تتميز مفاهيم العمل السياسي في بلدان الشرق الأوسط عموما وفي العراق بشكل خاص, بتأثرها برواسب استبدادية عميقة, تشكل جوهر التحرك السلوكي لكل الفواعل المؤثرة في العمل والفعل السياسي, بالإضافة إلى أن تجذّر النفس الاستبدادي في الطبيعة الغالبة للشخصية العراقية, قادها لتوظيف كل أدوات العمل السياسي, من أجل إبقاء أطر السيطرة والثبات والديمومة لوجوداتها السياسية, فإدامة الوجود السياسي في عملية أو مفصل من مفاصل الحياة السياسية, يعد من أهم العوامل الخفية التي تظهر رواسب تلك الاستبدادية.
يمكننا تقسيم المواطن السياسي (الفرد) إلى ثلاثة أنماط:
النمط الأول, هو الذي يسير بوعي سياسي مراقب للحدث (وقد يكون وعيا مضللا إعلاميا “أصحاب الصنمية كنموذج لهم”, وقد يكون وعياً صحيحا يسير بخطوات تحليل واعية), هذا النوع أغلبه يكون مندمجا في فعاليات سياسية, كأن تكون تأييده لحزب سياسي معين, أو انتمائه لتيار سياسي, حيث أن الاقتراب من فواعل السياسة (الأحزاب أو أي نشاط سياسي تابع لمؤسسات سياسية أو منظمات مدنية) يتيح للمنتمي أن يحصل على كم هائل من المعلومات السياسية, والتي تخلق له وعيا واضحا بالحدث السياسي.
النمط الثاني هو النوع الذي يكتفي بالمراقبة العابرة, والذي تتحكم به نزعات مناطقية أو فئوية أو عشائرية, أو توجهات دينية مذهبية معينة, وهذا النوع عادة ينقاد لأحداث يتم توظيفها سياسيا في مصب ما يؤمن به أو يعتقد به, فالجهة التي تنجح في امتلاك أدوات التواصل الاجتماعي مع هذه الجهات, ستتمكن من السيطرة بسهل ويسر على هذا النوع وهذا النمط من المواطنين.
النمط الثالث, هو النمط الذي تحركه أدوات التضليل الإعلامي والسياسي, التي يتم تصديرها إلى مرافق الحياة العامة, هذا النوع يمكن أن نطلق عليه مواطن الأسواق والساحات العامة, وفلسفة الأسواق في تنشئة الفرد تنشئة بثقافة وذائقة انتخابية محددة, غالبا ما تكون طاغية وقوية, إذ أنها غالبا ما تملك مساحة الوقت والتأثير وأدوات الإقناع البسيطة السهلة, ما يمكنها من التأثير على قطاعات اجتماعية واسعة, وهي في عرف مفاعيل التأثير السياسي, تعتبر من أصعب الأنواع للتعاطي معها, لأنها عادة ما يتم التأثير عليها بقوة المال أو السطوة أو قوة امتلاك أدوات السلطة ومنافعها, ويصعب التعامل معها من خلال الاعتماد على وعيها بمشروع سياسي واعد.
أغلب التيارات السياسية تحاول جاهدة التفاعل مع النمط الثاني (إلى حد ما), والنمط الثالث بقوة كبيرة؛ يحاول تيار الحكمة الوطني أن يشتمل وجوده السياسي, الاشتغال على الأنماط الثلاثة, لأن فقدان الأحزاب والتيارات السياسية للنمط الأول, يُعد نوعا من أنواع التجهيل المغلف بظلامية في سيرة أي تيار سياسي؛ كما يحاول تيار الحكمة الاشتغال بقوة ووعي على النمط الثالث (محاولا وبأدواته الإعلامية والاجتماعية والوجاهية, إقناع أصحاب هذا النمط بمشروع سياسي- دون اللجوء لإعطاء الوعود الذهبية النفعية, لأن عدم صدقه في تطبيقها في المستقبل, سينهي وجوده, كما حصل للكثير من الكيانات)؛ التعالي على النمط الثالث, وحبس الذات التيارية بحصون النخبوية, يؤدي إلى ابتعادها عن طبقات وشرائح واسعة من المجتمع العراقي, تمثل الأغلبية الكبيرة منه.
تعد العملية الانتخابية في بلد كالعراق عملية مهمة جدا, لأن فلسفة ديمومة الديمقراطية وعملية صنع السياسة من قبل الناخبين, هي الوريد الوحيد الذي يغذي هذه الديمقراطية ويجذر وجودها, وواهم جدا من يعتقد أن ترك الانتخابات والامتناع عن التصويت سيحسن وضعا, أو يقلب معادلة, أو ينهي ظلما؛ على العكس من ذلك تماما, فالامتناع عن المشاركة, سيرسخ بقاء المفسدين, وسيعمد إلى إضعاف أي عملية إصلاح يمكن إقامتها, وسيفسح المجال لمن امتلك أموال السلطة, وأدوات التأثير الإداري والحكومي فيها, أن يؤثر بها على النوع الثالث في التقسيم أعلاه, لكي يحصد وبسهولة ويسر اكبر عدد من الأصوات التي تمكنه من البقاء مخلّدا في موقعه.
*دكتوراه في النظرية السياسية/ المدرسة السلوكية الأمريكية المعاصرة في السياسة.