كمقدمة لتوضيح المنهج الجديد في تفسير النص، نستعرض ما ذكره علماء الأصول في بيان الدلالة التصديقية، فهناك مرادان للمتكلم من منطوق الخطاب، أحدهما المراد الاستعمالي والآخر المراد الجدّي، أو الإرادة الاستعمالية والإرادة الجدية، فربّما يتكلم إنسان ويكون مراده من كلامه هو المعاني المستعملة لهذه الألفاظ والكلمات، فيقول مثلاً: أنا عطشان ويريد من هذه الجملة بيان حالته الشخصية وإخبار الطرف المقابل بهذه الحقيقة فقط، وهذا هو المراد الاستعمالي، أي يستعمل اللفظ في ما وضع له من معنى، وتارة أخرى ينطق بهذه الجملة ويريد منها معنى آخر ليس المعنى الخبري المتقدم، بأن يريد أن يوحي إلى المخاطب، كأن يكون إبنه أو خادمه، بأن يأتي له بالماء، فهنا قد ينطق المتكلم بجملة خبرية: «أنا عطشان» إلاّ أنّ مراده الجدي جملة إنشائية وهي: «إذهب وائتني بالماء»، ومعلوم أنّ الجملة الإنشائية لا يحتمل فيها الصدق أو الكذب، بخلاف الجملة الخبرية، فلو كان المراد هو الأول وهو الإخبار فقط أمكن أن تكون الجملة صادقة فيما إذا طابقت الواقع، أو كاذبة فيما إذا لم تتطابق مع الواقع، وإن كان المقصود هو المراد الجدي، فلا معنى لوصف الجملة المذكورة بالصدق أو الكذب، لأنّ مقصوده من الأساس لم يكن الإخبار بل الإنشاء، وإن جاء به بصيغة الجملة الخبرية.
والانصاف أنّ الكثير من محاوراتنا العرفية ـ إن لم يكن الأكثر ـ تنحو هذا المنحى، فنرى المتكلم يتحدث بشيء ويقصد منه شيئاً آخر، أو لا يقصد منه شيئاً، مثلاً في اللقاء بين شخصين نرى أنّ كل واحد منهما يتحدث بكلمات خاصة لا يقصد منها معناها الحقيقي بل يعبّر عن شعوره الباطني فقط فيقول مثلاً: (سلام عليكم كيف الحال والمزاج، كيف حال الأهل والأطفال، الحمد الله، الله يحفظك ويرعاك و..)، ثم لا ينتظر أن يجيبه الطرف المقابل عن هذه الأسئلة، ولا يقصد من دعائه له، الدعاء بالمعنى الحقيقي مع توجه القلب إلى الله تعالى، ولا يقال عن هذا الكلام بأنّه لغو، لأنّ المقصود منه شيء آخر غير معاني الألفاظ والكلمات المستعملة في هذه الجمل.
ومثال آخر: أن يقوم بعض الباعة المتجولين (في بغداد أيّام حكم صدام حسين) بكتابة شعار خاص على لوحة «عاش صدام» ويضع هذه اللوحة أمام بضاعته، فهنا المراد الاستعمالي لهذه الجملة شيء، والمراد الجدي شيء آخر، لأنّ هذا البائع عندما خط هذه الجملة لم يقصد المعنى المراد من الكلمات، وربّما كان يكره صداماً وحكومته، بل كان يريد أن يقول: «أريد أن أعيش» فهو يوحي بهذا الشعار للشرطة ورجال الأمن والمخابرات بأنني إنسان مسالم ومن المؤيدين للقائد الضرورة، فدعوني أعيش ولا تتعرضوا لي بسوء.
والزوجة كثيراً ما تشكو متبرمة من زوجها وأنّه مقصر في مسؤوليته وتعدد له بعض سيئاته، ولكن الزوج لا يرى في كلامها وفي سلوكه ما يبعث على الشكوى والتبرم، بل يرى أنّ كلام زوجته غير منطقي في حين أنّ هذه الزوجة عندما تتحدث عن شيء، فإنّها تريد شيئاً آخر، أي تريد أن تقول لزوجها: إنني محتاجة للمحبّة والحنان لا أكثر، إلاّ أنّها تصوغ هذا المعنى وهو مردها الجدي، بكلمات ذات معاني أخرى ربّما يتصور الزوج أنّ كلامها غير منطقي وأنّها تشكو منه بغير حق.
