقف العقلي والفكري من مساواتها, فهي لازالت مشروع استلاب منذ نعومة أظافرها, حيث تفرض عليها الوصاية التربوية والوعظية وتتعرض إلى مسلسل لا حصر له من الممنوعات من صغرها حتى شيخوختها, إلى جانب ما تتعرض له من مختلف صنوف التعذيب والعنف الجسدي والنفسي والأخلاقي, وكذلك العنف الرمزي غير المرئي الذي يتجسد عبر الثقافة والتربية والموقف المذل منها يوميا عبر معاملتها كجنس من الدرجة الثانية, وفصلها اجتماعيا عن الرجل سواء في البيت أو المدرسة أو الدائرة ومنعها من الاختلاط والتدخل في تفاصيلها اليومية, انطلاقا من مسلمات لا صحة لها ” كناقصة عقل ودين ” .
ولعل من أخطر الظواهر التي تتعرض لها المرأة في بلداننا هي ظاهرة التحرش الجنسي, والتي تعبر عن مزاج عقلي وسلوكي في المجتمع والشارع الذكوري يعكس القناعة السائدة بضعف المرأة وبأمكانية التجاوز على حريتها الشخصية أثناء حركتها وتنقلها وطريقة لباسها, وتصبح حين تواجدها خارج المنزل موضوعا سهلا للأساءة والتجاوز.
ويؤكد ” خريطة التحرش ” بأن التحرش الجنسي هو أي صيغة من الكلمات غيرمرغوب بها و/أو الأفعال ذات الطابع الجنسي والتي تنتهك جسد أو خصوصية أو مشاعر شخص ما وتجعله يشعر بعدم الارتياح، أو التهديد، أو عدم الأمان، أو الخوف، أو عدم الاحترام، أو الترويع، أو الإهانة، أو الإساءة، أو الترهيب، أو الانتهاك أو أنه مجرد جسد.
ويمكن للتحرّش الجنسي أن يأخذ أشكالًا مختلفة وقد يتضمن شكلًا واحدًا أو أكثر في وقت واحد:
النظر المتفحّص: التحديق أو النظر بشكل غير لائق إلى جسم شخص ما، أجزاء من جسمه و/أو عينيه.
التعبيرات الوجهية: عمل أي نوع من التعبيرات الوجهية التي تحمل اقتراحًا ذو نوايا جنسية (مثل اللحس، الغمز، فتح الفم).
الندءات (البسبسة): التصفير، الصراخ، الهمس، و أي نوع من الأصوات ذات الإيحاءات الجنسية.
التعليقات: إبداء ملاحظات جنسية عن جسد أحدهم، ملابسه أو أو طريقة مشيه/تصرفه/عمله، إلقاء النكات أو الحكايات الجنسية، أو طرح اقتراحات جنسية أو مسيئة.
الملاحقة أو التتبع: تتبع شخص ما، سواء بالقرب منه أو من على مسافة، مشيًا أو باستخدام سيارة، بشكل متكرر أو لمرة واحدة، أو الانتظار خارج مكان عمل/منزل/سيارة أحدهم.
الدعوة لممارسة الجنس: طلب ممارسة الجنس، وصف الممارسات الجنسية أو التخيلات الجنسية، طلب رقم الهاتف، توجيه دعوات لتناول العشاء أو اقتراحات أخرى قد تحمل طابعًا جنسيًا بشكل ضمني أو علني.
الاهتمام غير المرغوب به: التدخل في عمل أو شؤون شخص ما من خلال السعي لاتصال غير مرحب به، الإلحاح فى طلب التعارف والاختلاط، أو طرح مطالب جنسية مقابل أداء أعمال أو غير ذلك من الفوائد والخدمات، وتقديم الهدايا بمصاحبة إيحاءات جنسية، أو الإصرار على المشي مع الشخص أو إيصاله بالسيارة إلى منزله أو عمله على الرغم من رفضه.
الصور الجنسية: عرض صور جنسية سواء عبر الإنترنت أو بشكل فعلي.
التحرّش عبر الإنترنت: القيام بإرسال التعليقات، الرسائل و/أو الصور والفيديوهات غير المرغوبة أو المسيئة أو غير لائقة عبر الإيميل، الرسائل الفورية، وسائل التواصل الاجتماعي، المنتديات، المدونات أو مواقع الحوار عبر الإنترنت.
المكالمات الهاتفية: عمل مكالمات هاتفية أو إرسال رسائل نصية تحمل اقتراحات أو تهديدات جنسية.
اللمس: اللمس، التحسس، النغز، الحك، الاقتراب بشكل كبير، الإمساك، الشد وأي نوع من الإشارات الجنسية غير المرغوب بها تجاه شخص ما.
التعري: إظهار أجزاء حميمة أمام شخص ما أو الاستمناء أمام أو في وجود شخص ما دون رغبته.
التهديد والترهيب: التهديد بأي نوع من أنوع التحرّش الجنسي أو الاعتداء الجنسي بما فيه التهديد بالاغتصاب.
التحرش الجنسى الجماعى: تحرش جنسى (شامل الاشكال السالف ذكرها) يرتكبها مجموعة كبيرة من الاشخاص تجاه فرد او عدة افراد.
