إعداد/ صافيناز محمد أحمد
إعلان الانتصار على تنظيم الدولة في العراق وسوريا، وملاحقته منذ مطلع العام الجاري (2018) فيما تبقى له من جيوب في منطقة الحدود العراقية- السورية، قد يشير إلى انتهاء المرحلة الصعبة في مواجهة التنظيم؛ وهي مرحلة الحرب والمواجهة العسكرية، لكنه في الوقت ذاته يُفسح المجال مجددا أمام مرحلة جديدة تكاد تكون أكثر صعوبة من سابقتها على الدولتين، وعلى القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في التحالف الدولي لمحاربة التنظيم. مكمن الصعوبة هنا يعود إلى ما نتج عن تلك الحرب من تداعيات على أمن وسيادة الدولة العراقية والسورية من ناحية، وعلى متطلبات مرحلة ما بعد القضاء على التنظيم التي تواجه الدولتين من ناحية ثانية، وعلى مستقبل الأمن والاستقرار في المناطق التي تم تحريرها؛ سواء في العراق (محافظات ديالي وصلاح الدين ونينوى، والموصل، والأنبار، وكركوك)، أو في سوريا (محافظات الرقة ودير الزور، وبعض مناطق الشمال الكردية)، وكيفية منع التنظيم وعناصره من العودة للاستقرار في تلك المناطق مجددا من ناحية ثالثة.
أولا: تحديات الاستقرار في المناطق المحررة
1- حالة العراق
عودة الأمن والاستقرار إلى المناطق العراقية المحررة من سيطرة تنظيم الدولة، ترتبط إلى حد كبير بجملة من التحديات، يمكن رصدها فيما يلي.
– الدمار الشامل الذي تعاني منه البيئة الحياتية في المناطق المحررة؛ لاسيما التدميرالذي لحق بالبنية التحتية، الأمر الذي يجعل من عودة الخدمات الصحية والسكانية والإدارية إلى تلك المناطق هدفا صعب التحقق في المدى المنظور. وهو ما يعني استمرار تراجع النشاط الاقتصادي لتلك المناطق بما ينال سلبا من قدرة الحكومة على تلبية الاحتياجات المعيشية لمن بقي من سكانها فيها، أو لمن سيعودون إليها من النازحين. هذا فضلا عن رفض العديد من السكان الرجوع إلى ديارهم تخوفا من وجود جيوب لتنظيم الدولة، بإمكانها العودة لمزاولة نشاطها من جديد في ظل عدم فرض الدولة لسطوتها الأمنية في معظم تلك المناطق حتى الآن.
– النزاعات متعددة الحلقات التي من المحتمل أن تبرز إلى سطح الأحداث في بعض المناطق المحررة بين سكانها وعشائرها؛ ففي بعض تلك المناطق نشأت صراعات مسلحة بين العشائر، أو ما سُمي بتشكيلات الحماية الشعبية، حول من يتولى مهمة الأمن والإدارة على الأرض إلى جانب القوات الحكومية. ويعود ذلك الخلاف إلى مشكلة أعمق تواجه الحكومة العراقية ومتمثلة في انتشار السلاح على نطاق واسع بين السكان خلال السنوات الماضية (انتشار التشكيلات الشعبية المسلحة)، كرد فعل على سيطرة داعش على عدد من المحافظات العراقية (الفترة من 2014- 2017)، وكرد فعل أيضا على حالة الانتقام الطائفي الذي مارسته الميليشيات الشيعية المختلفة، ضد السكان السنة في مناطق سيطرة داعش، ومنها الحشد الشعبي.[1]
– ضبط مناطق الحدود بين العراق وسوريا، وهي المنطقة الأكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية؛ حيث يتواجد بها نطاق صحراوي كبير (صحراء البادية السورية الممتدة من جنوب شرق سوريا وصولا إلى صحراء الأنبار غرب العراق). هذ النطاق الصحراوي يوفر بيئة ملائمة لهروب مقاتلي تنظيم الدولة، ويوفر كذلك فرص لإعادة تأهيل أدوار ما بقي من تشكيلاته المسلحة مرة أخرى. لذلك، فإن مهمة ضبط الحدود تُعد من أصعب مهام الحكومة العراقية خلال المرحلة القادمة. والتحدي نفسه في سوريا، لكن مع اختلاف واضح يتمثل في أن الحكومة السورية تفقد السيطرة على نطاق واسع من محافظات الشرق الحدودية مع العراق التي تخضع لعمل قوات النخبة الأمريكية. والتي لا ترغب في إفساح المجال أمام سيطرة النظام السوري على مجمل الحدود مع العراق؛ على اعتبار أن ذلك يوفر لإيران -الحليف الاستراتيجي للحكومتين السورية والعراقية- فرصة السيطرة على منطقة الحدود، وبالتالي تواصل المشروع الإقليمي لإيران عبر محطتيه العراقية والسورية.[2]
