تعلمنا في حياتنا أن العطاء مقرون بحب الخير، وحب الخير مقرون هو الآخر بنقاء النفس وطيبتها، واحترامها الآخرين وإجلالها محبي الخير في المجتمع، وابتعادها في الآن نفسه عن الضغائن والأحقاد. ولإثبات حبنا للخير نحتاج دليلا ملموسا ومحسوسا، من خلال عمل ملحوظ ومرئي، ليتسنى لنا الاستشهاد به أمام من يجحده، فنكون إذاك قد أعيينا المحاججين حجة، فالحب والاحترام والإجلال، كلها كالهواء لاتُرى بالعين، بل يُتحسس بها من خلال آثارها وبصماتها التي تتركها.
وجميع مرادفات الحب ومسمياته، وكذلك مفردات الاحترام وتعبيراته اللفظية، تحتاج لإثبات صدقها وعاءً يحتويها لتأخذ صفة مرئية، أما شكل الوعاء وحجمه وشفافيته فيختلف من فرد لآخر، وسعيد منا من أضحى وعاءً للحب بأشكاله الجميلة، وأصنافه النافعة، وشفافيته الخالصة الصادقة، لتعطي بمجملها صورة رائعة تتجانس مع الألفاظ والأفعال والمشاعر والأحاسيس.
إن ظرفنا الحالي تتجسد فيه مصطلحات الخيبة وفقدان الأمل كلها، إذ تنطبق عليه صفات الظرف الحرج، والقاسي والقسري، والصعب والمرير وما الى ذلك من كلمات فرضتها جهات عديدة مجتمعة، تنوعت بين عدو مبين وصديق حميم، ولو كان الأمر موقوفا على الأول لهان، لكنه اقترن بالثاني وبات ملازما له، إذ اتخذ معنا أدوارا عدة، تعددت معها النتائج والمعطيات التي أثرت بشكل مباشر على حياتنا. فهو تارة يبدي لنا الود والحب، في حين يضمر عكس ذلك، كما قال سيد البلغاء:
يريك من طرف اللسان حلاوة
ويروغ عنك كما يروغ الثعلب
وهنا يكون ضرره أكبر وتأثيره أمضى ووقعه أشد وإصابته أكثر إيلاما، وأصدق مثال على أمثاله، مايفعله بنا أرباب الحكم في بلدنا، فإن عددناهم من الأصدقاء فهم ليسوا من الصادقين، ذلك أنهم أملونا بالعطاء، والحقيقة هم أتوا للأخذ فقط، وقد وعدونا بالخير فيما احتكروه لأنفسهم، بعد أن سرقوا الحصة الأكبر منه واستحوذوا عليها وفق مبدأ؛ (كلمن يحود النار لگرصته). ولعل في بيت الدارمي الآتي أقرب تشبيه لهم، حيث يقول:
ثاري الوكت تنور وبيه ألف إيد
كلمن يحود النار ولگرصته يريد
ولم يفتهم قطعا أن يرسموا على وجوههم صورة الوداعة والطيبة والنقاء، وأجزلوا الوعود وقطعوا العهود وأغلظوا القسم للمواطن المسكين، فحنثوا القسم ونكثوا العهد وأخلفوا ماوعدوا به، ولم يتنبه المواطن لزيفهم إلا بعد خراب كثير من مدنه، وكان حريا به الاعتبار بالحكم والمواعظ التي قيلت في كيد العدو ومكر الصديق، منها قول المتنبي:
وإذا رأيت نيوب الليث بارزة
فلا تظنن أن الليث يبتسم
فما أجمل صورة ساستنا وهم يخاطبون المواطن في لقاءاتهم المتلفزة وتصريحاتهم الإعلامية، وما أقبح صورة أغلبهم حين يقلبون له ظهر المجن، ويكشفون ماكانوا يبطنونه ومايتأبطونه من شرور له، فهل بعد هذا نحتسبهم من الأصدقاء؟.
ومادامت حال ساستنا ستبقى هكذا حتما، علينا نبذهم خارج أطار الصدق والمصداقية والصداقة، وقبل هذي وتلك وذاك، إبعاد مفردة الحب ومرادفاتها عنهم، لئلا يلوثون مثلها العليا وقيمته السامية. أما نحن المواطنين، فإننا بأمس الحاجة الى كثير من الحب نخلقه بيننا، وإن اقتضى الأمر نقحمه إقحاما بين شرائح المجتمع التي تباعدت فيما بينها بمفاهيم المحبة، ولنخلق من تقلب الأحداث وتغير ما يحيطنا من تطورات فرصة لقلب صفحات سود، وطيها الى حيث الماضي الغابر، وسد منافذ تقليبها ثانية، فمراكبنا لن تبحر بسلام، مادامت حيتان الشر تعوم حولنا، وليس لنا إلا التغلب عليها سبيلا للنجاة. فلنسخّر الرياح كي تجري كما نريدها، ونودع قول المتنبي الذي سير الرياح عكس مانشتهي، ولنستمد همتنا من فحوى الأبيات الآتية:
تجري الرياح كما تجري سفينتنا
نحن الرياح ونحن البحر والسفن
ان الذي يرتجي شيئا بهمته
يلقاه لو حاربته الانس والجن
فاقصد الى قمم الأشياء تدركها
تجري الرياح كما رادت لها السفن