في سنوات كانت الاقطاعية والمحسوبية تقذف بحممها النتنة على رقاب الطبقة الفقيرة لتصنع منها اداة قمعية تضمن تسلطها واستبدادها، في ذلك الزمن الموحش والمتعطش لامتصاص دماء المجتمع باسره ولد فارس عام ١٩٥٠ في اطراف مدينة الاعظمية ببغداد وهو النجل الثاني للزعيم الركن عبد الوهاب أمين احد قادة ثورة ١٤ تموز الخالدة وعضو اللجنة العليا لتنظيم الضباط الاحرار، في هذه الاسرة العريقة نشأ على الانضباط والالتزام باخلاق المجتمع المحمكة، في طفولته تجلت مقدمات الثورة حين كان يجتمع الضباط بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم في بيت والده، وببراءة الاطفال كان يلعب بينهم دون ان يدرك انه يواكب اهم لحظات في تاريخ العراق الحديث، وكأن روحه الطفولية النقية تمنح الزعيم ورفاقه الهاما وعزما وثباتا لتغيير واقع العراق وانتزاعه من الطبقة البرجوازية التي قوضت اركانه وفككت بنيته الحضارية.
في الثامنة من عمره تغيرت مسارات حياته واخذت تحلق نحو افق اوسع بعد قيام الثورة لتنضج في ذهنه الفتي معاناً جديدة استمدها من صلابة والده ورفاقه، معان تجسدت صيرورتها على حب الوطن وتحريره من قيود العبودية فادرك حينها ان الحرية هي رئة الشعوب ونافذتها للخلاص من الدكتاتورية فزداد ايمانه بعشق ارضه لاسيما ان والده الزعيم عبد الوهاب امين غرس فيه حب التواضع امام الجماهير التي احاطت منزلهم ابتهاجا باعلان الثورة، مرت السنوات وتسارعت معها خطواته نحو الامل والمستقبل وتدافعت في ذهنه الافكار نحو ضرورة بناء وطنه العراق، لكن هذا الحلم اغتيل بعد خمسة سنوات من الثورة ليجد اياد بائسة تقتاد شعبه مرة اخرى في يوم ٨ شباط ١٩٦٣ ليصحو على كاوبس مخيف.
بعد اغتيال معلمه وصديق الوحيد الذي كان يلاعبه كلما حضر الى بيتهم الزعيم عبد الكريم قاسم، ادرك ان القبح مازال عالقا في فضاءات الوطن وان الحياة ليس تلك اللوحة الجميلة التي رسمت ملامحها ثورة تموز، واكتشف في لحظة الحقيقة مدى العفن الذي غرس في ذهن الرفيق والصديق وحتى الخصم، عاش في عزلة تامة خشية من بطش النظام العارفي بوالده واسرته التي ظلت على وفائها لثورة تموز ولم تلهث وراء المناصب والمكاسب التي اغدق بها عبد السلام عارف لكل من خان الزعيم، الا ان تلك العزلة ازدات مع انقلاب البعث عام ١٩٦٨، وكان يأن وحيدا بعد ان اعتقلت وحوش النظام والده ليقضي سنتين في قصر النهاية اللعين.
صوت الوجع يصدح في كل زواية الوطن ولم يكن يملك ما يدفع عنه هذا الحزن، فسلطوية النظام فاقت قدرته، وبعد خروج والده من المعتقل غادر وهو في الثانية والعشرين من العمر عن وطنه المسلوب ليعيش في منفاه مع اسرته في لندن تاركا خلفه حكايات صباه وذكريات الماضي ولم يبقى في ذهنه عالقا الا موسيقى اقدامه على الارصفة التي كان يداعبها في طريق ذهابه الى المدرسة، في بلاد الغربة اغلق ذاكرته وحبس صورة الوجع التي اجتاحت وطنه ناذرا نفسه للمساهمة في تحريره يوما ما، معاناة الغربة اقتطعت من جسده اجمل السنين ولكنه لم ينثني بل ظل تواقا للعودة يوما الى ارض اجداده، لم يترك وسيلة لمحاربة النظام الا واتبعها ساعيا حريصا على المساهمة في كل جمع يهدف لتقويض النظام، فشارك في معظم المؤتمرات التي نظمتها المعارضة وساهم في كتابة ادبياتها، تنقل من بلاد الى اخر حاملا بين ثناياه قضية وطن غير مكترثا بحجم الاخطار التي قد يتعرض لها بسبب مواقفه الجريئة من النظام.
ولكن السنوات ابت ان تنصفه الا بعد واحد وثلاثون عاما من الاغتراب، ليعود محرر تلك الذاكرة حاملا كل القيم والخبرات التي تعلمها ليضعها تحت امرة بلده وشعبه متجنب الوغول في قبح السياسة ، اتجهت بوصلة عطائه صوب الاعمار واعادة البناء لينجز المشاريع الخدمية والاقتصادية بهدف استكمال عمليات الاعمار والبناء الذي بدأته ثورة ١٤ تموز العظيمة، لكن جراحات الوطن لم تندمل، ولم يتغير شيء بل اكتشف ان القبح ما يزال يجثوا على صدر العراق، وان السياسة المراهقة تحولت الى طوق كبير يضيق الخناق على الشعب، لتيسلط الفساد والاقطاعية الحزبية والعشائرية من جديد، وبات مصير الامة مرهونا بفعل اجرائي يقدم عليه متعكزا على سمعة وعراقة اسرته ودورها في انقاذ الشعب من العبودية وعلى خبرته الاقتصادية الكبيرة في مجال التنمية والاعمار والبناء وعلى ولعه الشديد بابناء هذا البلد، لا خيار امامه الا الحصول على تفويض الجماهير ليكون لهم عونا ومساندا وساعيا لتخليصهم من طوق العبودية، فالضرورة التاريخية والاخلاقية استدعته للمشاركة في الانتخابات المقبلة واضعنا كل خبرته الحياتية الطويلة ونزاهته رهن خدمة الشعب ولعله ينقذ ما تبقى من اجنحة الوطن المكسرة، وليعود فارس عبد الوهاب امين فارسا حاملا تاريخ ثورة ١٤ تموز المشرف بكف وتطلعاته الاقتصادية والتنموية في كف اخرى، ولتبقى كلمة الشعب هي الحاكم لعلها تستجير نفسها للتحرر من سنوات الطائفية والمحاصصة ولتضع ثقتها بابن الزعيم والثورة والشعب.