– القضاء على تنظيم الدولة عسكريا لا يعني القضاء عليه فكريا؛ هذا التحدي يرتبط بممارسات الحكومات الشيعية المتتالية ضد مكونات الشعب العراقي، وتحديدا ضد السنة والأكراد، وما خلقته من احتقان طائفي نتيجة لسياسات التهميش والإقصاء التي مورست ضد تلك المكونات خلال السنوات الماضية. الأمر الذي خلق في أوساطها تيارات ذات فكر ديني متشدد ومتطرف يشعر بالمظلومية ويتحرك بفكر انتقامي غاية في الوحشية، ويغلب ثقافة العنف على لغة الحوار. وبالتالي، فإن الحكومة العراقية مطالبة بعدة إجراءات سياسية واجتماعية لمواجهة داعش فكريا. من ذلك، على سبيل المثال، معالجة حالة التهميش المقصودة والمتعمدة ضد المكون العربي السني بإتاحة المجال أمام مشاركة سياسية واسعة وفعالة لأحزاب وقوى هذا المكون خلال المرحلة القادمة. بالإضافة إلى تطبيق سياسات اجتماعية واقتصادية لا تستثني المحافظات ذات الغالبية السنية من عائداتها، فضلا عن اتباع سياسيات للقضاء على حالة الانقسام السني الشيعي المتحكمة في مسار الحياة السياسية والاجتماعية في العراق منذ الاجتياح الأمريكي له في عام 2003 ، وحتى الآن.[3]
– النفوذ الإيراني في العراق، والذي يُعد أحد التحديات التي تواجه الحكومة العراقية وتعيق من عملية فرض الأمن والاستقرار في المناطق المحررة من داعش. ويرجع ذلك إلى سياسات إيران وميليشياتها في العراق التي شاركت في الحرب ضد تنظيم الدولة. فقد عملت تلك الميليشيات على تطبيق سياسات التغيير الديموغرافي في العديد من المحافظات السنية، والتي شهدت تمركزا لعناصر تنظيم الدولة بها. فضلا عن ضمان منفذ لها عبر الحدود العراقية- السورية، وتحديدا معبر الوليد المقابل لمعبر التنف السوري. أضف إلى ذلك ضمان تواجد ميليشيات تابعة لها في منطقة الحدود العراقية مع السعودية. هذا الإحكام الاستراتيجي الذي تحاول إيران فرضه في العراق – عبر السيطرة على قرارات الحكومة العراقية فيما يتعلق بمواجهة داعش والمرحلة التالية عليها – يخلق بمرور الوقت اتجاها مضادا من جانب التيارات العشائرية السنية، ويدفع العديد منها إلى التطرف، وتبني أفكار تنظيم الدولة صاحب التيار الديني السني كأحد وسائل مواجهة السيطرة الشيعية الإيرانية على العراق. مكمن التخوف هنا، وبعد إعلان الانتصار على داعش في تلك المحافظات، أن مشروع توظيف داعش كوسيلة لمواجهة السيطرة الشيعية في العراق على المدن السنية، لايزال يلقى قبولا شعبيا من أبناء وعشائر تلك المحافظات، ولو على المستوى النظري (فكريا). ويأتي التحدي هنا في حالة عدم قدرة الحكومة العراقية على استيعاب هذه المدن سياسا واجتماعيا؛ لأن ذلك قد يدفع عشائر تلك المدن إلى خيار تبني أفكار داعش من جديد. [4]
