وهو يلقي بالتحية على البياتي كانت تقاطيع وجهه تحمل كل طيبة أهل العراق وكل مرارة المنفى وخساراته وفقدانه ، انه الشاعر جمعة الحلفي الذي جاء من دمشق الى عمّان ليوصل رسالة وزارة الثقافة السورية الى البياتي في رغبتهم بإنتقال البياتي من عمّان الى دمشق كان ذلك في صيف عام 1998 ، وبعد منتصف الليل من سهرتنا كان علي السوداني يحمل نسخاً من كتابه الجديد ليغتنم الفرصة ويكتب اهداءه الى جمعة اللامي ! ضحكنا جميعا وحاول السوداني تصحيح الاهداء إلا ان جمعة الحلفي رفض وقال من الجميل ان يكون معنا جمعة اللامي عبر الإهداء .
وفي آخر الليل خيَّرهُ البياتي في ان نحجز له فندقاً في أي مكان يحب ، لكنه رفض ذلك وفضل ان يذهب معي الى غرفتنا في جبل الحسين والتي تطل على قلعة هرقل بعمّان فكان ثمة حسب الشيخ جعفر ود علي عباس علوان واسماء كثيرة اخرى ، فرح الحلفي بلقاء هؤلاء الاصدقاء من الادباء الذي فارقهم منذ عقدين من الزمن لنبقى الى ساعات الصباح الاولى وعندما أدركه التعب جهزتُ له سريري الخشبي الذي يأخذ ركناً من أركان الغرفة إلا ان ( البق ! ) لم يتركه يهنىء بالنوم وهكذا بقي جمعة الحلفي بدون نوم بسبب جيوش البق التي دائماً ما تهاجم الفقراء أيام الصيف .
في اليوم التالي أصطحبته الى مقهى السنترال ليلتقي ببعض الاصدقاء ثم أوصلته الى مجمع العبدلي ليستقل سيارة الدوج التي توصله الى دمشق حيث يقيم ، لقد ترك لنا في زيارته الخاطفة لعمّان عطره الدافىء وروحه الطيبة وابتسامته الخجولة . وبعد سنوات قليلة سقط النظام في العراق وعاد جمعة الحلفي الى وطنه الذي كان يحلم بالعودة إليه ،كنت أتابع نشاطه الاعلامي والثقافي لكن لم تسمح الفرصة لي بلقائه خلال سفراتي القليلة الى بغداد إلا في آخر زيارة لي والتي كانت عام 2014 عندما كنا نجلس في مقهى رضا علوان وألقيت عليه التحية لكنه لم يعرفني إلا بعد ان همست باذنه حتى قام وهو يعانقني بشوق وطيبة ، وعلى الفور تذكر تلك السهرة مع البياتي وجيوش البق التي حرمته من المنام في عمّان !
كان جمعة الحلفي شاعرا يحمل هموم الوطن ويحمل أحزان الناس الى جانب احزانه وهمومه ومعاناته وكانت أحزانه وجروحه لا تعد ولا تحصى كما يقول في واحدة من قصائده الجميلة التي غنت كموال من قبل العديد من المطربين الكبار في أوآخر العقد السبعين فيقول :
إحزر جم جرح بالروح ؟
والله اجروحي لو تعرف عددهن
جا كلت … بوياي
بس انت الصدك مجروح !
كان جمعة الحلفي يحلم بوطن حر وشعب سعيد منذ بدايات شبابه الأولى ، لكن الرياح كانت تسير عكس ما تشتهي السفن ، فالوطن الذي أسمه العراق ظل ساحة نضال مستمرة وابنائه مشاريع استشهاد وضحايا للارهاب ! او الموت كمداً على هذا الوطن الجريح الذي كان وظل ومازال مضرجا بدماء ابنائه الذين لم يعرفوا الراحة والعيش بسلام منذ عقود من الزمن المّر . لقد أدرك جمعة الحلفي المرض على عجل ولم يمهله إلا القليل من الوقت ليغادرنا هذه الايام بطريقة مؤلمة صدمت محبه .
لترقد روحك بسلام ابا زينه الطيب
لترقد روحك بسلام ايها الشاعر والمناضل …