28 نوفمبر، 2024 10:56 م
Search
Close this search box.

من المسؤول عن غياب العدالة؟

من المسؤول عن غياب العدالة؟

إن واحدة من علائم غياب الفهم السليم لدى الناس عموما والنخبة المتعلمة والمثقفة منهم خاصة هو تحديد المشكل في صنع المعاناة التي تعيشها الشعوب واستمرارها على الرغم من المحاولات الجادة في البحث عن سبيل للحل وعبور الأزمات ، وغالبا ما يكون النظر إلى المشكل بسطحية وسذاجة تلجئ العاملين على إيجاد الحلول إلى النزوع إلى طريقة تبويس اللحى ، وتقديم التنازلات للعمل على خلق منطقة وسطية بين الأطراف المتنازعة ، ويتوهمون في ذلك حلا!!
        ومن يتأمل ببصيرة العارف المدرك للسبب الحقيقي يجد أن هذا النزوع البراجماتي إنما هو أكسير تخدير لا أكثر ولا أقل ، فالمشكلة لم تزل بلا علاج ، وكل ما تطاول عليها الزمن ازدادت تفاقما وتعقدت سبل حلها ، ويعود السبب في تعقيد سبل الحل هو الإصرار غير المبرر على إنجاح تجربة أثبتت فشلها بالدليل القاطع والبرهان الناصع ، لا أحد ينكر اليوم في العالم كله أن غياب مفهوم واضح للعدالة هو سببه منهج الحكم وليس مصاديق الحاكمين وشخوصهم.
        ولست هنا في ساحة تبرير لأولئك الذين ركبوا موجة الظلم ليجعلوا منه خيمة يرتعون تحتها كما ترتع الأنعام ، لا ، ليس هذا القصد من المقال ، بل القصد هو أن يلتفت الناس عامة ، والمثقفون منهم خاصة ، والصادقون في البحث عن حلول ناجعة ؛ أن المشكل لا يكمن في شخص من يحكم أبدا ، فهذا الشخص الحاكم هو ثمرة المنهج الذي أوجده ، ولو كان المنهج سليما صحيحا معافى لما أنتج ثمارا فاسدة سقيمة بهذه الدرجة التي نشهدها اليوم.
        لقد جرب الناس عبر مسيرتهم التاريخية الطويلة مواجهة منهج سليم قديم ثابت ، بمناهج مستحدثة رغبوا من خلالها إثبات قابلياتهم في القيادة التي زويت عنهم لجهلهم وعدم قدرتهم ، فتطاولوا على النظر إلى جهلهم وعجزهم وراحوا يعالجونه بالتكبر والترفع عن الانشغال بمعالجته بطلب المعرفة الحقيقية من خلال قبول المنهج الإلهي الثابت في الحكم والقيادة والتعليم ، وأحرقوا أنفسهم وقابلياتهم في ساحة لم يعدها خالقهم لها ، وتركوا ساحة معدة لهم كان يمكنهم من خلال العمل الجاد فيها أن يقطفوا كل الثمار التي تعد اليوم في أذهانهم وأوهامهم مجرد أحلام يقظة لا سبيل للبلوغ إليها فضلا عن الطمع في اقتطافها!!
        لم يكن منهج الحكم الإلهي في يوم من الأيام غائبا عن ساحة الواقع البشري أبدا ، بل أنه كان دائما مغيبا محاربا مقتولا مشوها ومفترى عليه بالأكاذيب ، وربما يقول سائل : لماذا هذا التغييب لهذا المنهج مادام يملك كل الحلول التي نحتاجها لحل ما نعانيه اليوم ، فلا أحد من الناس على طول هذه المسيرة التاريخية في الحكم يقطع بأن البشرية عاشت أياما من الوئام والسلام مع أنفسها وهي ترزح تحت منهج الحكم البشري المتقلب المزاج بين الفردية والفئوية والعرقية والطائفية ووصولا اليوم إلى الديمقراطية التي طبخت في مطابخ الأوهام تماما كما تطبخ السموم القاتلة حيث شلت في الناس قدرتها على التفكير والبحث والمناقشة.
        لا صوت اليوم يعلو على صوت الديمقراطية على الرغم من أن مزرعتها مليئة بالثمار الفاسدة والمتعفنة ، التي تنبعث منها رائحة الموت والفقر والجهل والعنف ، والاحتيال ، بل وكل موبقات الخلق من أول وجوده إلى حالنا هذا ، فليس هناك أشر خلق على الأرض منذ خلقت أشر من الخلق الموجود اليوم الذائب في هذا المنهج المهلك والكارثي المسمى بـ(الديمقراطية)!!
        ولعل قائل يقول : لماذا هذا التحامل على هذا المنهج في الحكم ونحن نرى أثره الوردي على واقع الأرض في عدد من الدول؟؟ الجواب الذي لا يختلف فيه اثنان هو : لا علاقة أبدا بين الرفاه المادي ونظام الحكم القائم ، فالوردية المعنية بقول القائل هو الرفاه المادي ليس إلا ، وهذا لا علاقة له بنظام الحكم ، وإلا أين الديمقراطية في نظام الحكم مثلا في دولة مثل الإمارات أو باقي دول الخليج وهي ظاهرا تعيش رفاها اجتماعيا ملحوظا؟؟!!