العرفاء والمتصوفة دأبوا على حكاية القصص والأخبار في كتبهم ولم يكن مرادهم من ذلك مجرّد نقل الخبر والحكاية عن وقوعه في الخارج، بل لأخذ العبرة منه، فعندما يتحدث جلال الدين الرومي في ديوانه عن التاجر والببغاء، وكيف أنّ التاجر أراد يوماً السفرإلى الهند، فجاء إلى ببغائه ليودعه، فسأله عن حاجته وما يريده من الهند، فقال الببغاء: لا شيء فقط بلّغ سلامي إلى أهلي وعشرتي هناك.
فلما وصل التاجر إلى غابات الهند، رأى بعض الببغاوات على الأشجار، فقال لهن: إنّ ببغائي يبلغكنّ السلام، وفجأة سقطت الببغاوات ميتة على الأرض، فتعجب التاجر من ذلك، ولما رجع إلى وطنه وجاء إلى بيته سأله الببغاء:
ـ هل بلّغت سلامي إلى أهلي؟
فقال التاجر: نعم، ولكن العجيب أنّهم ماتوا فوراً عند سماعهم هذا الكلام، فوقع هذا الببغاء ميتاً أيضاً، فتعجّب التاجر كثيراً من ذلك، ولم يجد بداً من إخراج الببغاء الميت من القفص وإلقائه خارجاً، ولكن فجأة طار الببغاء وحطّ على شجرة قريبة، فانتبه التاجر إلى هذه الخدعة وسأله عن سلامه إلى أهله،فقال الببغاء: إنّي تعلمت هذه الحيلة من أهلي، فهم قد أوحوا لي بتظاهرهم بالموت، أنّك إذا أرادت الخلاص من السجن والعودة إلى أرض الوطن فعليك أن تموت ليطلقك صاحبك من القفص فتعود إلينا، وهكذا فعلت.
لا أحد منّا يقول: إنّ المولوي كاذب في هذه الحكاية، فالببغاء لا ينطق ولا يفهم مثل هذه الأمور، لأنّ مراد المولوي شيء آخر وقد صاغه بشكل قصة وحكاية، فهو يريد أن يقول: أيّها الإنسان، إذا أردت الرجوع إلى وطنك الأصلي، وهو الجنّة، فعليك أن تميت نفسك وأهواءك وشهواتك ليتسنى لك الخروج من سجن الطبيعة والذات الأنانية والتحرر من قيود النفس الأمارة، فهنا نرى أنّ المراد الجدّي للمولولي شيء آخر وهو مراد إنشائي قام بصياغته بصورة حكاية وقصة تتضمن الإخبار في مدلولها الاستعمالي.
إذا عرفنا ذلك نعود إلى القصص القرآني لنرى أنّ القرآن الكريم يقرّ بهذه
الحقيقة، وهي أنّ مراده من هذه القصص شيء آخر لا مجرّد الإخبار والحكاية عن حادثة واقعت في الخارج، بل أخذ العبرة والدرس منها:
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاُِوْلِي الاَْلْبَابِ…)( ).
(وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)( ).
وفيما نحن فيه نذكر قصّة موت سليمان أو الشهب التي تطرد الجن والشياطين من السماء ونقول: إنّ المراد من ذلك ليس حكاية مضمون الخبر كواقعة تاريخية، لأنّ القرآن ليس كتاب تاريخ ولا كتاب فلسفة أو علم، بل كتاب هداية وموعظة: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)( ).
فالمقصود من الحكاية الاُولى أنّ الجن لا يعلمون الغيب، خلافاً لما كان الكهنة يقولونه للناس الذين كانون يصدقونهم في أخبارهم، فالقرآن الكريم يريد من موت سليمان التأكيد على هذه الحقيقة في ذيل هذه القصة:
(… فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ)( ).
