إن مآسي العراق والعراقيين المزمنة، بحاجة إلى شاعر مثل مظفر النواب، يجسد سرمدية الحزن العميق في وجدان الضمير العراقي والآه الوطنية كدمار أور أو إحتلال بغداد، أو دينية كمقتل الحسين، وأحياناً لسبب آخر كفقدان الأهل أو فراق الأحبة.
وعندما تسمع هذه القصائد والتي عادة ما تغنى بلحن عراقي حزين لاتكاد تتمالك نفسك من الأجهاش في البكاء.
وكما هو السياب يمثل إنعطافة في الشعر العربي، يمثل مظفر النواب إنعطافة في الشعر الشعبي، بل هو متنبي الشعر الشعبي بحداثوية فاصلة في الثقافة، وأعتقد أنه أكبر تحد يواجه النقاد عندما يكتب في الشعر الشعبي، فهذا اللون من شعره، شعبوي بمفرداته، وأدباً رفيعاً نخبوي برمزيته وكناياته واستعاراته، يمزج بين بيئتنا وطقوسنا وخرافاتنا، ولربما يختصر شخصيتنا العراقية يطرح مشكلاتها دون أن يجرح شعورها، كما فعل عالم الأجتماع الكبير علي الوردي.
حتى شكك بعض النقاد في عائدية ديوان (للريل وحمد) للشاعر مظفر النواب أو لم يجدوا تفسيراً، كون مظفر النواب إبن الحاضرة بغداد والكاظمي النشأة لا يمت بصلة الى الجنوب ولهجته والحسكة، ولغة الديوان جنوبية عامية شديدة الحبكة وغير هذا فأن مظفر النواب لم يكرر تجربة للريل وحمد طيلة أربعين عام، واليوم ديوان للريل وحمد مسجل بأسم الشاعر العظيم مظفر النواب بشكل رسمي.
قصيدة للريل حمد أول ما سمعتها تغنى من قبل ياس خضر، ولكن الكثير لم يفهم كلماتها الممزوجة بمياه الأهوار والقصب والنخيل, وحتى الجنوبيين لم يفهموا رمزيتها التي تعكس نبض العذاب والقهر الأجتماعي والسياسي والذي لا ينفك عنهم لافي الحياة ولا بعد الممات متجذراً فيهم كعلاقتهم بالأرض، فوددت أن أشرحها ليفهمها الجمهور.
بدأ مظفر النواب كتابتها عام 1956 وأنتهى منها عام 1958، وبدأت قصتها عندما كان الشاعر مسافراً في القطار في الدرجة الثالث.. كانت تجلس أمامه إمرأة أربعينة جميلة الملاح والقسمات، وكانت متعبة وتجافي عيونها النوم.. فتحدث معها وحكت له قصتها، كان القطار يمر بقرية أم الشامات.. فكان يبطيء ولا يتوقف، وفي هذه القرية أحبت هذه المرأة إبن عمها، وأشتهر حبهما.. وحسب العادات والأعراف القبلية لايجوز تزويجهما.. فأضطرت المرأة للهرب إلى بغداد وعاشت حياتها هناك.. وكلما صعدت قطار الجنوب، يمر بمضيف حبيبها.. فتعود بها الذكريات.. وهكذا تراءت الصور الشعرية أمام شاعرنا ليصف مشاعرها بحوارية رائعة بينها ولسان حال الحبيب حمد وتنتقل أحياناً لمخاطبة القطار.
القصيدة مع الشرح:
(( على ماء الصبح أحبته ..
على ماء الليل، كان للهجر قمر،
ومرَّ القطار))
كعادة البعض من الشعراء من جيل الستينات، يبتدؤون قصائدهم بمقطوعة نثرية ..فقد اختصر شاعرنا قصة قصيدتة بكلمات وهي تصلح قصيدة نثر كما هو متعارف عليها اليوم.. ويقصد إنها أحبته وهي بكر بنقاء الماء.. وهجرته ليلاً كأنها القمر ويشير كذلك الى قصر فترة حبهما عند الصباح أحبته وفي الليل هجرته ..وعندما مرَّ القطار على قرية الحبيب حمد.. لم يتغير شيء بقيت الأمور على نصابها.
مرّينه بيكم حمد، واحنه بغطار الليل
وسمعنه د گ اﮔهوه..
وشمينه ريحة هيل
ياريل..
صِيح ابقهر..
صيحة عشـگ، يا ريل
هودر هواهم،
ولك،
حدر السنابل ﮔـطه
عند مرور القطار (الغطار) بمضارب الحبيب حمد والتي تذكي من مضيفه رائحة القهوة والهيل، عادت بها الذكريات المريرة، فنادت على القطار (الريل) أن يصرخ بألم ممزوج بحزن عميق (ابقهر) صرخة عشق، فقد كان حبها يغلي كنار هادئة (هودر هواهم: يقال للقدر الذي يغلي على نار هادئة والتي تنضج الطعام بالكامل (هدر))،(حدر السنابل ﮔـطه) وهي في عنفوان أنوثتها وكان شعرها ينسدل على كتفيها كأنه بصفار السنابل وقد انتشر على نهدين جميلين كأنهما طائرا قطا، وهي كناية رائعة.
