19 ديسمبر، 2024 12:14 ص

فتور اهتمامات القاريء

فتور اهتمامات القاريء

حين اتبادل الأحاديث مع الاخوة والاصدقاء حول مايكتبون وما اكتب ، وأي جدوى منها ، او اين صداى ما نقرأ ونكتب ، وايا من المقالات تأتي في الاهتمام من قبل القراء قبل غيرها ، المس العزوف الكبير لدى الكثير ممن اتحدث اليهم عن الاهتمام بالكثير من المقالات التي نقرأها او نتابعها هنا او هناك ، او التي تردنا على البريد الالكتروني او عبر قنوات التواصل الاجتماعي ، وبمجرد ان أسأل عن سبب هذا الفتور ، او حتى النفور ، يأتي الجواب وسريعا ، انها مقالات لا تأتي بجديد ، ولا تغذي المرحلة التي نعيشها الان ، بل انها تعيد وتكرر ومن أعوام ما نعرفه تماما وبكل التفاصيل.

حينما يعتقد القاريء ، ان هذه المعلومات معروفة ومتداولة في كل المقالات والدراسات التي تنشر ، فما الفائدة من اعادة نشرها؟ القاريء ينتظر ان تنتقل به تلك المقالات والدراسات وحتى المناظرات الفضائية الى صفحة جديدة ربما تفتح النقاش وطرح الافكار لإيجاد حلول عملية ومقبولة للخروج من المحن الكثيرة التي وجد العراق نفسه غارق فيها من غير ان يعرف الطريق للخروج منها. وينبغي على المقالات والدراسات ان لا تكتفي عند حد تنوير القاريء بالأخطار المحدقة بالعراق نتيجتها وانما تسعى الى تنوير الحكومة ايضا بخصوص السبل الناجعة لإنهاء الأزمات المستعصية.

وفي هذا السياق ، وعلى سبيل المثال لا الحصر ، نقرأ دراسات ومقالات كثيرة تنشر وبصورة متواصلة التي تتناول موضوع المياه ، وما آل اليه وضع نهري دجلة والفرات المؤسف والمقلق ، ونستمتع بقرائتها ، وبالسرد الجميل لتاريخها الطويل ولحوادثها ، لاسيما حين نقرأ الاهتمام الذي أولاه النظام الملكي العراقي للمياه وإعطاءه أهمية قد تفوق الاهتمام بالنفط ، وحرصه على توقيع الاتفاقيات الدولية التي تمكنه من ان يحصل على الحصص المائية المتفق عليها ، وكذلك ان يطلع على الوضع المائي في نهري دجلة والفرات في الاراضي التركية ، ولكن في النهاية نجدها انها جامدة لا تأتي بشيء جديد ، لانها تتحدث فقط عن مرحلة مضت وأمست من الماضي.

وكما قلت ، وبدون شك ، هذه الدراسات والمقالات ، كلها شيقة وممتعة ، ولكنها لا تلبي طلبات القراء الكرام ، لانها في النهاية تكتفي بالسرد التاريخي للنهرين ولا تقدم او تقترح حلول تعالج الوضع المائي الحالي ، ولا تعرض تصور يمكن الاتفاق عليه بين الدول الثلاثة المشتركة تركيا وسوريا والعراق ، لتقاسم المياه بصورة نافعة ومرضية لكل الأطراف ، مما قد يقلل ذلك من أهمية هذه المقالات او يجعلها تصبح عديمة الفائدة. فلا احد يستطيع ان ينكر ، لا قليل ولا كثير ، ان النهرين قد أوجدا البيئة الخصبة والملائمة لنشوء الحضارات القديمة والحديثة في العراق ، ولولاهما لما كانت هناك حضارات على الإطلاق.

الأنهار تنشأ الحضارات ، وليس الحضارات من تنشأ الانهار. هذه حقيقة ثابته ولا جدال فيها ، فحيث توجد الانهار تقام الحضارات وتزدهر ، وحيث تشح الانهار تفقد الحضارات لهيبها وتنتحر. وكم من حضارة نشأت ثم ماتت بعد ان جفت الانهار التي كانت تسقيها.