        وبالمقابل أين الرفاه الذي حملته الديمقراطية وقد جاءت بعنفوانها إلى شعب مثل العراق ، بل أين الرفاه في بلدان الديمقراطية العتيدة التي يعيش غالبية شعوبها حالة لا توصف من الانكسار النفسي والانحلال الخلقي والاجتماعي ، فماذا تسمون ما حدث منذ أيام في أمريكا عندما وقعت مجزرة كالتي حدثت في ولاية كوينكتت ، مع الالتفات إلى أن هذه المجزرة حظيت بالتغطية الإعلامية ، وإلا فهناك العشرات إن لم يكن المئات تحدث يوميا في إحياء لا ترى فيها العين سوى أنها مثانة لتلك الحضارة المادية المتعجرفة!!
ربما يغيب عن عامة الناس حقيقة ما تعيشه تلك البلدان من تفاصيل حياتية مؤلمة أهلكت الحرث والنسل ، ويخدعها الإعلام المضلل الذي غالبا ما يحول الوجوه الكالحة الناشفة إلى وجوه براقة يانعة ، من خلال مساحيق الموت التي يصرف منها العالم ملايين الأطنان يوميا ، كل ذلك الصرف المهول حتى تغطي الناس على أنفسها مرارة الهزيمة النفسية الحقيقية التي تشعر بها.
إن الديمقراطية التي يرقص على طبولها الشعب العربي اليوم في (ربيعه) وهو كالطير المذبوح ، ديمقراطية عنكبوتية لا تترك لمن يقع في نسيجها سبيلا للخلاص ، فلا أحد من البشر يقاوم شهوة الملك والحكم أبدا ، خاصة إذا ما غيب في النفوس الوازع الفطري الإلهي ، وهذا ما عملت وتعمل عليه البشرية المتبنية لمنهج التكبر والعجرفة ، فلم تكن ديمقراطيتهم لتحل بين ظهراني المسلمين قبل عملية المسح الجغرافي للنفوس ، والعمل على تحطيم منظومة القيم الدينية من خلال عقد علاقة بين الفقر والمرض والجهل والدين وهي لاشك ولا ريب علاقة مصطنعة لا وجود لها إلا في الخيالات المريضة لمتبنيها.
فلم يكن حكم الدكتاتوريات الذي سبق هذا الربيع المزعوم إلا مرحلة تمهيدية لتصل الشعوب المسلمة وخاصة العربية منها كونها في بقعة شاء لها موجدها سبحانه أن تكون ساحة الصراع الحقيقية بين المنظومة الإلهية في الحكم وبين الوهم البشري بإمكان صنع منظومة نظيرة للمنظومة الإلهية ، ذاك أن أمر الحكم في غيرها من المناطق في العالم يكاد يكون مستسلما للمشروع البشري ، ولم تبق بقعة عصية على ما يبشرون به من نظام عالمي جديد غير هذه البقعة التي احتاجت أن تطحن برحى الدكتاتورية حتى يعاد تصنيعها على وفق منظومة ذلك العالم المزعوم ، ولاشك في أن أولئك نجحوا نجاحا لا يخفى حيث أوصلوا عموم أناس هذه المنطقة إلى مرحلة التوق لاستنشاق عبير الديمقراطية وهم غافلون عن أنهم إنما يستنشقون سموما تفسد النفوس بوهم تلك الشهوة التي عمل الأنبياء والمرسلون(ع) على محاربتها حتى لا تنطمس فيهم فطرة الله التي فطر الناس عليها.
لم يكن الغرب لينجح بما فعل في هذه المنطقة لولا الدور المساند الذي لعبته المؤسسات الدينية سواء بقصد أو عن غير قصد عندما عملت على تجهيل عامة الناس واحتكار المعرفة الدينية على طبقة تسموا بالفقهاء ورويدا رويدا راحوا يسقطون على أنفسهم ألقابا خطيرة ما أنزل الله بها من سلطان ، ونصبوا أنفسهم متحدثين باسم الدين وهم لم يكلفوا ذلك بل هم من كلف نفسه به وعمل على حجب عامة الناس عن معرفة الدين ، وهم بذلك ارتكبوا خطيئتين ؛ الأولى : بتنصيب أنفسهم حماة للدين من دون أن يكلفهم الله ذلك وكأنهم يتهمون الله سبحانه بالعجز عن حماية دينه ، والثانية : طمسوا في الناس فطرة الله في السعي للمعرفة وشغلوهم عن ذلك بالسعي للمعاش حسب والأكل والشرب وكأن عامة الناس خلقت لذلك وهم خلقهم الله للعيش على قفا الناس!! وبهاتين الخطيئتين قدمت تلك المؤسسات الدينية الشعوب المسلمة على طبق من ذهب لرحى العالم الغربي كي تطحنهم ويعاد تصنيعهم مرة أخرى على وفق ما نراه اليوم من فوضى سماها الغربيون (فوضى خلاقة) نعم هي فوضى لأنها حركة لقوم يجهلون ماذا يريدون وكيف يعملون ، وهي خلاقة لأنها خلقت روح الاستسلام والإذعان والطاعة المطلقة لرب جديد للعالم وهو (الديمقراطية) وسادنتها أمريكا.
ومما لاشك فيه أن لا علاج ولا خلاص لهذه الأمة المطحونة من العودة إلى فطرتها التي فطرها الله عليها سوى العودة إلى المنظومة الإلهية في الحكم ، وواقعا العجب لا ينقطع من أمة تترنم صباح مساء بالمهدي(ع) وتستجيب لاستدراج المطحنة الغربية ، وها هي اليوم ترى بأم أعينها أن بيدر الربيع العربي لم يكن سوى هشيم تذروه الرياح ، ولم يقبض منه الناس غير الخراب والدمار والعذاب المستمر ، فهل ينتبه المتدينون أصحاب الديانات الإلهية أن لا نجاة ولا عدل حقيقي إلا بتطبيق المنظومة الإلهية في الحكم؟؟!!

أحدث المقالات