حُرَّة مِنَ البصرَة “اُمُّ إيمان”، «سميرة عودة» وُلِدَت في “اُمّ العِراق” البصرَة عام 1951واُستشهِدَت فيها عام 1982م، وأتمَّت فيها دراستها الابتدائيَّة والمُتوسّطَّة والإعداديَّة وعام 1973م تخرَّجَتْ في جامعة البصرَة كُليَّة الآداب/ قسم اللُّغة العربيَّة، لتمارس التدريس في مُتوسّطَة الهارثة ثم في إعداديَّة القناديل للبنات. انتمت لحزب الدَّعوَة الإسلاميَّة مع أغلب أفراد اُسرَتها ودَفعَت أخاها زكي للشَّهادَة على أيدي عصابة البعث الإجراميَّة.. كانت بعض أحاديثها مع طالباتها وزميلاتها في الحجاب والأخلاق والجّهاد والتلميح ضدّ الاتحاد اللّاوطني لِطَلَبة الحزب العفلَقي وغايات نهضَة عاشوراء الحُسينيَّة ورفض ظُلُمات الظّلم. زوجُها الأُستاذ “عبدالأمير”، بَدَأَ مُقتبَل شبابه داعية في صفوف حزب الدَّعوَة الإسلاميَّة في حيّ الشُّهداء مِنطَقة سكنه وزوجته في المَعقِل حيث تُدرّس في إعداديَّة خولَة بنت الأزوَر.. تخرَّجَ في جامعة البصرة ليُعيَّن مُدرّساً في إحدى إعداديّات ناحية المَعقِل ثمَّ في إعداديَّة الجُّمهوريَّة في حيّ الجُّمهوريَّة الشَّعبي.. لَهُ مُواجهاتٌ مُسلَّحة ضدَّ مُرتزقة أمن البعث وماسُمّي بالجَّيش الشَّعبي. اُستشهدَ عندما كَمِنَ لَهُ أزلام مُديريَّة أمن البعث، أثناء قيامه ورفيقه في إحدى جولاته السّريَّة، وكانا راكبيْن درّاجة، فحصلت لهُما مُواجهة مُسلّحة قرب مُستشفى الموانئ.. فقام أوغاد أمن البعث بمُلاحَقة اُمّ إيمان فاضطرّت إلى ترك البيت والمدرسة و الاختفاء والتنقّل سرَّاً مِن مكانٍ لآخر ثمَّ عزَمَت على الانتقام مِنَ الرّابط مع نقيب مُديريَّة أمن البصرة المُجرم (ماجد) الذي يُجند المأجورين للفتك بالأبرياء المُؤمنين، بسبب عيونه السّريَّة وتقاريره الحزبيَّة ازداد عدد ضحايا البصرَة الطَّيّبة التي وَفدَ إليها مِنْ سامرّاء الشُّرطيّ المُعَمِّر «وفيق عبدالله نجم»، وتوَسّطَ لابنه البعثيّ الفاشِل دراسيَّاً “إحسان” ليعمَل رزّامَاً في أحَد مَصارف البصرَة، وبعودَة تسلّط رفاقه حُثالات البعث صيف 1968م توَسَّط بدَورِهِ لشَقيقِه الأصغر مِنه “غسّان” مولود عام 1947م الرّاسب في مدرَسة نظران على نهر العشّار يذهب إليها على درّاجتِه الهوائِيَّة بَدءً مِن مُديريَّة أمن البعث على نهر العشّار حتى دَخلَ دورَة حزبيَّة سَريعة ليعمَل في مُديريَّة أمن البعث مع شقيقه المُجرم “عبدالله”، لانتهاك حرائِر البصرَة الطَّيّبة واتسعت مساحة الحزن في أزقّة المدينة.. حيث كان للأشقاء الأشقياء دور هام لام في رصد الدُّعاة والغدر بهم.. فكثيرٌ هم الذين وقعوا صرعى غدرهم الذي استمرأَ الرَّذيلَة، غسّان هذا كانَ يُجاهِر بأنّه مِن مُرتادي مَبغى شارع بشار على طريق مدرَسته قبلَ رُسوبه ثمَّ أسَّسَ حزب البعث حيّ الطّرب الغجر بعدَ محطَّة تلفزيون البصرَة