وما يبعث على الحزن اكثر ، ان هذا العزوف لا يقتصر على المقالات المقرؤة ، بل يتعدى ذلك الى المقابلات والمناظرات المشاهدة او المسموعة ، ان فحوى الكلام الذي يذكره السيد وزير الري العراقي ، عن المياه ، فيه سرد لا يختلف كثيرا عن سرد المقالات المنوه عنها ، فهو الاخر لا يمتلك لا تصورات ولا حلول لوضع حد لهذه المأساة النامية ، مما يعطي الانطباع ان الحكومة العراقية ليس ببالها هذه المشكلة لحد الان.

ما نعلمه ، وما تذكره المقالات والدراسات والفضائيات ان تركيا منذ نهاية الثمانينيّات من القرن الماضي ، بصدد تشييد ١٤ سدا على نهر الفرات و٨ سدود اخرى على دجلة ، القسم الأكبر منها تم تنفيذه ، والقسم الباقي تحت الإنجاز. وأن مشروع جنوب شرقي الأناضول قد وضعت الدراسة الأولية بخصوصه سنة ١٩٣٦ وأسهمت في تلك الدراسة في حينه اطراف اجنبية خبيثة على مقدرة عالية من الاطلاع والتخطيط والتربص. ولكن المشروع بقي مطويا حتى تولى تورغت اوزال منصب نائب رئيس الوزراء التركي للشؤون الاقتصادية في حكومة الانقلاب العسكري برئاسة كنعان أفرين سنة ١٩٨٠.

انها محنة ليست طارئة ، بل هي قائمة من عشرات السنين ، وكلما تقدم الوقت كلما كبر حجمها وكلما ازدادت المعاناة للشعب العراقي جرائها ، وبنفس الوقت كلما عولجت بوقت مبكّر ، كلما كان علاجها اسهل وابسط. بينما كلما تأخر حلها كلما ازدادت التعقيدات الناجمة عنها.

وربما اخترت موضوع المياه والمقالات التي تكتب حوله لتكون جوهرة الحديث ، وليس كله ، لاهمية هذا الموضوع من جهة ، ولتفادي الحساسية التي ربما تظهر في ما لو ذكرت موضوعات اخرى ، وهي تلقى نفس الاهمال من القاريء كما في حالة المياه. ولكن وكما قلت ، خشية الحساسية ، يتعذر علي تسميتها.

الكتابة تعني الحوار ، واول نقطة مهمة في الحوار ان يتم بين اطراف متكافئة في الرؤيا والثقافة ، وإلا فأنها تفقد قيمتها او المغزى منها. وهؤلاء الذين على هذا المستوى من الوعي والفهم ، ربما في سريرتهم لا يقبلون لأنفسهم تسويق أفكار وأراء سبق وان نشرت ، لانها ان كانت كذلك فأنها سوف تدخل في حقل الغش والخديعة ، وبالمقابل فأن القاريء لا يتقبل تكرار المعلومة او المضمون وانما يبحث عن الجديد الذي يعزز المعلومة والمضمون.

يحز في قلبي ان اقول ان العالم كله يتقدم الى امام بينما نحن (العرب) ، سواء في العراق وفِي غير العراق ، نرجع الى الوراء. الى متى نبقى على هذا الحال؟ في الامس كنا نمارس لعبة كرة القدم بطريقة بدائية وغير مسلية ، وبقينا على هذا الحال أعوام طويلة ، وعندما استعنا بمبدربين اجانب تحسن اداءنا وبدأنا نمارس اللعب بطريقة متطورة وعادت اللعبة مسلية. فلماذا لا نستعين بتجارب الشعوب الاخرى ونقتبس عنها وعي واساليب الحضارة التي آلت عليها؟ انه حق مشروع ومتعارف عليه ، وتلجأ اليه الشعوب أيا كانت عندما ترى ضرورة لفعل ذلك. بل ان الاقتباس عن الاخرين اصبح ظاهرة طبيعية ومألوفة جدا.