يابو محابس شذر، يلشاد خزامات
ياريل بالله.. ابغنج
من تجزي بام شامات
ولاتمشي.. مشية هجر..
ﮔلبي..
بعد ما مات
هودر هواهم،
ولك،
حدر السنابل ﮔـطه
فيجب لسان حال حمد على نداء محبوبته التي تلبس خواتم في أصابعها فيها أحجار شذرية اللون وتضع على أنفها خزامة وهي إحدى المصوغات الذهبية التي تتزين بها النساء في تلك الفترة ومازالت النساء في الهند يستخدمنها في الزينة، ثم يطلب من القطار أن يسير بدلال (ابغنج) عندما يجتازالقرية التي يقطنها أم شامات ولا يمشي بسرعة (مشية هجر) وذلك ترفقا بقلبه الذي مازال نابضا بحبها فهو لم يمت بعد.
جيزي المحطة..
بحزن..
وونين..
يَفراﮔين
ماونسونه، بعشـﮔهم..
عيب تتونسين
ياريل..
جيّم حزن..
اهل الهوى، امـﭼيمين
هودر هواهم،
ولك،
حدر السنابل ﮔـطه
فتجيب محبوبة حمد الجالسة أمام شاعرنا على توسلات وترجي حمد من القطار بالتوقف، فتأمره بمواصلة السير وأن تجتاز أو تتخطى عربات القطار (الفراكين) كموكب حزن وأنين، والسبب أنه لم يؤنسها أو يسعدها بعشقه، فمن العيب أن تسير عربات القطار (الفراكين) بفرح وزهو أمام المحطة أو تتسلى بمسيرها الرتيب في هذه المحطة.
وتطلب من القطار مرة أخرى بقولها (ياريل) أن يبقى حزيناً حتى يتراكم (جيّم) الحزن عليه كما تراكم الصدأ على بعض مفاصله الحديدية.. لأن أهل الهوى جميعهم قد ركبهم الحزن منذ عقود (اهل الهوى، امـﭼيمين) حتى تراكم كالصدأ.
ياريل،
طلعوا دَغَش..
والعشـﮔـ جذابي
دگ بيّه كل العمر..
مايطفه عطابي
نتوالف ويه الدرب،
وترابك
ترابي
هودر هواهم،
ولك،
حدر السنابل ﮔـطه
والسبب أنها وجدت حبيبها مغشوش( دغش) كما أن عشقه كان كاذباً وتطلب من القطار أن يسير بها دون توقف(دگ) كل العمر دون أن تطفأ جمرة ألمها ( ما يطفه عطابي: العطاب هو الجمرة في نهاية لفافة من القماش كانت تستخدم للكي من بعض الأمراض في التداوي الشعبي الذي كان سائداً انذاك) وتطلب منه أن تأتلف معه طول الدرب، حتى بعد الممات يدفنون سوية في نفس التراب.
( ويبدو من سياق القصيدة: أنها اتفقت مع محبوبها حمد على الهرب سوية الى بغداد، بعد أن رفض أهلها أن يزوجها له، كما هي العادة المتبعة من قبل الكثير من العشاق في ذلك الوقت، وبعد هروبهم يلجأون إلى إحدى العشائر المجاورة التي توفر لهم المأوى والأمن من أهلها، أو يهربوا الى المدن المكتضة بالسكان كالعاصمة بغداد ويأمنوا الطلب في زحمة الناس وسعة المدينة، ولكن حبيبها خاف من أهلها في اللحظات الأخيرة ولم يأتي معها فتركها تلاقي مصيرها المحتوم لوحدها لأنها لاتستطيع العودة الى منزلها بعد أن هربت منه خوفاً من أهلها)
آنه ارد ألوگ الحمد.. مالوگن أنا لغيره
يجفّلني برد الصبح..
وتلجلج الليرة
ياريل باول زغرنه..
لعبنه طفيره
هودر هواهم،
ولك،
حدر السنابل ﮔـطه
ولكنَّ ما ذكرته كان مجرد فورة وسرعان ما تعود إلى أحلامها الوردية، فهي تريد أن تليق بحمد كزوج لها فهو يناسبها، ولا تليق بأحدٍ غيره، ترتدي قلادة تتلألأ فيها الليرة الذهبية على جيدها، وعندما تغتسل صباحاً كعادة العروسين يَنَفرها أو يجعلها ترتعش (يجفّلني) برد الصباح بعد أن كان جسدها دافئاً، وتعود للحديث مع القطار وتقول له بأنها لعبت مع حبيبها في أول صغرهما لعبة الطفيرة ( الطفيرة: وهي أن يخط الأطفال مربعات على الأرض ويقوم أحدهم بالقفز بين هذه المربعات برجل واحدة ويأخذ كل واحدٍ منهم دوره في اللعب).
جن حمد..
فضة عرس..
جن حمد نَرﮔيله
امدﮔدگ بمي الشذر،
ومشلّه اشليله
ياريل..