– تصاعد الأزمات السياسية في عدد من المناطق المحررة بصورة تهدد حالة “الأمن الهش” في هذه المناطق؛ بما قد يخلق مُسببات لعودة الجماعات المتطرفة للتمركز فيها، وهي أزمات يتطابق فيها البعد السياسي مع حالة الانقسامات التقليدية الموجودة في العراق كالصراعات الطائفية والعرقية التي عادت للظهور مجددا على الساحة. من ذلك، على سبيل المثال، الخلاف بين ممثلي محافظة نينوى وبين الأحزاب الشيعية المسيطرة على الحكومة العراقية، والتي وصلت في أغسطس من العام 2017 إلى حد المواجهة المسلحة بين عشائر المحافظة (مقاتلو حرس نينوى السنة) وعناصر ضمن الحشد الشعبي (الشيعة). ومع مطلع العام 2018 برز خلاف من نوع آخر في المحافظة تمثل في التنافس بين القوى السياسية السنية والشيعية على تمثيل المحافظة استعدادا للانتخابات المحلية والبرلمانية في مايو 2019. هذا فضلا عن الخلافات بين قوى المحافظة على حصة العشائر من عقود عملية إعادة الإعمار. يضاف إلى ذلك حدوث عدة تطورات في محافظات صلاح الدين والأنبار؛ حيث تم اعتقال محافظ الأولى على خلفية قضايا فساد، بينما تم إقالة محافظ الثانية بعد ضغوط مارسها أحد التحالفات السياسية داخل المحافظة على الحكومة. هذه التطورات لها أهميتها، خاصة أنها تستبق مرحلة الاستعداد للانتخابات، لاسيما الأهمية التي يعكسها الاستقرار من عدمه في محافظة الأنبار كونها واقعة في نطاق الحزام الجغرافي الذي يربط العراق بكل من سوريا والأردن. ومن ثم، فإن صراعات القوى بالمحافظات المستعادة تؤثر سلبا على حالة الاستقرار والأمن بها. وهي حالة تكاد تشبه الحالة التي كانت عليها تلك المدن قبيل مهاجمة تنظيم الدولة لها، باستثناء أن حكومة العبادي الحالية تحاول إبعاد أجهزة الأمن بتلك المحافظات عن الخلافات والصراعات الداخلية الموجودة بين القوى السياسية بالمحافظة.[5]
– حالة الغموض التي تكتنف عملية إعادة إعمار المناطق المحررة، فضلا عن كونها عملية معقدة لاسيما في المناطق الأكثر دمارا كمدن الرمادي والفالوجة (محافظة الأنبار) والموصل (محافظة نينوى)، حيث إن الجهات المانحة للدعم المادي للمساهمة في جهود إعادة الإعمار لن تتخذ خطوات جادة في هذا الشأن، طالما لم يتضح المسار الحكومي بشأن فرض الأمن والاستقرار في المناطق المستعادة من داعش. ناهيك عن تحسبها لما ستنتجه الانتخابات البرلمانية القادمة، والقوى التي ستشكل الحكومة الجديدة. هذا بخلاف أن مشروعات إعادة تأهيل البنية التحتية التي يقوم بها كل من صندوق النقد الدولي والأمم المتحدة في محافظة الأنبار غير كافية لمعالجة حجم الدمار الشامل التي تعرضت له المدينة.[6]
2- حالة سوريا
في الحالة السورية تتلخص التحديات التي تواجه المناطق المحررة من تنظيم الدولة وهي؛ الرقة ودير الزور ومناطق الشمال الشرقي في النقاط التالية:
– يمثل تنافس القوى الدولية والإقليمية على ميراث تنظيم الدولة في سوريا أكبر تحديات تحقيق الاستقرار في المناطق المحررة؛ فهذه القوى، وفي إطار صراع النفوذ فيما بينها، ستسعى إلى زيادة حصيلة سيطرة حلفائها العاملين على أرض الصراع الميداني، عبر “قضم” المناطق التي كانت خاضعة للتنظيم، لأن ذلك يمكنها من امتلاك ورقة ضغط تفاوضية في أي مباحثات للتسوية. يزداد تأثير هذا التحدي على خلفية تزامنه مع غياب النظام السوري، ومن ثم الحكومة السورية، عن بعض تلك المناطق، والتي أصبحت خاضعة لقوى دولية وإقليمية. فضلا عن غياب رؤية استراتيجية لقوى المعارضة السورية المتواجدة في تلك المناطق حول كيفية إعادة الاستقرار في هذه المناطق، باستثناء الأكراد وتحديدا قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة، والتي استطاعت فرض إدارة ذاتية لتيسير حياة المواطنين في مناطق تمركزها شمال سوريا. إلى جانب تشكيل مجلس محلي لإدارة محافظة الرقة تحت مظلة التحالف الدولي. وتعتبر مناطق سيطرة الأكراد من أكثر المناطق التي يتحقق فيها قدر معقول من الاستقرار الناتج عن حالة النشاط التي تقدمها الإدارة في مجالات تقديم الخدمات.[7]