يعد التحرش الجنسى صورة من صور العنف الجنسى والتى تشمل ايضا:
الاعتداء الجنسي: القيام بأفعال جنسية تجاه شخص ما بالإكراه و/أو بالإجبار مثل التقبيل القسري والتعرية.
الاغتصاب: استخدام أجزاء الجسم أو غيرها من الأشياء والأدوات لاختراق الفم، أو اختراق الشرج، أو المهبل بالإكراه و/أو الإجبار.
الاعتداءات الجماعية: التحرّش أو الاعتداء الجنسي (بما فيه الاغتصاب) الذي ترتكبه مجموعات كبيرة من الناس ضد أشخاص منفردين.
والتحرش الجنسي خارج اطار الأسباب السيكولوجية المرضية, كالسادية والهستيريا والأدمان على المخدرات التي تستدعي تدخلا خاصا علاجيا للأفراد الذين يرتكبونه, فأن اسباب التحرش الجنسي تكمن في الغالب في الأسباب الآتية:
1ـ غياب المساحة الحضارية في التفاعلات الاجتماعية بين الجنسين, وهي المساحة الملائمة التي تمكن الفرد من التحرك فيها داخل مجتمعه وكلما قلت هذه المساحة كلما زاد الاحتكاك بين الافراد وزادت معها الميول العدوانية, فالاقتراب بين الاجساد خارج ثقافة أحترام الجنس الآخر يشكل أرضية لدوافع التحرش لمن تتوفر لديهم الاستعداد لممارسته.
2ـ غياب التربية والقيم الاجتماعية والاخلاقية المنطقية التي تغرس في نفوس الاطفال منذ الصغر, هذا الحرمان الاخلاقي تغيب عنه السلوكيات الطبيعية لتحل محلها السلوكيات الشاذة المضطربة, فالافراط في المحرمات نحو الجنس الآخر منذ الصغر يولد حالة من الكبت ينفجر لاحقا في نوبات من العدوان والاعتداء على المرأة, حيث يمارس العدوان على أشده مع الأخت والاقارب ثم على نطاق اوسع في البيئة الخارجية.
3ـ العشوائيات بيئة الفقر والازدحام التي تصدر كافة الآفات الاجتماعية والاخلاقية لكافة قطاعات المجنمع, فهي تشكل الظهير الخلفي للجرائم المنظمة وغير المنظمة, من سرقات واختطاف وقتل وابتزاز وسلوك مافيوي, ويشكل التحرش الجنسي احد مظاهره الصارخه.
4ـ التربية المجتمعية الذكورية الازدواجية الخاطئة التي تنعكس في النظرة السيئة للمرأة والتي يرى فيها الطفل الذكر ان الطفلة الانثى أضعف منه جسديا واقل منه قدرات عقلية, والتركيز في التنشئة على البعد الجنسي باعتباره محرم مطلق لا يجوز الحديث عنه, فيقع الطفل والشاب لاحقا في هوس معرفة كل شيئ عن الجنس الآخر وبأفراط, ونجد هنا المتحرش يحمل في شخصيته كل من الرغبة الجنسية المفرطة والمقترنة بالعدوان اتجاه المرأة, ولا يرى في المرأة سوى كونها مصدرا لأشباع غريزته الجنسية.
وتشير الكثير من الدراسات المسحية والاستطلاعية أن التحرش الجنسي رغم أنه ظاهرة عالمية تختلف اسبابها في البلدان المتخلفة عنه في الدول المتقدمة, إلا أنه متمركز في البلدان المتخلفة بنسب أكبر خطورة وتهديدا للتعايش المجتمعي بين الجنسين, وتتصدر دول عربية واسلامية ودولا اخرى خارج الاقليم قائمة التحرش الجنسي, فيما تنخفض بنسب كبيرة في الدول المتقدمة الى جانب السيطرة عليها قضائيا وحقوقيا.
وإذ تحتفل دول العالم بعيد المرأة العالمي في ظل ظروف إقليمية وعربية وإسلامية تضيق فيها فسحة المساواة ويتعرض فيها فكر المساواة إلى مزيدا من التشكيك والضربات المختلفة, وينتعش فيها الفكر المتطرف الديني والسياسي الذي يرمي المرأة خارج إطار عملية الصراع أو تحيدها أو إجبارها على الوقوف إلى جانبه, وتسفيه دورها اللازم في عمليات التغير واعتبارها تابع لاجدوى من مساهمتها في الحياة السياسية والاجتماعية, فأن الجهود الصادقة والحريصة, الدولية منها والإقليمية والقطرية, يجب أن تتوجه إلى أنقاذ المرأة من سلوكيات الإذلال والحط من قيمتها الشخصية والاجتماعية وفسح كافة فرص المساهمة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية للمساهمة في بناء مجتمعات أفضل لا تخضع لمزاج الفتاوى الشخصية والاجتهاد المبتذل, فمكانة المرأة ليست موضوعا للاجتهاد بل هي موضوع للمساواة وتحقيق العدالة الاجتماعية بين الجنسين وحمايتها من الاعتداء داخل المنزل وخارجه.