التي جعلَ البعث إحسان الرَّزام مُديرَاً لِلعَقد الأوَّل مِن زَمَن عودَة تسلّط البعث حتى جَعلَ اللهُ كيدهم بينهم وقلَب لَهُم رفيقهم صدّام، ظَهر المِجَن.. وكان الشَّهيد الأُستاذ عبدالأمير (أبو إيمان).. أحد ضحايا غدرِهم، وكانَ مِنهُم أيضاً الرَّفيق سلام مُدير إعداديَّة الجُّمهوريَّة للبنين في حيّ الجُّمهوريَّة.. انحَدَرَ مع شرطيّ ما سُمّيَ مَجازَاً وتجاوزَاً بدور الثقافة الجَّماهيريَّة أبُ فراس من قضاء القرنة إلى المديْنة.. عضو قيادَة فرقة في تنظيمات حزب البعث/ فرع البصرة.. مُجرم تحوَّلَ إلى مَخلب ذئب للحزب ولقوى أمن البعث.. ملأَ حياته آثاماً وصفحاتٍ سوداً.. وظَلَّ يعيث في الأرض فساداً بلا رادع مِن دين أو وازع مِن ضمير. اُمُّ إيمان استمرّت تُحرّض على إيقاظ النخوة في الضَّمائر الحُرّة بعد أن آثَرَ البعض الجُّمود على الحركة؛ بسبب الاعتقالات المُستمرَّة والإعدامات المُتواصلة.. ورُغم رضيعتها لم تتجاوز العاميْن التي فقدت للتوّ أباها.. رأت أنَّ الواجب الشَّرعي يدعوها للعمل بكُلّ وَسعها للتخلص من رجس هذا المُجرم المُتفرعن.. بل رأت جُرحها في زوجها صغير, أمام الجّراح التي نزفت مِن ضحايا أبناء شعبها الذين بذلوا أرواحهم رخيصةً في سبيل مُقدَّسات الوَطن.. فلم يبقَ أَمَامَها إلّا طريق واحد للاقتصاص من هذا المُجرم.. بحملِها السِّلاح لوَحدِها وتقتلهُ بيدِها. فاختارت وقت التنفيذ آنَ يكون الطَّلبة في صفوفهم.. وهذا هو الوقت يوشك على اقتراب الفرصة الفاصلة للدَّروس.. تقدّمت نحو المُدير وقطعت حديثه قائِلَة:
– عفواً أستاذ, جئتُ البارحة بخصوص نقل ابني لمدرستكم و…
– قاطَعَها بتهجُّم واستعلاء:
– أي نقل؟!
– بالأمس جئت وقلتَ لي تعالي غداً ومعك المستمسكات.
– صحيح.. صحيح, تذكّرت.. وأين المستمسكات؟
– حاضر أستاذ.. ها هي.
نَظَرَتْ الأستاذة سميرة إلى المعاون, فلم تجد عنده رغبةً أو أمَلاً للخروج.. فَدَسَّتْ يدها في حقيبتها الصغيرة بكلِّ هدوءٍ وسَكينةٍ, ثم أخرَجَتْ المسدس وصوّبتهُ نحو رأس المدير.
فَغَرَ المديرُ فاهُ اندهاشاً, واحتقنت عيناه رُعباً من وقع المفاجأة.. فحاوَلَ بحركة جنونية القيام عن كُرسيّه, فقد كان مذعوراً.
– إجلس في مكانك ولا تتحرك, وإلّا أفرغت الرصاص في رأسك.
– أختي (شنو) القضية, أكيد (أكو) اشتباه؟!
– لا, لا يوجد اشتباه رفيق (سلام)..
– مَنْ أَنتِ؟
– أنا زوجة الأستاذ (عبد الأمير).
– أستاذ عبد الأمير!! المدرّس الذي مات قبل أشهُر؟
– نعم.. أستاذ عبد الأمير, المدرّس الذي قُتِلَ بسبب غدركم وشرّكم.
نَظَرَ إليها بحقدٍ دفين, وقال:
– أنـ .. أنتِ الأستاذة سميرة!!
– نعم, أنا الأستاذة سميرة.
حاوَلَ المعاون -الذي ما زال فاغراً فاهُ متسمِّراً في مكانه- أن ينزلق نحو الباب, لكنها مَنَعَتهُ وأجبرتهُ على البقاء في مكانه دون حراك.
