22 نوفمبر، 2024 8:22 م
Search
Close this search box.

أنصحك ألا تُغامر في قراءةِ هذه القصة إن لم تكُن مستعداً للإسفلت

أنصحك ألا تُغامر في قراءةِ هذه القصة إن لم تكُن مستعداً للإسفلت

من أنتَ؟
عزرائيل!
جِئتَ لِخطف روحي؟
قال: وهل تظنُ أتيتُ كي أُفاوضَك!؟

تَشَنَجتّ أعضائي، إنقبضت كلُ أجزاءَ جسمي متجهةً نحوَ التقلصِ، رَجَفتُ، وعَرُقَ جبيني، بدأتُ اشعرُ بالغثيان، وجفافٍ بشفتيَّ، أنفاسي بدأت تضيقُ شيئاً فشيئاً، اشعرُ في الوهلةِ الأولى بِخدرٍ في لساني، من ثم تحولَ إلى ثقلٍ، يكادُ أن يكونَ أثقلُ من الجبال، بل عجزٌ نهائيٌ عن التكلم، اخذَ صوتي ينخفضُ، ومن ثم تحول إلى حشرجةٍ، وبعدها إلى أنينٍ ضعيفْ، بعد ذلكَ لم اسمع صوتاً لي، رغم إني اصرخُ في داخلي، خدرٌ في أطرافِ أقدامي، تَطَورَ إلى خدرٍ في كلِ أجزاءَ جسمي، ما هذا؟ لم اعد اشعرُ بأعضائي, تحول ذلك الخدرُ إلى ألمٍ في عِظَامي, زادَ الألمُ في جسدي, اشعرُ بأنَ هناك شيئاً يتحركُ في داخلي, لا اعلمُ ما هو, لكن هناك شيئاً بدأَ بالسريانِ في جسدي, كسائلٍ هُلاميٍ, يسري داخلَ صدري, كأنهُ ماءٌ ساخنٌ يبحثُ عن منفذٍ له, إذ لا يرغبُ طويلاً بالاستقرارِ في داخلي, أو كانهُ ضيفاً غريباً عن ذلك الجِسم, مرتحلٌ يبغي ملاذاً آمناًّ لهُ في مكانٍ أخر, تخيلتُ ذلكَ في ساعةِ اصطكاكِ أسناني بعضها على بعضٍ, لا تنوي أن تنفرج مطلقاً, شيءُ ما قبضَ على فَكَيَّ, واَرغَمهُ على الانطباق, زادَ في جِفنّيَ الضغط, اشعرُ بقوةِ الدم الحار يتدفقُ من عينيَّ.إن عينيَّ تكادُ أن تنفجرْ ,امرٌ ما حصلَ لجفنيَّ, احسُ أن هناك قوةً عظيمةً تسحب بهما , كل جفنٍ باتجاهٍ معاكس, محاولةً شجَهما , بعد أن شعرت بالحرارة في رأسي وعيني, وقوة تدفق الدم, الآن اشعر بالبرودة. شيءٌ ما سحب هذا الدم من قمقم راسي, وانزله إلى اسفلَ قدمي, اشعر الآن أن كل شيء ينزل إلى الأسفل ويسري خارج جسدي, ليس الدمُ وحده, بل أنا أيضا اشعرُ بسقوطٍ حتمي نحو الأسفل, كأني في مكانٍ مرتفعٍ جداً, وها أنا الآن اهوي إلى وادٍ لا اعرف قراره, اَلمُ العِظام , وتوتر الجسد ,وانقباضاتهِ, بدأت تخف, كل الضغطِ والشد الذي أعاني منه زال, حل محله شعورٌ بالبرد, أما النَفَس, فقد بدأ ينقصُ إلى نهاياته, مع أخرِ نفسٍ كان متاحاً لي, فغرتُ فاهيَ بشهقةِ املٍ, لكنها لم تكن شهقةٌ آمِلةْ، كان اختناقٌ لابدَ منهُ, إذ إن ذلك الشيء الذي شبهته بالسائل الهُلاَمي, بدأ يصعدُ إلى فمي ويخرج على هيئةِ شيءٍ شبيهٍ بالغازِ المنبعث, لا اعلم لو كان أحداً بقربي هل سيشم له رائحة؟ أم سيشعر أن هناك شيئاً يخرج من فمي، أثناء تلك الشهقة. سمعته يقول: الآن سلبت روحك، فأذهب حيثُ تؤمر.