– حالة الهجرة شبه الجماعية من المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري، خاصة فئات الشباب ممن هم في سن الخدمة العسكرية، بالإضافة إلى الخوف من الاعتقال والتنكيل بتهم التعاون مع داعش، تعد من التحديات التي تواجه عملية فرض استراتيجيات أمنية في بعض المناطق التي حررها النظام من داعش. إذ لازالت أزمة الثقة بين السكان والسلطة قائمة في تلك المناطق.[8]
– الثغرات الأمنية الناتجة عن غياب العملية السياسية الشاملة في سوريا نتيجة لمستويات الصراع المتعددة ما بين (النظام والمعارضة)، وما بين (القوى الدولية والإقليمية) المنخرطة في الصراع. هذه الثغرات تسهم بقوة في احتمال عودة مقاتلي التنظيم للمناطق المحررة، أو على أقل تقدير تبقى عرضة لضربات الخلايا النائمة بها. هذا فضلا عن احتمال استخدام القوى الخارجية المنخرطة في الأزمة لبعض عناصر التنظيم، أو غيره من الجماعات المتطرفة، كأداة للضغط على غيرها من القوى المناوئه لمصالحها في سوريا. هذه الخطوة تحديدا تعد أكثر الاحتمالات كارثية على المدى المنظور بالنسبة لمسار الأزمة السورية.[9]
– مساهمة العمليات العسكرية التي بدأت مع العام 2018 في كل من محافظة إدلب (تخضع لسيطرة المعارضة السورية المسلحة إلى جانب قوات هيئة تحرير الشام المتشددة) والتي يشنها النظام السوري من ناحية، وفي عفرين بمحافظة حلب التي تشنها تركيا ضد قوات سوريا الديمقراطية من ناحية ثانية، في ازدياد فرص عودة عناصر التنظيم إلى تلك المناطق؛ فثمة أنباء مصدرها قوى المعارضة السورية تقول بأن داعش يعيد ترتيب أوراقه وصفوفه في محاولة للعودة مستغلا حالة المظلوميات التي باتت تعاني منها المناطق المعرضة للقصف في كل من إدلب وعفرين، خاصة أن عملية عفرين أدت إلى انشغال الأكراد بمحاربة القوات التركية، ومن ثم إهمالها لعمليات تطهير الشمال السوري من جيوب تنظيم الدولة. هذا فضلا عن احتمال أن يتجه التنظيم إلى دعم وتمويل بعض الخلايا التابعة له في نطاقات خارج مناطق تمركزه في الرقة ودير الزور، ليضرب مناطق لم تكن تحت سيطرته من قبل؛ كالاتجاه لمناطق الغرب أو الجنوب السوري.[10]
ثانيا: داعش واحتمالات العودة إلى المناطق المحررة
على الرغم من أن العراق استعاد كافة المدن التي سيطر عليها تنظيم الدولة، وفي مقدمتها معقله في الموصل بمحافظة نينوى. وكذلك الوضع في سوريا حيث تمكنت قوات التحالف والنظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية من استعادة الرقة ودير الزور كاملة، إلا أن القوات الأمريكية التي تتخذ من شرق سوريا وشمالها مسرحا لعملياتها ضد تنظيم الدولة، رصدت قيام عدد من مقاتلي التنظيم بإعادة تموضعهم في منطقة الحدود العراقية السورية عبر صحراء البادية السورية الممتدة من مناطق جنوب شرق سوريا، وحتى مشارف صحراء غرب الأنبار العراقية. كما أدانت القيادة العسكرية الأمريكية في سوريا عملية عفرين التركية ضد حلفائها من الأكراد السوريين، وقالت إن العملية سمحت لمقاتلي داعش باستهداف منطقة الحدود العراقية مجددا بعد فترة من استتباب الأمن فيها، وذلك جراء توجيه الأكراد جهودهم العسكرية لمواجهة تركيا بدلا من ملاحقة فلول التنظيم. هذا بخلاف التصعيد المحتمل في المواجهة بين قوات النظام السوري وبين قوات سوريا الديمقراطية (الأكراد) مستقبلا، بعد أن استطاعت الأخيرة استعادة كل مناطق سيطرة داعش في الرقة، وأصبحت وحدها تسيطر على ما يقرب من 25% من مساحة الأراضي السورية. فالنظام السوري يرفض إجراءات الإدارة الذاتية للأكراد لمناطقهم في الشمال السوري، وتعتبر المواجهة بين النظام والأكراد من الصراعات الوارد اندلاعها على خلفية صراع الطرفين مع تنظيم الدولة، وهو إن حدث سيكون سببا مساهما وبقوة في عودة التنظيم إلى مناطق الشمال والشرق السوري.[11]