وهكذا الحال في قصّة ارسال الشهب على الشياطين والجن، فالكهنة كانوا يقولون للناس بأننا نستقي علوم الغيب من الجن، الذين يستقون معلوماتهم من الملائكة، وعندما يذكر القرآن هذه القصّة، فإنّ مراده الجدّي هو إبطال هذا الزعم وأنّ الجن ليس لهم طريق إلى عالم الغيب، ولكن البيان وصياغة الخبر جاء بهذه الصورة التي يأنس بها الذهن العربي في ذلك العصر، ونصل إلى قصة الفيل وتصوير معطياتها مع ما تقدم من اشكاليات على الفهم الظاهري لها، فوفقاً لما تقدّم آنفاً من المقصود الجدّي لا ضرورة للالتزام بوقوع مثل هذه الحادثة بتلك التفاصيل، فالمراد الجدّي شيء آخر، وهو أن العرب المشركين كانوا يظنون أن الأصنام كان لها دور في دفع هذا الخطر عن مكة وأهلها، أو أن الله قد دفع هذا الخطر ببركة الاصنام، فجاءت هذه السورة لتدحض هذا التوهم وتحصر السبب بالله تعالى : (أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ…) وهذا هو ما ذهب إليه صاحب تفسير المنار في الكثير من القصص القرآني، كقصة خلق آدم وحواء وسجود الملائكة لآدم واستكبار إبليس واخراجهم من الجنّة، يقول في هذا الصدد:
«ولكون التاريخ غير مقصود له لأنّ مسائله من حيث هي تاريخ ليست من مهمات الدين من حيث هو دين، وإنّما ينظر الدين من التاريخ إلى وجه العبرة دون غيره…»( ).
وأمّا تفسير الآيات على طريقة الخلف في التمثيل فيقال فيه: إنّ القرآن كثيراً ما يصور المعاني بالتعبير عنها بصيغة السؤال والجواب، أو باسلوب الحكاية لما في ذلك من البيان والتأثير، فهو يدعو بها الأذهان، إلى ما وراءها من المعاني (وهو ما أسلفنا من المراد الجدّي) كقوله تعالى:
(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيد)( ).
فليس المراد أنّ الله يستفهم منها وهي تجاوبه، وإنّما هو تمثيل لسعتها
وكونها لا تضيق بالمجرمين مهما كثروا، ونحوه قوله عزّ وجلّ بعدذكر الاستواء على خلق السماء:
(فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)( ).
قال الاستاذ الإمام مثاله: وتقرير التمثيل في القصة على هذا المذهب هكذا: إنّ إخبار الله الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه التي بها قوامه ونظامه لوجود نوع من المخلوقات يتصرف فيها فيكون به كمال الوجود في الأرض، وسؤال الملائكة عن جعل خليفة يفسد في الأرض لأنّه يعمل باختياره ويعطي استعداداً في العلم والعمل لا حدّ لهما في تصوير لما في استعداد الإنسان لذلك وتمهيد لبيان أنّه لا ينافي خلافته في الأرض ـ وتعليم آدم الأسماء كلها بيان لاستعداد الإنسان لعلم كلّ شيء في هذه الأرض وانتفاعه به في استعمارها ـ وعرض الأسماء على الملائكة وسؤالهم عنها وتنصلهم في الجواب تصوير لكون الشعور الذي يصاحب كل روح من الأرواح المدبرة للعوالم محدوداً لا يتعدى وظيفته ـ وسجود الملائكة لآدم عبارة عن تسخير هذه الأرواح والقوى له ينتفع بها في ترقية الكون بمعرفة سنن الله تعالى في ذلك ـ وإباء إبليس واستكباره عن السجود تمثيل لعجز الإنسان عن اخضاع روح الشر وابطال داعية خواطر السوء التي هي مثار التنازع والتخاصم والتعدي والافساد في الأرض…
وأمّا التمثيل فيما نحن فيه منها فيصحّ عليه أن يراد بالجنّة الراحة والنعيم.. ويصحّ أن يراد بآدم نوع الإنسان كما يطلق اسم أبي القبيلة الأكبر على القبيلة..ويصح أن يراد بالشجرة معنى الشرّ والمخالفة…»( ).
وإلى هذا الرأي ذهب صاحب الميزان أيضاً حيث قال في ذيل تفسيره هذه الآيات من سورة البقرة:
«وبالجملة يشبه أن تكون هذه القصة التي قصّها الله تعالى من إسكان آدم وزوجته، ثم إهباطهما لأكل الشجرة كالمثل يمثّل به ما كان الإنسان فيه قبل نزوله إلى الدنيا من السعادة والكرامة بسكونة حظيرة القدس.. ثم إنّه يختار مكانه كل تعب وعناء ومكروه وألم بالميل إلى حياة فانية وجيفة منتنة دانية»( ).