خرجت من جسدي، اشعر باني رأيته للحظةٍ عابرة، مسجى على رصيفٍ من الأسفلتِ عندما كنت أسير متوجهاً إلى بيتي.

دخلت في عالمٍ لا أرى فيه (لا الرصيف، ولا الجسد، ولا أنا).
كل ما اعرفه إنني أنا، لكن هل أستطيع أن أجدَ جسدي؟، لا أستطيع أن أُجيب، أنا الآن في فضاءٍ تائهٌ فيه، اشعر بخفةٍ تحسسني إنني أطير، فاني متأكدٌ من، لا ارض تحتي، كما إني لا أرى سماءٌ فوقي، كل ما أستطيع قوله إنني هائمٌ في فضاءٍ، لا أجد له أبعاد، ولا أستطيع أن أحدد له زمن.

بادرني صوت من ذلك السديم الذي أنا به. أنتَ يا أنسان، اليوم بدأت حياتُكَ الأخرى، وكل الذي حصل ما هو إلا ذرة من الزمن في عالمنا هذا.
قلت له
من أنتَ؟
أجابَ…..
نحنُ الملائكةُ الإدلاء….
سنرشدك إلى حيث العرض الختامي لما فعلته بحياتك.
لم أكن خائفاً بِقدرِ ما كنت مضطرباً من المشهد الجديد، كنت مستغرباً من هذا الشيء الذي صرتُ عليه.
في لحظةِ تَيهٍ، وجدتُ نفسي أمام تركيبةٍ غريبةٍ من الذهنيات، التي تعرض أمامي صوراً ومواقفاً من حياتي، كانت تسيرُ بسرعة، وكأن المكلف بهذا العمل كان يتقصد أن يُسَرِعَ تلك المشاهد، والصور. قلتُ هل ستعرضون عليَّ كل حياتي التي قضيتها طوالَ الخمسَ والثلاثين عاماً؟، لم اسمع صوت، لكن ذِهانٌ جاء لي، أن كل ما سيتم رؤيته، أو عرضه، ما هو إلا اقل من لحظاتٍ، عن العالم الذي كنت فيه.
تقريبا شعرت براحةٍ، أو اطمئنان، لا اعلم لماذا، لكني مستعدٌ لهذا العالم، قد اشعر بالانمتاء الآن لهذا السديم، كم مضى عليَّ الآن وحصلت على هذا الاطمئنان؟، قد يكونَ عشرَ سنين؟، أكثر أو اقل؟ منذُ فترةَ رحيلي عن العالم الذي كنت فيه، لا اعلم كم؟ ولم أريد أن اسأل كم مضى عليِّ.
لا أستطيع أن أصفَ نفسي، كل ما اشعر به الآن إنني متحدٌ بلا جسم، مع هذا الفضاء، سائحٌ فيه، لا اشعر بأي جزءٍ ماديٍ في داخلي، سوى إنني أنا.

أخذت استرجع.
فور استرجاعي للأمر الذي خطر ببالي ظهرت لي الصور، لحظتها ذهب ذهني إلى استذكار (أهلي، زوجتي، وأبنائي).

فوراً ظهر لي شيئاً أشبه بالعرض السنيمائي، لكنه مختلف! مختلفٌ جداً ، لأنه لم يكن مادي، أو على شكل شاشاتٍ، بل كل شيء يجري هنا أراه في داخلي، ليس على شكل مؤثراتٍ صِوَريةٍ أو صوتيةٍ بالخارج، بل هو يظهر لي بال أنا التي أنا فيها…. أوووه!!!

انه امرٌ لا يمكن أن أصِفه لكم، دعوني اشرح لكم ما شاهدت.
حين ذلك، رايتهم في البيت يجلسون على التليفزيون، بينما طرقَ الباب أحدهم، ذلك الشخص أنا لا اعرفه، لم يكن صديقاً لي، ولم أشاهده من قبل، ذهني ذهب للتفسير الفوري في ذلك العالم انه (فاعل خير) فَتَحَتْ له الباب أمي، وقال لها:

حجية السلام عليكم

إبنكم وقع مغشياً عليه بالقربِ من دائرة البلدية على الشارع العام، ونقلوه إلى المستشفى، واتصلنا بابيه وكان الجهاز مغلق.