وفي حالة تمكن التنظيم من إعادة شن هجمات نوعية في بعض الجيوب – عبر انتهاج حرب العصابات – التي لازالت تحت سيطرتهم في كل من العراق وسوريا، فإن ذلك سيؤدي إلى إعاقة عملية فرض الأمن والاستقرار على المدى الطويل في المناطق المحررة. يصدق ذلك بشكل خاص في حالة العراق الذي تتوافر فيه بيئات محلية تعاني من اضطهاد طائفي وعرقي تمثل وقودا ومحفزا للارتباط بمقاتلي التنظيم، بما يمكن الأخير من العودة حال اندلاع أي مواجهات طائفية أو عرقية، وذلك على العكس من الحالة السورية التي تتراجع فيها مسببات الصراعات الطائفية والعرقية لصالح نوع آخر من الصراع، وهو صراع النفوذ بين القوى الدولية والإقليمية الذي يغطي على صراعات الطائفية التي لا تتواجد بصورة قوية، وإن كانت طبيعة تحالفات نظام الأسد الإقليمية في مرحلة الصراع الممتد على مدار سبعة سنوات قد اتخذت أبعادا طائفية بتحالفه مع إيران وحزب الله اللبناني.
هذه الرؤية يبني عليها البعض تصورا بشأن مستقبل فلول التنظيم في سوريا؛ فبينما يرى البعض أن داعش سيبقى إلى حد كبير قابعًا في العراق عبر الخلايا النائمة مع تراجع فعاليته، يرى البعض الآخر أنه سيتلاشى إلى حد كبير في سوريا عبر انضمام مقاتليه لجماعات دينية أخرى متطرفة لاتزال تعمل في الأراضي السورية، لاسيما تلك المتمركزه في مناطق الشمال الغربي وتحديدا في إدلب وريف حلب الجنوبي. وهناك اتجاه آخر تتبناه بعض مراكز دراسات الإرهاب والأعمال المسلحة – مركز “جين” الألماني على سبيل المثال – يرى أن هزيمة داعش في العراق وسوريا لن تُنهي وجوده، وإنما ستؤدي إلى انحسار عملياته على الأرض؛ أي أنه سيفقد وجوده ككيان جغرافي، وأن التنظيم في هذه الحالة سيتجه إلى تشكيل ما يُسمى بـ “دولة الظل” داخل المناطق التي فقدها في البلدين؛ أي سيظل يعمل كجماعة مسلحة لا ترتبط بمنطقة مركزية محددة.[12]
ثالثا: داعش بعد الهزيمة… سيناريوهات محتملة
العديد من التصورات وضعها المهتمون بشأن مستقبل تنظيم الدولة بعد خسائره في العراق وسوريا؛ فمع مطلع عام 2018 كان التساؤل الرئيسي حول التنظيم هو ماذا بعد الهزيمة؟ هل سينتهي داعش أم سيواصل عملياته ليس في العراق وسوريا فقط، وإنما في دول أخرى وبأنماط مختلفة؟ بالطبع لا توجد إجابة قاطعة على هذه التساؤلات، ولكن هناك أكثر من رأي أو سيناريو نناقشه فيما يلي:[13]
السيناريو الأول: يرى أن تنظيم الدولة في ظل محدودية خسائره البشرية، وكبر حجم خسائره الجغرافية في العراق وسوريا، وتكتيكاته بشأن الانسحاب من بعض مناطق المواجهات، لايزال يمتلك الأسلحة التي تمكنه من مواصلة ضرباته عبر ما يسمى بحرب العصابات. لاسيما في ظل وجود العديد من المؤمنين بفكر وعقيدة داعش العسكرية. هذا التصور يرى أيضا أن بإمكان التنظيم التحول إلى جماعات أشبه بحركة طالبان الأفغانية، وحزب العمال الكردستاني التركي المعارض. كما أن التنظيم ووفقا لهذا الاحتمال سيعلن عن نفسه من آن لآخر عبر عمليات ليس في العراق وسوريا فقط، وإنما في مناطق متفرقة من العالم، كتفجير الكمائن، واستهداف مراكز أمنية، وتبني تفجيرات في أماكن مؤثرة ، ودعم خلاياه النائمة في لعب دور بارز لتهديد أمن المناطق والدول المتواجدين بها…الخ.