حَدَّقَ المدير المجرم في وجهها بغضبٍ وخوفٍ شديديْن.. ثم صار يتوسل بها:
– أختي.. آنه عندي أطفال.. عندي عائلة و…
– وهل الذين غَدَرتَ بهم ليس لديهم أطفال أو زوجات!
– أنا لا علاقة لي بما حَدَثَ لزوجك.
– وأنا هنا لا لأجل الثأر لزوجي فحسب.. بل لكلِّ الأبرياء الذين غَدَرتَ بهم, ولكلِّ الأرامل اللاتي فَتَكتَ بأعزائهن.
صَرَخَ المعاون متوسلاً وموضّحاً أنه بريء من تلك الدماء, ولا علاقة له بأمر زوجها والآخرين.
ظَرَتْ إليه برفق, وطَمأَنَتْهُ أنَّ الأمر لا يعنيه.
قد يتخيّل المرء مدى الرعب والهلع الذي أصاب المدير المجرم, هذا القرد المستأسِد.
اقترَبَتْ البطلة (أمُّ إيمان) من المجرم أكثر, والمسدس ما زال مصَوَّباً نحو رأسه, وصرَخَتْ في وجهِه:
– أيها المجرم الجبان, أحسبت أن تنجو من غدرك اللئيم.. خُذ جزاءك بالدنيا, ولَعذاب الآخرة أمضى وأشد.
وأجهَزَتْ عليه, مصوّبةً الإطلاقة إلى رأسه.. بَيْدَ أنه وفي تلك اللحظة أخذَ الخوف والرعب منه مأخذاً.. فلم يستطع مواجهة المشهد.. فاستدارَ صارخاً متوسلاً محاولاً الهرب.. فاستقرّت الرصاصة في أسفل رقبته, لتحمل له تذكرة جهنم ثمناً لدماء المؤمنين.. فكانت الإصابة ٌقاتلة ومُميتة.. فسقطً مُضرَّجاً بدمه.. فأجهَزَتْ عليه بالطلقة الثانية.. لكنَّ الرصاصة حُشِرَت في رئة المسدس ولم تخرج من الفوهة!!
فخرجت البطلة (أمُّ إيمان) من إدارة المدرسة بحشمةٍ ووقارٍ.. ثم قَطَعَتْ باحة المدرسة بخُطى سريعة.. بَيْدَ أنَّ صوت الإطلاقة وصراخ المعاون, جَعَلَ عدداً من الطلبة يركضون خلفها وهم يصرخون: (خمينية, خمينية.. قتلت المدير الخمينية!!).
مَثّلوا بالفاضلة (أمُّ إيمان) بصورة تعفُّ عنها حتى الحيوانات.. وكان (مهدي الدليمي) في طليعتهم!.. كان يضربها بالعصا (التوثية) حتى يُغمى عليها.. فيرميها في الماء البارد, ثم يعاود ضربها.. حاوَلَ استنزاف قواها بآلاته الوحشية البربرية, ودون مراعاة لأيِّ بقيةٍ من الخُلُق الآدمي.
يأتون بها من غرفة التعذيب متهالكة.. فيرمونها على أرض الزنزانة الباردة, التي أغرقوها بالماء البارد -رغم برد الشتاء القارس- بحجّة محاولة إفاقتها واسترداد وعيها من أثر الغيبوبة وإغماء التعذيب.. وتُترك بلا أدنى غطاء.. فكان صمودها أسطوريا.. فهي لم ولن تكشف عن أسرارها وأسماء المقرّبات منها, ولا عن رفاق زوجها أبداً.
أمضتْ سميرة في (الموقف) أكثر من أحدَ عشر شهراً.. وفي صباح يوم شتوي, نقلوها إلى ما يسمّى بمحكمة أمن الثورة العسكرية.. لتحكم عليها بالإعدام شنقاً حتى الموت؛ لمحاولتها القتل مع سبق الإصرار والترصّد؛ ولانتمائها إلى حزب الدعوة الإسلامية.
راجع: شهيدات العراق, عبدالهادي الركابي, إصدار مؤسسة الشهداء, رئاسة الوزراء
مذكرات سجينة: علي العراقي؛ وفاطمة العراقي, مج1, إصدار المركز الوثائقي لشهداء الحركة الإسلامية في العراق.