الحشد العاطفي الكبير الذي تمارسه وسائل الاعلام باتجاه ثورة الحسين والمجزرة التي وقعت عام 60 هجرية في العراق الحالي تبحث عن متنفس سواء واقعي او مما يتم صناعته في المخيلة الشعبية المعاصرة . الهجوم الهمجي على شركة بتروناس في مدينة الرفاعي في الجنوب العراقي اتت كنموذج لمثل هذا المتنفس.
وسائل الاعلام التي تمارس هذا التحشيد العاطفي والطائفي في آن واحد تحولت الى اكثر من وسائل اعلام ففي ضل نكوص المجتمع الى الثقافة الشفاهية بدل المكتوبة او تلك التي تستخدم الفن كأداة للتعبير ذو كثافة عالية من المعاني فأن وسائل الاعلام تتحول الى مصدر وحيد ويتيم للثقافة المتداولة بدورها بشكل شفاهي في معظم الاحيان مع استخدام مشوه لتقنيات حديثة من الفضائيات او من قبيل تبادل ملفات الصوت والصورة بطريقة البلوتوث او الانترنيت او الاذاعة .لذلك تم استخدام التقنيات تلك لضخ كميات هائلة من التفاهات والتحريضات العنصرية واغرب الافكار الطائفية او المغرقة في التطرف والدوران حول الذات في عدد محدود من الافكار لا تتعدى تقديس شخصيات تاريخية لا يعرف عنها اكثر من بضع صفحات فيما يتم انتاج المئات من الخطب والكلمات وقصائد الشعر وكتيبات وكراريس تطبع بغزارة وبانواع واحجام مختلفة بالإضافة الى الالاف من المنتجات الصوتية والصورية والاهازيج ” الردحية ” التي يصعب اكتشاف ملامحها هل هي اغاني هابطة وفاشلة ام هي اهازيج شعبية بدائية تسمى تارة بالابتهالات او المواليد او الصدريات نسبة الى التيار الصدري الذي اخذ على عاتقه انتاج الالاف من هذه المقطوعات عديمة الطعم واللون والرائحة الا من التحشيد العاطفي باتجاه تحول الكون اكله الى صنفين محب للحسين و أهل بيت محمد او مبغضين لهم يجب الانتقام منهم .
ولأنني لا اود الخوض في تفاصيل مصادر تمويل هذا الكم الهائل من المنتجات الثقافية المشوهة لأننني اعتقد ان معظم المتعاطين مع هذه الثقافة هم ادوات انتاجية فيها يتم استخدامهم فيها ومن ثم الى منتجين لها وصولا الى تحويلهم احيانا الى ممولين لها ضمن معادلة على مستوى قليل من التعقيد , فأنني سأكتفي بمحاولة تصوير ما اصبح اشبه بالحصار المحكم من الداخل لمعرفة مدى قباحة المخلوقات التي يتم انتجاها داخل الاسوار القر وسطية تلك . فمنذ سقوط النظام السابق تحول الوضع الاجتماعي في مدن الجنوب العراقي التي عمل النظام الديكتاتوري السابق على تصحيرها ثقافيا الى الاصابة بنوبة هستيرية مازالت تتصاعد وتتعاظم بفعل مرور المنطقة برمتها في تحشيد طائفي وأن كان بنسبة اقل لا ثبات الذات طائفيا بالإضافة الى دور ايران في اعادة ترسيخ الطائفية وضمان بقاء زمام الامور في العراق بيد الاحزاب الشيعية .
كل ما كان ممنوعا ايام البعث اصبح مرغوبا بل وضرورة واخذت قضية التشيع ومحورها القضية الحسينية تأخذ مساحة في حياة المواطن العراقي خاصة في محافظات وسط الجنوب العراق الشيعية اكثر من اي مكون اخر يشارك في تكوين الشخصية الشيعية العراقية. .
في مدينة مثل الناصرية جنوب العراق المدينة التي وقع فيها الهجوم على شركة ماليزية يٌدعى انها نظمت حفلا بمناسبة مقتل الحسين , هناك حوالي خمس اذاعات محلية تبث وعلى مدار الساعة تقريبا برامجاً شبيهه ببعض حد الاستنساخ كلها تتحدث ولفترات طويلة من العام عن الامام الحسين وعلي واولادهما ويعاد اجترار الاحاديث بطرق مختلفة ومكررة بطريقة فجة تفتقد الى اي مذاق ابداعي , شعر ديني ومحاضرات دينية وابتهالات دينية لاحظ ان كل ما يتم بثه تحت عنوان ثقافي هو في الحقيقة ” ديني ” وتقريبا كل ديني هو في الحقيقة ” طائفي ” وان لم يٌقصد ذلك بالضرورة .
كل الاحزاب العاملة في المحافظة دينية شيعية وكل الفعاليات الثقافية هي دينية المدارس والمستشفيات والكازينوهات والمقاهي والنوادي الرياضية كلها بصورة واخرى تشارك في هذا التحشيد الديني التلفزيون المحلي الوحيد في المدينة تابع لحزب المجلس الاعلى الاسلامي , العدد القليل من الصحف التي تطبع بشكل متقطع وغير منتظم كلها تابعة لجهات اما دينية او انها تجامل تلك الاحزاب والدوائر الدينية .