السيناريو الثانى: اتجاه التنظيم للانتقال إلى دول أخرى غير العراق وسوريا؛ وتحديدا أفغانستان وليبيا، وهنا سيفقد تنظيم الدولة مسماه الذي ارتبط بدولة الخلافة في العراق والشام. هذا التصور يبرهن على أن موت التنظيم جغرافيا لا يلغي موته عقائديا وأيديولوجيا، طالما لازالت أفكار التنظيم تلقى مريدين وأنصار لها، وطالما استمرت حالة الصراع الداخلية في عدد من الدول لاسيما تلك القائمة على فكرة تعرض أحد أطراف ذلك الصراع إلى الغبن السياسي والاجتماعي.
السيناريو الثالث: اتجاه التنظيم إلى إعادة إنتاج نفسه في العراق وسوريا؛ ويستند إلى حالة الكمون الاختياري في عام 2008 التي قام بها عناصر تابعة للتنظيم (قبل أن يعلن عن نفسه كدولة خلافة)، وانضمت له فيما بعد في العراق، جراء الحملة الأمنية التي شنتها الحكومة العراقية على بعض العناصر المصنفين ضمن قوائم الإرهاب، حيث اختبأت تلك العناصر بداخل الموصل نفسها في كهوف ومخابئ تحت الأرض، إلى أن عادت للعمل علنية مرة أخرى عام 2014.
السياق السابق عرضه يشير إلى أن انتهاء التنظيم وفنائه تماما في مناطق انتشاره في كل من العراق وسوريا يعد تصور غير واقعي؛ فبالرغم من انحسار مناطق سيطرة التنظيم بصورة تكاد تكون شبه كاملة في البلدين، إلا أن إمكانية عودته إلى تلك المناطق لايزال احتمالا واردا، خاصة في ضوء الأنباء التي تشير إلى اختفاء عناصرالتنظيم بين المدنيين المتواجدين في المناطق المحررة، فضلا عن وجود العديد منهم ضمن النازحين، إضافة إلى الخلايا النائمة التي بإمكانها التحرك من جديد. ومن ثم تزداد احتمالات لجوء عناصر التنظيم إلى عمليات نوعية مؤثرة ضد قوى الأمن والجيش في العراق، أو ضد مناطق تمركز مقاتلي القوى الدولية والإقليمية المتواجدة في سوريا في المناطق التي تم تحريرها من قبضته مستقبلا. لاسيما مع تأخير عودة الدولة في العراق إلى تحمل مسئولياتها تجاه المواطنين في تلك المناطق، وتجاه عودة النازحين منها إلى ديارهم، وما يتطلبه ذلك من خطط حكومية في مجال الخدمات الإنسانية والبنية التحتية، فضلا عن مشاريع المصالحة الوطنية، ومعالجة السياسات التي أدت إلى تهميش وإقصاء أبناء تلك المحافظات ذات الأغلبية السنية، وهي السياسات التي كانت أحد أسباب احتضان معظم المدن ذات الغالبية السنية لتنظيم الدولة ومقاتليه. الأمر ذاته في سوريا؛ فاستمرار غياب تسوية سياسية ناجزة للصراع بين النظام والمعارضة، واحتدام صراع النفوذ الميداني والسياسي بين القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في الصراع، كلها عوامل قادرة على إعادة تغذية التطرف، وتوفير بيئة ملائمة لعمل تنظيم الدولة، فضلا عن احتمال استخدام بعض القوى الدولية والإقليمية لبعض الفصائل المتشددة في صراعها مع غيرها من القوى. مثل ها التطورات ستعيد فتح المجال مرة أخرى أمام عملية استنساخ جديدة لكيان متطرف ربما يكون أشرس وأكثر عنفا من التنظيمات السابقة. هذه الأوضاع ربما تفسر إسراع القوى الدولية المعنية بالصراع في سوريا تحديدا إلى إعلان تحسبها لعودة التنظيم؛ فنرى إعلان روسيا عن عدم توانيها عن توجيه ضربات جديدة للتنظيم حال إعادة تنظيم صفوفه مرة أخرى. بينما نرى الولايات المتحدة تعلن عن استمرارية بقائها في سوريا، متعللة بأن الحرب ضد داعش لم تنته بعد وإنما انحسرت فقط.