ثـﮔل يبويه..
اوخِل أناغيله
يمكن أناغي بحزن منغه..
و يحن الـﮔطه
وهنا تشبه حبيبها حمد كأنه فضة عرس لأن الفضة عندما تمضي عليها الأيام تتأكسد بسبب الجو فيصبح عليها شيء من السواد أما حمد فهو فضة عرس للتو أنتهى الصائغ من صناعتها فهي تتلألأ ليس كبقية المصوغات الفضية القديمة، وقد وشم بماء الشذر وتقصد أن لون الوشم على جسده شذري، ورفع طرف ثوبه ووضعه في حزامه (ومشله اشليله) كما يفعل الشباب في ذلك الوقت دليل على فتوته ونجابته، ثم تطلب من القطار أن يخفف من سيره (ياريل..ثـﮔل يبويه) ودعني (اوخِل) أغازل حبيبي حمد بحزن وسوف يحن لهذا المنغى طائر القطا (كلمة ناغى الصبي: لاطفه بالمحادثة وناغى الفتاة غازلها)
أرد اشري جنجل
والبس الليل خزامه
وارسم بدمع الضحـﭺ
نجمه
وهوه
وشامه
ويا حلوه بين النجم
طباﮔـه لحزامه
هودر هواهم،
ولك،
حدر السنابل ﮔـطه
وتستمر بسرد حلمها فتريد أن تشتري خلخال (جنجل) وهو أحد المصوغات الذهبية أو الفضية مثل السوار تلبسه المرأة في كعب رجلها، وتجعل من الليل كأنه خزامة وترسم بدموع الفرح نجمة وهواء وتقصد السماء وخال (شامة) ، ثم تختار أجمل النجوم من السماء وتجعلها زِرّاً لحزامه (طباﮔـه: والمقصود طباقية وهي جزئين في طرفي الحزام عندما يرتديه الرجل يدخل أحد الجزئين في الأخرى)
ﮔضبة دفو، يانهد
لملمك.. برد الصبح
ويرجفنّك، فراﮔين الهوه.. ياسرح
ياريل ..
لا.. لا تفزّزهن..
تهيج الجرح
خليهن يهودرن..
حدر الحراير ﮔـطه
وتصف جسدها البض وتقول عن نهدها بأنه قبضة من الدفء، ولكن برد الصباح لملمه وجعله منقبضاً، وأرتجف قلبها بدفعات الحب(ويرجفنّك، فراﮔين الهوه) عندما كان صريحا في حبه إلى حد البلاهة( ياسرح: تقصد قلبها والذي كان لايعرف غير الحب ولم يدلها عقلها لما سوف يؤول له هذا الحب من خيبة وخذلان من الحبيب).
ثم تطلب من القطار أن يدعها تستمر في حلمها الوردي ولايفززها من حلمها وتهيج جروحها المنكفئة ..دع الأحلام تتمكن مني كما تمكن الحب في قلبي والسبب هو أن تحت ظفريتي (الحرارير) طائر القطا.
جن ﮔذلتك ..
والشمس..
والهوه ..
هلهوله
شلايل البريسم..
والبريسم إلك سوله
واذري ذهب يامشط
يلخلـگ .. اشطوله!
بطول الشعر
والهوى البارد..
ينيم الـﮔطه
وهنا حمد يصف محبوبته ويرسم صورة عنها فيشبه خصلة الشعر المتدلية على جبينها ولمعانها في الشمس وملاعبة الهواء لها (هلهولة أو زغرودة) وهي عادة متعارف عليها في المجتمع صوت قوي ومسموع تطلقه النساء بتحريك اللسان، كردة فعل لسماع بشرى أو خبر مفرح أو للتعبير عن الفرح في الأعراس والمسرات، ثم يصف بقية شعرها (بشلايل البريسم) والمقصود بأنه كثيف ويشبه الحرير، وعندما تقوم بتمشيطه فأن المشط كأنه ينثر ذهباً (واذري ذهب يامشط ) ثم يعجب من المشط ويقول له كم هو صبرك طويل (يلخلـﮔ .. اشطوله) بطول شعرها، ويستمر برسم الصورة فينتقل لوصف نهدها (والهوى البارد..ينيم الـﮔطه) فيقول أن الهواء البارد جعل نهدها منقبضاً.
تَو العيون امتلن ….
ضحـﭽات … وسواليف
ونهودي ز مّن…
والطيور الزغيره..
تزيف
يا ريل..
سيّس هوانه،
وما اله مجاذيف
هودر هواهم،
ولك،
حدر السنابل ﮔـطه
فترد على حمد بقولها أن عيونها ما كادت تمتلأ ضحكات وحكايات عن الحب (تَو العيون امتلن .. ضحـﭽات … وسواليف)، وللتو نهداها نضجت وكعبت، وأحلامها مازالت صغيرة محلقة في السماء كما هي الطيور محلقة في السماء كأنها زرافات، حتى طفا حبنا على الماء (سيّس هوانه) وبدون أية مجاذيف ممكن أن تعيده إلى حافة النهر فأين يرسوا ؟؟؟