تُنظم العشرات من الفعاليات الثقافية والفنية كلها تقريبا دينية وتتكاثر بشكل ملفت للانتباه في شهري محرم وصفر , أسماء الشوارع والمدارس كلها تتحول وبشكل تدريجي الى أم البنين او عابس او عباس او الغدير او الكوثر وفدك وابو طالب والعشرات من الاسماء الاخرى التي تشير بشكل مباشر او غير مباشر الى قضية الشيعة واهل البيت لا اكثر .
اختصار الحياة في قضية حب او عداء اهل البيت وحصر الانسان في زاوية التحفز لقضية مظلومية الحسين تتطلب ايجاد اعداء او توهمهم ان تطلب الامر .
ضمن السياق اعلاه يصبح مشهد الهجوم الذي تعرض له مقر شركة بتروناس في الناصرية منطقي جداً. نظرا لبشاعة البيئة الثقافية التي ساهم في بنائها انصاف المتعلمين من الساسة العراقيين والمؤسسة الدينية المتقوقعة على علوم عفى عليها الزمن تقتات على جهل الجماهير و الحفاظ على وجودهم ضمن حضيرة الدين والمذهب وتقديس الغيبيات التي يحتفظ علماء الدين بالارتباط بها ما تمنحهم قدسية تتصاعد خاصة بعد وفاة أحد هؤلاء العلماء فشهيد المحراب كما يسميه اتباعه لم يحظى بكل هذا التقدير الا بعد وفاته فتم بناء شخصيته من جديد بالتعاون بين الساسة الذين تخلوا عن معاداته والتقليل من شأنه من الاحزاب الباقية ومن الساسة الذين ارتدوا جلباب الدين وهم بحاجة بين الفينة والاخرى لإنتاج شخصيات مقدسة تعطي الزخم المطلوب للحشود المنومة .
الشهيد الصدر الاول والثاني وشهيد المحراب ثم عزيز العراق كلهم لم يحظوا بكل هذا التقديس الذي يزداد بمرور الزمن ويكبر ككرة ثلج تتدحرج من اعلى قمة التناقضات والعقد النفسية التي تعصف بشخصية العراقي الشيعي . لم تلبث ان تحولت الى اعمدة تحمل سقف الشخصية العراقية التي لا تعدو كونها كوما من الايمان بغيبيات لا يحفل بها العالم وتثير شفقته اكثر من قلقه .
لابد من وجود ثمة متنفس لكل هذا التحفيز الطائفي الحزن على مقتل الحسين لابد ان يتحول الى غضب يبحث عن موضوع حتى لو كان شركة ماليزية تحتفل بمناسبة تصادف وانها في محرم !
حشود غاضبة يشكل المراهقين السواد الاكثر منها يغطي معظمهم التراب والطين من شوارع الرفاعي الآسنة يحمل البعض منهم هراوات والاخر عصي فيما تسلح بعضهم الاخر لا يكاد اكثرهم يفقه من الدين اكثر من ان يزيد قتل الحسين حفيد محمد وان العباس نصر اخاه الحسين وتخلى عن الماء اكراما لعطش اخيه يتقدمهم شيخ بثياب مهلهلة يعيش هواجس القتال الى جانب الحسين في معركة الطف تجمع المراهقين خلفه غذى تلك الحالة الهستيرية التي انتجته ليعيد انتاجها بدوره ويتحول الى مسخ يبحث عن مسوغ لتفريغ حقده على قتلة الحسين الذين لا ينتمون بالضرورة الى عالم اليوم فقد رحلوا مع التاريخ واكل الدهر عليهم وشرب الامر الذي كان يعيه في بادئ الامر ولكن تم قمعه من خلال الاصرار على ترديد شعارات من قبيل خلود ثورة الحسين التي تم تحويلها الى معيشة عصر الحسين ويزيد
وعيشها بكل ما تحمل الكلمة من معنى هو اقرب للكارثة منه للحياة فهي تصنع جدارا وهميا هائلا بينه وبين الحياة التي يعيشها باقي البشر ابناء القرن الواحد والعشرين فيما يعيش الانسان العراقي الخرب من الداخل والاجوف ثقافيا بفعل ما اسميناه تحويل وسائل الاعلام الى ادوات تثقيف بديلة عن الكتاب والمدرسة , يعيش او يتم حثه من خلال المؤسسة الدينية على ان يعيش على انه انسان من القرن الاول الهجري او السادس الميلادي !
غزوة الرفاعي او غزوة بتروناس لا تختلف بشكل جوهري عن اي غزوة يقوم بها اعرابي ايام الجاهلية وما يثير استغرابنا حتى الان انه لم يتم اقامة “فرهود” جاهلي على شرف هذه الغزوة الغانمة .