[1]إبراهيم الجلبي، “المناطق ما بعد داعش وتحديات الاستقرار والإعمار”، موقع الخلاصة، 27/2/2018. متاح على الرابط التالي: http://www.alkulasa.net/artical/894
[2]على البغدادي، “القوات العراقية تلاحق داعش في الصحراء وتحصّن الحدود مع سوريا”، صحيفة المستقبل اللبنانية، 10/1/2018.
[3]على عواضة، “العراق هزم داعش… ماذا بعد؟”، صحيفة النهار اللبنانية، 13/12/2017.
[4]”العراق ما بعد داعش: المعالجات والاحتمالات المستقبلية”،تقدير موقف، مجموعة التفكير الاستراتيجي،6/9/2017. متاح على الرابط التالي:
http://stgcenter.org/%D8%AA%D9%82%D8%AF%D9%8A%D8%B1-%D9%85%D9%88%D9%82%D9%81/item/938
انظر أيضا: د. أحمد عدنان الميالي، “المناطق المحررة مابعد داعش… تحديات وفرص”، ملتقى النبأ للحوار، 22/10/2016.متاح على الرابط التالي:
https://newstest.annabaa.org/arabic/authorsarticles/8355
[5] “صراع على قيادة المناطق المستعادة يعبّد طريق عودة داعش إلى العراق”، العرب اللندنية، 22/7/2017.
[6]إبراهيم الجلبي، مصدر سابق. انظر أيضا: “تعثر إعادة الإعمار يهدد السلام الهش المستعاد بالأنبا”، العرب اللندنية، 15/8/2017.
[7]غولاي ظاظا، “ثغرات سياسية وخدمية في المناطق المحررة من داعش”، المركز الكردي للدراسات، 20/1/2018.
http://nlka.net/index.php/2016-12-28-23-31-44/559-2018-01-20-11-18-25
[8] المصدر السابق.
[9] غولاي ظاظا، مصدر سابق.
[10]أحمد قاسم، مخاوف من عودة داعش مجددًا إلى سوريا… التنظيم الإرهابي يستعيد عافيته في ظل تنافس الشطرنج بين أمريكا وروسيا وإيران ونظام الأسد”، موقع صدى البلد، 6/2/2018. متاح على الرابط التالي:
https://www.elbalad.news/3156153
[11]”ما بعد داعش.. عاصفة الطائفية قد تجدد الصراع في سوريا والعراق”، صحيفة العرب اللندنية، 15/8/2017.
[12]”هل سيعود تنظيم داعش إلى المناطق التي خسرها في العراق وسوريا؟”، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، 2/12/2017. متاح على الرابط التالي:
[13]”سيناريوهات مستقبل داعش بعد هزيمته في العراق وسوريا”، موقع الوقت، 23 جمادي الثاني، 1438. متاح على الرابط التالي:
http://alwaght.com/ar/News/91901
انظر أيضا: د. أحمد غالب الشلاه، “العراق ما بعد داعش: قراءة في السيناريوهات المحتملة”، مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية، 25/2/2017. متاح على الرابط التالي:
http://mcsr.net/news237
المصدر/ مركز الأهرام للدراسات السياسية