رأيت أمي لطمت وجهها وصرخت، وقالت “يمه ابني”! وين هسه هو؟
قال لها في المستشفى العام، ركَضَت أمي للبيت تصرخ، وحيد، مدري شبيه، وحيد أخذوه إلى المستشفى، رأيت أطفالي، تسمروا في مكانهم، فعثمان فغرَ فاهَهُ مُنصتاً، وزهراء، رفعت راسها والحزن خيم عليها، وزوجتي وضعت يدها على فمها واصفر وجهها، بينما الأكبرُ من أولادي أرشد، سمعته قال، بابا شبيه؟ شكو؟

في تلك الأثناء، هبط الجبلُ من السريرِ راكضاً نحو الصالة، التي عجت بالصوت العالي، والاستفسارات، استيقظَ أبي، على أثر الجلبة التي حصلت، وركض بلا سؤالٍ عما حدث إلى سيارته، يبدو انه تلقف ملخص الحادثة، صاحت عليه أمي أروح وياك؟

قال لها: لا، ابقي هنا، ما نعرف يمكن يحتاج إلى نقل لمستشفى أخرى؟ سأتصل بكم من هناك.
قطعت المشهد هذا، حينما ذهب ذهني إلى، وماذا حصل لهم لما عرفوا إني مت؟، فوراً بنفس الحظة، سيق لي مشهدُ (اللطمِ، والنواحِ، والصراخ، والبكاء عليَّ)، كانت أمي تصرخ بإسمي، بينما كانت زوجتي مذهولةً من الضياع الذي خيم عليها، في لحظةٍ ما_ تبكي وتصرخ، وتلطم وجهها، وفي لحظةٍ أخرى، تَسكُنُ ويأخُذَها الفتور، وتصمت، كأنها ترى شيئاً أمامها، بينما أطفالي يلعبون بالخارج.
لا اعلم كم بقوا على هذا الحال، أي ما المدة التي حزنوا فيها عليَّ؟، لأنني ذكرت لكم مسبقاً، أن التوقيتات هنا، ليست كما عندكم، إنها توقيتاتٌ لحظيةٌ، بل بعبارةٍ أدق إنها آنيةٌ. دعوني أبالغُ بفرضيةِ، اَنهم قضوا سنةً من الحزنِ عليِّ.
شاهدتهم بعد ذلك انصرفوا إلى أعمالهم، لا شك أن أمي كانت ترتدي الأسود، وزوجتي كذلك.
بعد فترةٍ، وفي عرس أخي، الكلُ كان يرقص مبتهجاً، ويغني، والجميع كان منتشياً سعيداً، كذلك لا أستطيع أن أخبركم كم من الوقت مضى، حتى تهايؤا لزواج أخي، ونسياني.
أظن إنكم اعرف بتلك التوقيتات، فالمفروض أنتم من يعلمني بها؟
زوجتي في بيت أهلها….. أراها بين الحين والآخر تأتي إلى بيتنا، بصحبةِ أطفالي.
نسيت، أن أطفالي لم يعودوا أطفالاً, بل كبروا كثيراً عما تركتهم عليه.
الحياةُ لديهم مستقرة، يتبادلون التحايا، والابتسامات، والكلام العام، ونفس الهموم، والمشاكل العامة.
هي نَفسُها الحياة العادية التي رَحلتُ عنها، لا شيء تغير، فقط أنا لستُ معهم، كلٌ منهم ذهب إلى عالمه الخاص به، والاهتمام بشئونه، وإدارة مصالحه، ثمةَ شيء لم أخبركم به، في كل تلك المشاهد الحية التي وردتني عن المستقبل، كنت أرى ضلاً إتَشحَ بالسواد، في كل هذه السلسلة الحياتية لأهل الأرض التي رايتُها، هناك خيال لم يفارق هذه السلسلة المرئية.

خيالاً على هيئة بشرٍ ينحني واضعا يده على وجهه، ويجلس على سريره.

تساءلت في ذهني، ما هذا الخيال الذي لم أميزه للحظة؟
شهقت حينما رأيتُ أبي ينعزلُ عن البشر، وعن سعادتهم، والتصاقهم بالحياة، وهو يضع يده على وجهه، ينحني وهو جالسٌ على السريرِ يبكيني! وبجنبه كتابُ اللهِ يقرأهُ لي.
لم تسقط مني دمعة، لأنني لا أستطيع البكاء، لكوني بلا جسد، لكن عصرني الألمُ عليه، وَدَدتُ أن اقبله، وارمي بنفسي عليه، واحتضنهُ، إنني محتاجٌ جداً، أن أشمَ رائحتهُ، فهبت عليَّ نسمةٌ تحملُ رائحةَ أبي.
كانَ يتلوا عليَّ القرآن.

أحدث المقالات